ربطة خبز
بقلم: شامل سفر
أغلق بابَ البيتِ بهدوء كي لا يزعج الجيران، وهو يتمتم بدعاء الخروج من المنزل .. لم ينسَ أن يقول: «يا الله»، وهو يغضُّ بصره .. للبيوت حرمات .. قرأ آية الكرسي، وبدأ المشي .. في الجيب محفظةٌ ليس فيها الكثير، وفي القلب أملٌ بالله لا يخيب .. المستورةُ أحوالهم لا يُقرِضون .. بل يقترضون .. لكن رجاءه كان في ذلك اليوم، كما في كل يوم، أن يُقرِض قَرضاً حسناً .. لا أنْ يُقرِض عبداً مثله .. بل أن يُقرِضَ اللهَ قرضاً حسناً فيضاعفه له .. لكنْ من أين؟! .. جوّاله لم يرن منذ فترة ليست بالقصيرة .. أسعار المواد غالية .. والذي يحتاج إلى إصلاح عطلٍ في الكهرباء لن يتصل .. سيأجل .. سيماطل زوجته .. البطارية ما يزال فيها رمق .. والأمور تمشي .. ببطء، نعم .. لكنها تمشي .. الأعطال الكبيرة لها حِيتانُها .. وأصحابُها أساساً لا يعرفونه .. فغالبية زبائنه من الدراويش أمثاله ... ولمّا كادت نفسه أن تضعف، وبدأت توسوس له أن ينسى موضوعَ القرضِ الحسن هذا .. سَمِعَ الصوتَ المحبب إلى قلبه .. وكأنه إشارةٌ ربّانية أُرسِلَت في الوقت المناسب .. «يا معوِّض يا كريم» .. سَلَّمَ على الدرويش الذي اعتاد أن يسلّم عليه كلما رآه يدفع عربته الصغيرة؛ يلملم فيها الأغراض المرمية، على أمل أن يبيعها، دون أن يسأل الناس .. ويدعو بذلك الدعاء؛ وهو يمدُّ الياءَ بطريقةٍ مميزة .. كأنها صدرت من أعماقِ قلبٍ كسير، لا يطلب الكثير .. الستر فقط .. والسميعُ العليمُ حَيِيٌّ سِتِّير لا يرد يَدَين مُدَّتا .. لا يردُّهما خائبتَين ..
سَلَّمَ صاحبُنا على الدرويش، فَجاءَهُ الرد: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. تفضّل يا حجي .. خلّينا نكسبك اليوم على الفطور» ... تفضّل ! ... إلى أين؟! .. وإلى أي شيء؟! .. أعانكَ اللهُ وأعاننا، وفَرَّجَ عنكَ وعنّا ... لكن ردَّ الدرويش، إذ جاءهُ هكذا، أعادَ شحنَ البطاريةِ مئةً بالمئة .. للقلوبِ شحنٌ من نوعٍ مختلف .. ومصدرُ طاقةٍ من نوعٍ مختلف .. وهي على عكس بطاريات دُنيانا .. إذ كلما تكرر شحنُها طالَ عمرُها .. وارتفع أداؤها.
قرفصتْ سَنواتُ رُكبتَيهِ الخمسون .. التقطَ قشرةَ مَوزٍ مرميةً في الطريق، وألقى بها في الحاوية .. سَلَّمَ على أطفالٍ يلعبون .. ردَّ واحدٌ منهم .. ابتسمَ في وجهِ سيدةٍ مُسِنَّة .. سألها إنْ كانت تريد مساعدة .. دَعَت له .. وقُبَيلَ الفرنِ بقليل، وجدَ قطعةَ ورقٍ طُبِعَت عليها دعايةٌ لمعهدٍ تعليمي .. التقطها .. كان أحدُ أسماءِ المدرّسين مما حُمِّدَ وعُبِّد .. طواها ووضعها في جيبه .. «نحرقها في البيت .. هَداهُم اللهُ وَهَداني» ... اختار من بين بائعي الخبز أمامَ الفرن امرأةً مستورة .. سألَها عن الثمن الذي يعرف .. أجابته: «ربطتان بألفٍ وخمسمئة» .. أخذ واحدةً فقط .. أخرج من المحفظة أربعة آلاف .. طواها وأعطاها للمرأة .. أبقى في المحفظة على خمسمئةٍ وقليل .. وغادر بسرعة .. والمستورةُ تناديه: «يا حجي .. يا أخي .. خذ الباقي» ...
#Shamel_Safar