بين غزة وتل أبيب حياة وموت
د. فايز أبو شمالة
في غزة بشرٌ، لهم مشاعرٌ إنسانيةٌ قد تكون أكثرَ رقةً وحناناً من مشاعر سكان تل أبيب، فأهل غزة لهم عواطف ناعمة كرمل الشاطئ، ولهم أحاسيس محشوة بالكرامة، يغضبون وهم جائعون، ويخجلون وهم يتكاثرون، ولسكان غزة دموع صافية الحزن، تراهم يضحكون وهم يبكون، وتراهم يقلقون ولا ينزعجون، على خلاف سكان تل أبيب الذين يكرهون الموت، ويفرون منه إلى الملاجئ كلما برز لهم شبح القذيفة.
بين سكان غزة وسكان تل أبيب تصفية حساب، فقد دمر سكان تل أبيب مقومات حياة سكان غزة، وأغلقوا عليهم كل أبواب التطور، وحاربوهم في قوت يومهم، وحسبوا لهم عدد الأنفاس، وقدروا لهم موعد دخول الحمام، وحددوا لهم ساعات السفر، ونوع المرض، وفي الوقت نفسه ساوم سكان تل أبيب سكان غزة على العلاج.
في غزة بشر تعودوا على مواجهة الموت وحدهم، وتعودوا على مواجهة الحزن وحدهم، وتعودوا على البطالة دون أن يلتفت إلى معاناتهم غريب أو قريب، وتعود سكان غزة على إغلاق المعابر، والحصار، ونقص الأشياء، وفي المساء تعود شباب غزة على الجلوس مجموعات صغيرة أمام البيوت، وعلى أحسن تقدير يتم التفاعل عبر صفحات التواصل الاجتماعي، أو السهر على شاطئ البحر، لقد تضاءلت أحلام الفلسطيني في غزة من معانقة الحياة إلى اللهاث خلف مقومات البقاء، والسبب في كل ذلك يرجع إلى وجود اليهودي نفسه في تل أبيب، وإلى المستوى الراقي من الرفاهية الذي يعيش فيه اليهودي على حساب سكان قطاع غزة.
غزة اليوم تخوض حربها ضد تل أبيب، ففي الوقت الذي تطير فيه بيوت غزة مع سكانها في الجو، تطوف صواريخ تل أبيب على حارات غزة، وهي توزع الموت بالتساوي، وفي الوقت الذي تهتز فيه الأرض تحت أقدام غزة، وتمتلئ أجواؤها برائحة البارود، يظل السؤال الذي يشغل بال سكان غزة: هل قصف رجال المقاومة تل أبيب؟
في غزة يخافون الموت، ولكنهم لا يفرون منه، فقد لاقاهم سنة 48 حين صارت تل أبيب عاصمة الدولة، وقد لاقاهم الموت حين أرسلت تل أبيب جيوشها لتحتل غزة سنة 56، ولاقى الموت سكان غزة ثانية سنة 67، فقتلهم، وفرض على من تبقى منهم منع التجول لأيام وأسابيع، لقد حصل كل ذلك العذاب قبل أن تلد حركة حماس، وقبل أن تتعلم غزة طريقة تصدير الصواريخ إلى تل أبيب، الصواريخ التي تمكنت من فرض منع التجول على سكان تل أبيب، بل وأجبرتهم على العيش في الرعب ذاته الذي تعيشه غزة.
وإذا كانت غزة قد تعودت على مواجهة الموت بالصواريخ، فإن تل أبيب المرفهة المدللة الناعمة لم تذق قبل اليوم طعم الموت بالصواريخ، وإذا كانت غزة قد تعودت النوم في حضن القصف، فإن تل أبيب الناعسة لا يمكنها أن تغفو في ظل الخوف من القصف، وإذا كانت غزة قد تعودت الحياة تحت الخيمة، فإن تل أبيب تضيق ذرعاً من الانتظار على بوابات الملاجئ.
النتيجة النهائية للمعركة بين غزة وتل أبيب تقول: سيربح المعركة من يفتش عن الحياة وسط الموت، وسيخسر المعركة من يخشى الموت وسط الحياة.