عندما يصبح الإعلام عبئاً
د. علي محمد فخرو
19/11/2009
لم يبق حقل من حقول النشاطات المجتمعية العربية لم تساهم بعض الوسائل الإعلامية العربية في حرفه عن مساراته الطبيعية أو في جعله ساحة صراعات عبثية أو في قلبه إلى خنجر يزيد من جراحات هذه الأمة المنهكة.
ففي السياسة سمحت تلك الوسائل للعابثين من الساسة المسؤولين العرب لاستعمالها كمطيًّة يركبونها في صراعات الأنظمة بحيث أن تلاسنها مع بعضها البعض يؤجٍّج نيران العداوات بين الأقطار والشعوب العربية لحساب هذا الرئيس أو الزعيم أو الحكومة أو الحزب. وعندما تنقشع سحب المعارك الإعلامية تلك تكون الشعوب وتكون الأوطان هي المسجاة في ساحات القتال وهي تنزف وتتقيًّح. وكذا الأمر في حقل الدٍّين عندما تنبري بعض المنابر لتأجيج الأحقاد الطائفية والعداوات المذهبية التاريخية، بل ولرسم أجواء الكراهية حتى توصل الموتورين إلى ارتكاب موبقات الإرهاب والتطرف الأعمى. وعندما ينجلي غبار المعركة يكون الدٍّين هو الضحيًة، إذ عند ذاك تحت رايات الدين تدور حماقات المعارك التي لا يرضاها الله ولا تصبُّ في صالح الوطن.
وفي حقل الاقتصاد تخضع معايير مهنية تلك الوسائل، وأحياناً صدقيتها وشرفها، لإعتبارات الحاجة للإعلان والخضوع للمعلنين. وبقصد أو بدون قصد تساهم غالبية المنابر في نشر وتعزيز ودعم ثقافة الإستهلاك المادي والمعنوي النًّهم وفي الإنبهار بادٍّعاءات تلك الثقافة العولمية وتقديمها كثقافة اليسر والرفاهية والمكانة الإجتماعية. ومن أجل ذلك تخوض معارك الخصخصة المجنونة دون توازن ولا شروط، وتفتري على المؤسسات الاقتصادية التي يملكها المجتمع باسم التشكيك في كفاءة الدول أو الحكومات في ادارة الإقتصاد، وتساهم من حيث تدري ولاتدري في إنتقال ثروة المواطنين العامة إلى أيادي قلُّّّة وطنية متخمة أو إلى أيادي قلُّة أجنبية ناهبة. وكذا الأمر في حقل الثقافة التي تساهم الكثير من منابر الإعلام في حرفه نحو المجون والسطحية والتخريف وصرعات الموضة وموبقات الجنس لتساهم في تربية أجيال لا تشبع من الملذٌّات الحسيُّة وذلك على حساب توازنها العقلي والروحي وعلى حساب الالتزامات الوطنية والقومية تجاه أمة تخوض أقسى صراعاتها المصيرية مع الهجمة الصهيونيـــــة - الاستعمارية ومع الإستبداد الداخلي.
ويستطيع الإنسان تعداد العشرات من الحقول الأساسية والفرعية التي تساهم بعض الوسائل الإعلامية في قلبها رأساً على عقب وفي تهديم أسسها القيمية والأخلاقية. ومن هذه الحقول الفرعية حقل الرٍّياضة الذي بدلاً من أن يكون حقل بناء للأخوة العربية ولتعارف الأجيال العربية على بعضها البعض ولقبول الانتصارات والهزائم بتسامح قلبته بعض الوسائل الإعلامية وبعض الموتورين الإعلاميين إلى حقل حزازات وكراهية وصدامات كلامية وجسدية. ولقد وصل الحال المأساوي إلى قمًّته في المسرحية الكوميدية _ المبكية عندما تلاقى فريقا كرة القدم الجزائري والمصري. لقد شٌحنت أجواء المسرح حتى الجريمة وتلاعب الأراذل بأعصاب الجماهير حتى أخرجوها من طورها وعروبتها وإسلامها وبشريٌّتها. ومع أن واقع التعامل الإعلامي العالمي برمًّّته مع موضوع الرٍّياضة قد أصبح مصدر فساد وإفساد للمجتمعات والنفوس ونبل الرياضة وقيمها الرفيعة، إلاً أن الأمر يجب أن يختلف في بلاد العرب. فنحن أمُّة مستهدفة من قبل أعداء في الخارج والداخل لتأجيج الصًّراعات القطرية والإثنية والمذهبية والإيديولوجية والقبلية ولإبقاء الأمة في تخلٌّف دائم وفي تيه ثقافي وذهني، وبالتالي فإن الإعلام العربي يحتاج أن يأخذ ذلك الوضع المتأزم للأمة بعين الإعتبار ويعطيه أهمية كبرى تصل إلى حدود المسؤولية الأخلاقية والقومية تجاه التخفيف من مآسيه، لا إضافة الحطب إلى ناره.
إذا كان الاعلام العربي يعتبر نفسه مهنة كباقي المهن فلينظٍّم نفسه، على المستوى الوطني والقومي، على ثوابت وأسس ما ينهض بالأمة وليضع لنفسه معايير صارمة تحكم كل أعضائه ومنتسبيه من المؤسسات. وفي القديم قال الكاتب اليوناني الشهير سوفوكليس بـــأن ' قيمة المعرفة يحدٍّدها اسلوب استخدامها '، ونحن سنستعير هذا القول لنتوجه لوسائل الإعلام العربية بالتذكير بأن ' قيمة الإعلام أيضاً يحدٍّدها أسلوب استخدامه '. ولقد وصلت أساليب الاستخدام عند البعض إلى مشارف العهر وآن الأوان لتوقف عند حدٌها.