المسحّر شاعر ومطرب الليل




عندما يقبل رمضان يحمل معه عادات رمضانية ممتعة ترتبط بتقاليدنا الشعبية القديمة، وهذه العادات تتصل بالقلوب الهائمة التي تهفو إلى الصلة مع الخالق، لعل من أبرزها قدوم ذلك الفنان المبدع الذي يطربنا بصوته الشجي ويحملنا إلى عوالم زاهية بموسيقاه البديعة، إنه المسحر، أو كما يسميه العامة (المسحراتي).



قبل الإمساك بساعتين يبدأ المسحراتي جولته الليلية في الأحياء الشعبية، فيسحر المكان موقظاً النائمين بصوت أنغام آلته الموسيقية الأصيلة (الطبلة) طبلته بأنغام جميلة وصوته الجميل يصدح بأجمل الكلمات، ومن العبارات المشهورة للمسحرين قولهم:
يا نايم وحد الدايم يا غافي وحد الله
يا نايم وحّد مولاك إللي خلقك ما بينساك
قوموا إلى سحوركم جاء رمضان يزوركم
المسحر لا يتقاضى أجراً عن عمله، لأنه ينتظر أول أيام العيد فيمر بالمنازل منزلاً منزلاً ومعه طبلته المعهودة، حتى إذا ما جاء العيد فيوالي الضرب على طبلته نهار العيد لعهده بالأمس في ليالي رمضان، فيهب له الناس بالمال والهدايا والحلويات ويبادلونه عبارات التهنئة بالعيد السعيد.

المسحّر ووسائل الإعلام
عندما تطورت وسائل التكنولوجيا الحديثة، لم يقبل المسحر بالهزيمة أمام وسائل الإعلام فتحايل عليها واستمر في عمله وذلك عندما جذبت فكرة المسحراتي عدداً كبيراً من الفنانين والشعراء أمثال بيرم التونسي وفؤاد حداد والفنان الراحل سيد مكاوي الذين نجحوا بالفعل في أن ينقلوا المسحراتي من الشارع إلى شاشة التلفزيون وميكروفون الإذاعة ليستخدموا أحدث تقنيات الاتصال في تسحير الناس، وما زالت إلى اليوم بعض أصوات المسحراتية تجوب شوارع بعض الأحياء الشعبية.
والمسحر كثيراً ما يصاحبه طفل صغير أو طفلة ممسكة بمصباح لتضيء له الطريق وهو يردد نداءاته المميزة اصح يا نايم وحد الدايم أو ينطق بالشهادتين بصوت رنيم، ومن طريف ما يذكر أن المسحر كان غالباً ما يقول: «أسعد الله لياليك يا فلان، ويذكر اسم صاحب المنزل الذي يقف أمامه وغالباً ما كان يعرف أسماء جميع الموجودين في المنزل من الرجال ويردد الدعاء لهم واحداً واحداً، ولم يكن يذكر اسم النساء إلا إذا كان بالمنزل فتاة صغيرة لم تتزوج فيقول أسعد الله لياليك يا ست العرايس.
وكان من عادة النسوة في ذلك الوقت أن يضعن قطعة معدنية من النقود ملفوفة داخل ورقة ثم يشعلن أحد أطرافها ويلقين بها إلى المسحراتي الذي يستدل على مكان وجودها ثم يرتفع صوته بالدعاء لأهل المنزل جميعاً ثم يقرأ الفاتحة.
وأحياناً كان يقوم بعملية تسحير الناس بالدق على الأبواب بعصاه دقات منظمة وهو يردد الأدعية.
وفي العصر المملوكي كادت مهنة المسحراتي تختفي تماماً لولا أن الظاهر بيبرس أعادها وعين أناساً مخصوصين من العامة وصغار علماء الدين للقيام بها ليتحول عمل المسحراتي إلى موكب محبب، وخاصة للأطفال الذين تجذبهم أغاني المسحراتي ويسعدون بصوته وطريقة أدائه على الطبلة، وغالباً ما كان هؤلاء الأطفال يحملون الهبات والعطايا التي كان يرسلها الأهل إلى المسحر.

تطور أشكال المسحر
كان المسلمون يعرفون وقت السحور بالأذان، فإذا أذن فلان فهو وقت الطعام وحين يؤذن فلان يكون وقت الإمساك، ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تعددت أساليب إيقاظ الصائمين من أجل السحور وأساليب تنبيه الصائمين، وفي عصر الدولة العباسية، وفي عهد الخليفة المنتصر بالله، يذكر المؤرخون أن والي مصر «عتبة بن إسحاق» لاحظ أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، وليس هناك من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلاً لإيقاظ أهلها وقت السحور، وكان ذلك عام 238هـ، حيث كان يطوف منادياً على الناس، وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمراً لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا على الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الوقت تم تخصيص رجل للقيام بمهمة المسحراتي كان ينادي: «يا أهل الله قوموا تسحروا»، ويدق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.
تطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يد أهل مصر، حيث ابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي ليدق عليها بدلاً من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى «بازة» وهي صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها أثناء تحوّله بالأحياء وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة، ثم تطور الأمر إلى عدة أشخاص معهم طبل بلدي وصاجات برئاسة المسحراتي، ويقومون بغناء أغان خفيفة حيث شارك المسحراتي الشعراء في تأليف الأغاني التي ينادون بها كل ليلة.

نساء مسحراتية
الشرط الأساسي لهذا الموضوع أن تكون المرأة من أصحاب الصوت الرخيم، والشرط الثاني أن تكون معروفة لدى جميع سكان الحي، ففي العصر الطولوني شاركت النساء في عملية التسحير، حيث كانت تقوم المرأة بإنشاد الأناشيد من وراء النافذة شريطة أن تكون معروفة لدى جميع سكان الحي الذي تقطن فيه، وبطبيعة الحال كانت كل امرأة مستيقظة كانت تنادي على جاراتها.
ويبقى المسحر دوماً طقساً ممتعاً من طقوس رمضان البديعة.