قصة قصيرة عربي تعدى ...
عربي تعدى ...
السياج ، والجدار ، والحراسة ... لماذا ؟
كانت تتحدى بلطفها تآكل الزمن وطقوسه ، واقفة تضاهي بنسغها الدم وتحادي بيخضورها الروح ، واقفة تترنح على ايقاع النسيم المعلول بحبها وهيبتها ، تتهدهد وتغازل التعاقب على اللباس المدلهم فوق وضم العرض للعرض في هرج الأنوار الكاشفة لكنوز الأسرار، ما أمهرهم في وضع المسحوقات ..
محطة كانت للنظر واشعاعا للهف المشاعر النبيلة ، كانت اللمسة الجميلة التي تضع الفرح وتزيل تعب ذلك الشارع الطويل ، فيها سر الابتهاج ، تعاكس مارته وتصنع مسك ختامه ، تلقن بسمات السلام ، وتهب مفاتيح الراحة عند أبواب التعب ، تضفي تواصل الزمن الربيعي في النفس التواقة للتنافس من أجل الأجمل على معادلة الحظوظ ، ينطلق من محياها نغم الحياة اللعوب ، يكسر الملل لصنع نكهة الاعادة ، ولذة دافع الوهيج المتدفق من عمق الوجدان ، يسعر ، ويزيد في لهب الغرائز الخامدة .. كانت تصور حدة معان الحياة .. كلمت الحق وظفت للباطل .. يصبح عليها الجميع ويمسي ، تتصدر روائع الحديث ، وتنتهي بها الأمثال في أحضان الجلسات الحميمية التي تلهمها لمريديها ، تحضن بكل رفق وحنو بسمة الاعجاب المسترسلة ، تهزم الحزن والغضب ، وتزهر أودية التائهين في عوالم الكلم .. قال عنها الراهب ، انتعاش الروح ، وقال الحاكم بلسم الجروح ، وقال الشاعر أسطورة البوح .. لا شك أن في الأمر سر ..يذكرها كل شيء ، حتى قطرات الندى البلورية التي كانت تسكبها في عسعسة الليل ويكفكفها تنفس الفجر الواعد ، الكل يذكر انحناءها من الضحى الى العصر، أرهقت بتواضعها أنفة الدهر وشموخ الموت وعنفوان القبر في كل صدر ..هكذا كانت ، أبت سخرية الدهر وهي تعبث بأظافر الشر الا أن تزرع الذعر في مقامات الزهر، متطاولة انتزعت لواء التسامح ورمز المحبة ، وألبست المدينة بل الوطن كله رداء السؤال وسخط البال ..
ـ من فعل هذا بجميلتنا ؟ لا يمكن الا أن يكون حيوانا يمشي على اثنين ويأكل بأربعين ..
ـ من اقترف هذه الجريمة في حق النظر، في حق البصر، في حق الانسانية جمعاء والبشر؟ ...
وأنا أقرأ الخبر قلت في نفسي لعلها تكون خبيرة اكتشفت مفعولا يربو رغيف الخبز والحريرة ، أو كيل الأرز أو الذرى أو الشعير حتى ، أو تمر الحميرة ، انشغلت بهذا ورحت أستعظم الخسارة التي منيت بها البشرية في شخص هذه العبقرية ، وراح لساني يلتهم الكلمات في الفراغ كآلة انفصلت عن الجزء الذي يشتغل بها ، وما أيقظني الا صراخ ذلك الطفل في فلسطين ، وأنين الشيوخ والنساء في العراق ، وضحايا المجاعات في افريقيا ، كانت هذه الأصوات خامدة فثارت دفعة واحدة ، فعدت الى الحياة المرة ، وجدت نفسي أجلس في فناء المقهى وحيدا ، منعزلا ، مهلهلا ، أمام فنجان قهوة أصارع آليات لسعات الذباب وهرج الأحباب ، ورائحة البن والتبغ وتعفن الباب ... ما أبشع الحضارات القاهرة .. عدت الى حيث افترق اللسان و الجنان ، أعيد بتركيز أقوى و أكبر وعزيمة مسلسلة قراءة الفقرات التي صنعت ما تبقى من النص وأنا أقول في قرارة اليرقاء التي بدأت تهدل على الأطلال ..كم يحسنون قص الخطاب وتربيع الحساب وخياطة الثياب ..
ـ قال الشاهد : فعلها ذلك الذي جرفه الينا السيل وجاء به السبيل .
قيدوه ، صفعوه ، دفعوه ، ركلوه وفي مركز التحقيق وضعوه .
ـ ما اسمك وما لقبك ولماذا فعلت فعلتك الشنيعة تلك ؟
ـ أنا عاملكم الظريف ، أكنس شوارعكم ، أسقي حدائقكم ، أنظف مصاريف مياهكم الزخمة ، أرمي فضلاتكم ، أنا محرك آلاتكم ومراكبكم ومركباتكم ، مشيد حضارتكم أنا ، أنا أنا ، وأنتم الأنا ..أما هي ، لقد أعجبتني يا سيدي ، فأهديتها لصغيرتي ، وضعتها فوق قبرها رسالة وفاء لذلك الطفل الفلسطيني ، الى أطفال صبرا ، الى كل شهداء البراءة ، شهداء غزة .
ـ هذه هي جريمتك ، جريمة يعاقب عليها القانون في حضارتنا .
ـ ومتى كان الاعجاب جريمة في حق البشرية ؟
ـ دعك ، وقل شيئا آخر
ـ في بلدي يا سيدي ، مثلها هدية الفقير، في بلدي ، يا سيدي ، هي زينة الغدير ومهد الفراشات ووكر للعصافير، في بلدي هي عطر السفير، قطفها حب لطيف ، وتركها حب عنيف .. انكم تهدوننا الرصاص ، وطعنات الخناجر على القرطاس ، ونحن نهديكم العرق على مد الشفق .
ـ بلدكم جحيم ، ، ، هذه الأنانية هي التي تعاقب عليها قوانيننا ... فعلتك تلك جريمة .
ـ كل الأشياء نتقاسمها في بلدي .
ـ قتلت الأمل ، قتلت البسمة ، قتلت الرفق ، قتلت الذوق الجميل .
ـ هذه نباتات ، يا سيدي ...
ـ قلت لك دعك ، كفى فلسفة ، أنتم مفسدون
ـ مثلها يا سيدي ، في بلدي ، فراش في النزهة ، وباقات في مزاهر لبيوت
ـ من أين لكم هذا ؟ ، أنتم مجرد وحوش ، ارهاب ليس لكم من المدنية و التحضر شيء ... لا ثقافة لكم ولا مدنية ، ولا حضارة ... ارحلوا عنا .. ارحلوا عنا .. يهم الرجل بالانصراف ...
ـ لا ، لا ، لا أقصد هذا ، أقول لا تأتوا الينا اطلاقا ، أما وقد جئتم وأرقتمونا ، فيجب علينا الآن تأديبكم ، وترويضكم ، وتربيتكم ، كما تروض أشباهكم
ـ سيدي ، ماذا بعد ...هذه دماؤنا في أنابيبكم ، وعرقنا في شرايينكم ، وأرواحنا عالقة في رقابكم ،... فماذا بعد ؟
ـ رغما عنكم ...لا تصلحوا لشيء .. خذوه .
حينها كانت الصحافة تتزاحم أمام باب المركز ، استنفار عام للأرمدة الاعلامية الغربية ، ووكالات الأنباء تتناقل خبر العربي الذي تعدى وقطف وردة
مختار سعيدي الجزائر
حريتنا في الحلم بركان .. لا يعرف أحد متى يثور.. هكذا نمارس الكتابة