أسطورةُ الرّاهب "بَحيرا" في المصادرِ المسيحيّة والإسلاميّة
بقلم سيمون جرجي
Oct 07, 2010
قبلَ البدء بالحديث أرغبُ في التأكيد على أنّ كلامي هنا يتعلّق بمادّة تخضع للبحث والدّراسة، لا للإيمان والنظرة العقائديّة الدينيّة!..فأمّا المصادر العربيّة الإسلاميّة التي أوردتْ قصّته، فنذكر منها "تهذيب السّيرة" لابن هشام (القرن 9 م.)،
وسنن الترمذيّ (القرن 9 م.)،
وتاريخ الطبريّ (القرنان 9 - 10 م.)،
والمسعوديّ في تاريخِه "مروج الذّهب" (القرنان 9 – 10 م.)،
وأبو نُعيم الأصفهانيّ في معرفة الصّحابة (القرنان 10 - 11 م.)،
والمستدرك على الصّحيحين للحاكم النّيسابوريّ (القرنان 10 - 11)،
وما تلاها من كتب السّيرة والحديث والتّاريخ (لم أحصِ جميعَ المصادر، بل عرضتُ أمثلةً عن أهمّها).
ويبدو أنّ الذّكرَ الأقدم له فيها يعود إلى ابن هشام (القرن التاسع الميلاديّ) ونستطيعُ أن نعيدَها إلى أقدم من هذا التاريخ إذا افترضنا أنّ أبا محمّد بن هشام البصريّ كان أمينًا في تهذيبِه لسيرة محمّد كما رواها ابن اسحق في القرن الثّامن الميلاديّ (أي حوالي مئة عام بعد وفاة محمّد، ممّا يطرح تساؤلات عن مدى صدق الرّوايات المنقولة شفاهًا!)..ذكرُ الرّاهب "بَحيرا" ضمن المصادر الإسلاميّة يأتي كشاهد على دعوة محمّد، بعدَ أن التقى به حين رافقَ عمّه أبا طالب في إحدى رحلاته التجاريّة في جنوب بلاد الشّام (بصرى) وعمره حوالي 12 عامًا، فتنبّأ له بشأنٍ عظيم... ومثل هذه الرّوايات تندرج ضمن ما يُسمّى " قصص التّقوى" التي تغذّي إيمان المؤمنين، من خلال تسليطها الضّوء على ما سبق الدّعوة، كنبوءة، أو كرؤيا، أو كحدث... إلخ. وقد جاءَ في تلك المصادر أنَّ الرّاهبَ "بحيرى" (هكذا) كانَ نسطوريًّا (والنّسطوريّة مذهبٌ مسيحيّ)، والتّاريخُ يشهد على أنَّ النّساطرة لم يتواجدوا في تلك المنطقة قطّ، فجنوبُ الشّام بأكملِه كانَ على مذهب اليعاقبة السّريان (الغساسنة)، والعداء بين هذين المذهبين شديدٌ شهير. ومن الملاحظ أنّ هذه المصادر نقلتْ الرّواية الواحد عن الآخر في فترة زمنيّة محدّدة ابتداءً بالقرن التّاسع الميلاديّ وما تلاه..بالنّسبة لاسمِ الرّاهب فقد دارَ سجالٌ فيه، فابنُ هشامٍ وغيرُه من المصادرِ العربيّة الإسلاميّة يلفظُه "بَحِيْرَى"، والمسعوديّ "بُحَيْرَى" بضمّ الباء، وهو الوحيد الذي يذكرُ له اسمًا "سَرْجِسُ" وهوَ "سِرجْيوس" نقلاً عن بعضِ المصادرِ اليونانيّة. بعضُ المُستشرقين من أمثال سبرينجر Sprengerيقولُ إنَّ الاسمَ نبطيٌّ (يعني آراميّ) ومعناه "الزّاهد". أمّا نولدِكِه Nöldeke فيؤكّد على آراميّة الاسم في معناه "المختار" أو "المُنتَخَب". وأعتقد (في رأيي كما جاءَ عندَ الكنديّ) أنَّ "بَحيرا" (بالألف الممدودة لا المقصورة) ليسَ اسمًا، بل صفةً مشتقّة من الجذرِ الآراميِّ "ب ح ر" الذي يعني خَبِرَ، عَلِمَ، امتَحَنَ... إلخ. وقد أُطلِقَت هذه الصّفة على راهبِ "بَصرى" الشّام لتبحّره في العلوم، فقيلَ فيه "بَحيرا" أي "العالِم". وهذه الصّفة تعلي من شأنِه وشأنِ النّبوءة التي قيلت في محمّدٍ. ودليلي في هذا الرّأي (بالإضافة إلى تفسير الكنديّ) أنَّ التّاريخ لم يحفظ لنا أحدًا حملَ هذا الاسم غيرَه!.وهنا أنقلُ إليكم ما جاءَ مِن قصّته في تهذيبِ السّيرة لابنِ هشام (الجزء الأوّل): "قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرًا إلَى الشّامِ، فَلَمّا تَهَيّأَ لِلرّحِيلِ وَأَجْمَعَ الْمَسِيرَ صَبّ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فَرَقّ لَهُ (أَبُو طَالِبٍ) وَقَالَ وَاَللّهِ لَأَخْرُجَنّ بِهِ مَعِي، وَلَا يُفَارِقُنِي، وَلَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا، أَوْ كَمَا قَالَ. فَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ فَلَمّا نَزَلَ الرّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ، [181] وَبِهِمَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ بَحِيرَى فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ وَكَانَ إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصّوْمَعَةِ مُنْذُ قَطّ رَاهِبٌ إلَيْهِ يَصِيرُ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.فَلَمّا نَزَلُوا ذَلِكَ الْعَامَ بِبَحِيرَى وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَمُرّونَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُكَلّمُهُمْ وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ حَتّى كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ. فَلَمّا نَزَلُوا بِهِ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَتِهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَزْعُمُونَ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ يَزْعُمُونَ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ فِي الرّكْبِ حَيْن أَقْبَلُوا، وَغَمَامَةٌ تُظِلّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ. قَالَ ثُمّ أَقْبَلُوا فَنَزَلُوا فِي ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ. فَنَظَرَ إلَى الْغَمَامَةِ حَيْنَ أَظَلّتْ الشّجَرَةُ، وَتَهَصّرَتْ أَغْصَانُ الشّجَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى اسْتَظَلّ تَحْتَهَا. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ بَحِيرَى نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَقَالَ إنّي قَدْ صَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَأَنَا أُحِبّ أَنْ تَحْضُرُوا كُلّكُمْ صَغِيرُكُمْ وَكَبِيرُكُمْ وَعَبْدُكُمْ وَحُرّكُمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاَللّهِ يَا بَحِيرَى إنّ لَك لَشَأْنًا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِنَا، وَقَدْ كُنّا نَمُرّ بِك كَثِيرًا، فَمَا شَأْنُك الْيَوْمَ؟ قَالَ لَهُ بَحِيرَى: صَدَقْتَ قَدْ كَانَ مَا تَقُولُ وَلَكِنّكُمْ ضَيْفٌ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ وَأَصْنَعَ لَكُمْ طَعَامًا فَتَأْكُلُوا مِنْهُ كُلّكُمْ. فَاجْتَمِعُوا إلَيْهِ وَتَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ لِحَدَاثَةِ سِنّهِ فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ الشّجَرَةِ. فَلَمّا نَظَرَ بَحِيرَى فِي الْقَوْمِ لَمْ يَرَ الصّفَةَ الّتِي يَعْرِفُ وَيَجِدُ عِنْدَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا يَتَخَلّفَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي ; قَالُوا لَهُ يَا بَحِيرَى ، مَا تَخَلّفَ عَنْك أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَكَ إلّا غُلَامٌ وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنّا، فَتَخَلّفَ فِي رِحَالِهِمْ فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا، اُدْعُوهُ فَلِيَحْضُرْ هَذَا الطّعَامَ مَعَكُمْ. قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ وَاَللّاتِي وَالْعُزّى، إنْ كَانَ لَلُؤْمٌ بِنَا أَنْ يَتَخَلّفَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَنْ طَعَامٍ مِنْ [182] بَيْنَنَا، ثُمّ قَامَ إلَيْهِ فَاحْتَضَنَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَ الْقَوْمِ. فَلَمّا رَآهُ بَحِيرَى جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا وَيَنْظُرُ إلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ قَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ حَتّى إذَا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَتَفَرّقُوا، قَامَ إلَيْهِ بَحِيرَى، فَقَالَ (لَهُ): يَا غُلَامُ أَسْأَلُك بِحَقّ اللّاتِي وَالْعُزّى إلّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَإِنّمَا قَالَ لَهُ بَحِيرَى ذَلِكَ لِأَنّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا. فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ (لَهُ): لَا تَسْأَلْنِي بِاَللّاتِي وَالْعُزّى، فَوَاَللّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطّ بُغْضَهُمَا، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَى: فَبِاَللّهِ إلّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمّا أَسْأَلُك عَنْهُ فَقَالَ لَهُ سَلْنِي عَمّا بَدَا لَك. فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ فِي نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُخْبِرُهُ فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَى مِنْ صِفَتِهِ ثُمّ نَظَرَ إلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنْ صِفَتِهِ الّتِي عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ مِثْلَ أَثَرِ الْمِحْجَمِ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْك؟ قَالَ ابْنِي. قَالَ لَهُ بَحِيرَى: مَا هُوَ بِابْنِك، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيّا؛ قَالَ فَإِنّهُ ابْنُ أَخِي؛ قَالَ فَمَا فَعَلَ أَبُوهُ؟ قَالَ مَاتَ وَأُمّهُ حُبْلَى بِهِ قَالَ صَدَقْت، فَارْجِعْ بِابْنِ أَخِيك إلَى بَلَدِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ فَوَاَللّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنّهُ شَرّا، فَإِنّهُ كَائِنٌ لَابْنِ أَخِيك هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فَأَسْرِعْ بِهِ إلَى بِلَادِهِ. [183] فَخَرَجَ بِهِ عَمّهُ أَبُو طَالِب ٍ سَرِيعًا حَتّى أَقْدَمَهُ مَكّةَ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشّامِ؛ فَزَعَمُوا فِيمَا رَوَى النّاسُ أَنّ زُرَيْرًا وَتَمّامًا وَدَرِيسًا، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ كَانُوا رَأَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَ مَا رَآهُ بَحِيرَى فِي ذَلِكَ السّفَرِ الّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادُوهُ فَرَدّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى، وَذَكّرَهُمْ اللّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ وَأَنّهُمْ إنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ يَخْلُصُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ وَصَدّقُوهُ بِمَا قَالَ فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ فَشَبّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيّةِ لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ حَتّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا، وَأَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الّتِي تُدَنّسُ الرّجَالَ تَنَزّهًا وَتَكَرّمًا، حَتّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلّا الْأَمِينُ لِمَا جَمَعَ اللّهُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الصّالِحَةِ"..وخارج المصادر العربيّة الإسلاميّة نعثر في التقليد السريانيّ على مجموعة من المخطوطات تتحدّث عن سيرة الرّاهب النسطوريّ "بَحيرا" ولقائه بمحمّد. قامَ أحد المستشرقين Richard Gottheil بدراسة ثلاثة مخطوطات سريانيّة وتحقيق نصوصها وترجمتها إلى الإنجليزيّة مع مقدّمة دراسيّة وافية للأسطورة وما يتعلّق بها، ومقارنة مستفيضة بمخطوطات المؤَلَّف العربيّة، وهذه لائحة بالمخطوطات التي اعتمدَ عليها، السريانيّة:- Ms Sachau 87: مخطوطة حديثة، لكنّها الوحيدة الأكمل، مكتوبة بخطّ سرطو يعقوبيّ، وهي غالبًا نسخة عن مخطوطة قديمة أصليّة. تأثير اللغة العربيّة فيها واضح (في الأسماء، كاسم "محمّد")، وكذلك اللاتينيّة (نادرًا).- Ms Sachau 10: نسخة أقدم من السّابقة غير كاملة، يمكن تقدير تاريخ كتابتها بين القرنين 14 و15. مكتوبة بخطّ سرطو نسطوريّ. تمتاز هذه المخطوطة بحواشٍ موجّهة ضدّ المحمّديّين.- Ms C: وهي خاصّة السيّد أ. يوحنّان مدرّس اللغات الشرقيّة في جامعة كولومبيا Columbia. مخطوطة حديثة مكتوبة بخطّ نسطوريّ دقيق..كما قامَ عبد الأحد ملكي شابو (مطران السّويد للسّريان الأورثوذكس حاليًّا) في رسالة الماجستير التي قدّمها حول هذه الأسطورة، بدراسة مخطوطين آخرين غير ما ذُكرَ أعلاه، أحدهما سريانيّ اُكتشفَ في ديرِ الزّعفران بالقربِ من مدينة ماردين (تركيّا) وهو أقدم من المخطوطات الثّلاثة المذكورة آنفًا والتي اعتمدَ عليها الباحث Richard Gottheil، والآخر "جرشونيّ" (عربي بحروف سريانيّة) موجود في مخطوطات جامعة برمنجهام، معروف باسم (Mingana Ms 107)..بالنسبة للمخطوطات العربيّة المتعلّقة بهذه الأسطورة، فيوجد منها 7 في المكتبات الأوروبيّة:- مخطوط المكتبة الوطنيّة في باريس (عربي 215): يعود إلى سنة 1590.- مخطوط المكتبة الوطنيّة في باريس (عربي 70): من القرن الخامس عشر.- مخطوط المكتبة الوطنيّة في باريس (عربي 71): نسخة مكتوبة في القرن السّابع عشر، وهي نسخةٌ ممتازة تُقرأ بسهولة.- مخطوط المكتبة الوطنيّة في باريس (عربي 258): القرن الخامس عشر. الكتابة سيّئة.- مخطوط Gotha (عربيّ 2875): كتابة ممتازة من القرن الثالث عشر.- مخطوط Bodleian199: نسخة مكتوبة على الورق.- مخطوط المكتبة الفاتيكانيّة 199: مكتوبة في سنة 1594..يُقسم النصّ السريانيّ إلى ثلاثة أقسام واضحة، يُحدّثنا الأوّل منها عن لقاء كاتب النصّ ويُدعى "إيشوعياب" (بالسريانيّة يعني "عطيّة يسوع" أو "عطا يسوع") بـ"بَحيرا" الذي يخبرُه عن حياتِه والاضطهاد الذي تعرّضَ له في بيث آرامايي (منطقة الآراميّين في العراق) وهربه ومجيئه بلاد الإسماعيليّين (يعني العرب في جنوب سورية)، وعن رؤياه النبويّة على جبل سيناء ولقائه بالإمبراطور موريق والملك كسرى. وينهي الكاتب هذا المقطع بموت الرّاهب بعدَ سبعة أيّام من ذلك اللقاء.يصبح النصّ في القسم الثّاني على شكل محاورة فيها أسئلة وأجوبة بين الرّاهب بَحيرا ومحمّد الذي يلتقي به حينَ رافقَ عمّه أبا طالب في إحدى رحلاته التجاريّة في بلاد الشّام وهو ما يزال في الثانية عشرة من العمر. هذا القسم الثّاني شبيهٌ بما وردَ في "القصّة" عندَ ابن هشام وغيره من المصادر الإسلاميّة، حين يلتقي الرّاهبُ بمحمّدٍ فيسأله وهذا يجيبه، وقد يكون هذا القسم أقدم أقسام النصّ مضمونًا.فأمّا القسم الثّالث والأخير فيُمكن أن ننسبَه إلى الأدب الدّينيّ الرؤيويّ، فهو يتضمّن مجموعة من التنبّؤات الرؤيويّة في مستقبل العالم الإسلاميّ وانتشارِه حتّى ظهور المسيح الثّاني. وفيه اختصارٌ لما وردَ من رؤى على جبل سيناء..نقد موجز:ما يُلاحظ بادئ ذي بدء أنَّ الذكرَ الأقدم لـ"بَحيرا" في المصادر المسيحيّة يعود إلى القرن الثّامن (العصر العبّاسيّ) وفي المصادر الإسلاميّة إلى القرن التّاسع، ويتّفقُ الجميع على أنّه كانَ مسيحيًّا، لكنّهم يختلفون في مذهبِه، فبعضهم ينسبُه إلى الآريوسيّين (شيعة ظهرت في القرن الثّالث الميلاديّ على يد آريوس لا تؤمن بألوهيّة المسيح وحرمها مجمع نيقية 325)، والآخر ينسبه إلى النّساطرة (نسبةً إلى نسطور)، والبعض إلى "النّصارى" دون التمييز بين "النصرانيّة" كبدعة مسيحيّة وبين إطلاق الاسم النّصرانيّ على جميع المسيحيّين وهو خطأ مبين..لا يُمكن "بَحيرا" أن يكونَ آريوسيًّا فقد ماتت هذه الشّيعة في الشّرق في نهاية القرن الرّابع وابتداء الخامس (وفي الغرب في القرن السّادس الميلاديّ). كما لا يُمكنه أن يكونَ نسطوريًّا فلا وجود للنّساطرة إطلاقًا في جنوب سورية (بصرى)، فهذه موطن الغساسنة وهم قبائل عربيّة على مذهب اليعاقبة ألدّ أعداء النّساطرة. وإذا افترضنا أنّه كانَ كذلك: آريوسيًّا أو نسطوريًّا، فالقرآنُ بنصوصِه ليسَ فيه ما يدلّ على هذين المذهبين، لا بل العكس! وإذا قلنا أنّه تعلّمَ من هذا الرّاهب أصول مذهبِه الجديد، فلماذا انتظرَ طوالَ تلك الأعوام حتّى يوم إعلان الدّعوة، وأين احتفظَ بما لقّنه الرّاهب دون نسيان؟!.أمّا إذا قرأنا النصّ استنادًا إلى التّاريخ لوجدنا الكثير من الإشارات التي تؤكّد على أنّه مكتوبٌ على يدِ مسيحيٍّ يحيا في بيئة لا تكفل له حريّة الاعتقاد، لا بل تعرّضه لشبه اضطهاد داخليّ بسبب كثرة المذاهبِ المسيحيّة، وخارجيّ قد يكون حكم الدّولة. هذا ما نستشفّه حين يذكرُ بَحيرا في رؤياه كما وردت في النصّ السريانيّ اضطهادَه وتوحيد المذاهبِ تحتَ صليبٍ واحد (يعني عبادة واحدة). فأمّا ذكر ظهور المسيح أو عودته فقد تكون إشارة إلى عودة المهديّ (عند الشّيعة). ممّا يحملنا على الاعتقاد بأنَّ كاتبَ النصّ سريانيٌّ من إحدى جماعات ما بين النّهرين (العراق: وسط إسلاميّ شيعيّ) تحت الحكم العبّاسيّ وخصوصًا تحت حكم الخليفة أبو إسحق محمّد المُعتصم بالله (833 – 842 م.) الذي أذاقَ سريان ما بين النّهرين الويلات وهو صاحبُ القول الشّهير: "اقطعوا لسانَ كلِّ أمٍّ تحدّثُ أبناءَها بالسّريانيّة، فإنَّ قطعَ لسانِ الأم يعني موت اللسان الأم"!!.إنَّ ذكرَ "بَحيرا" قديمٌ فيه تحاولُ المصادرُ المسيحيّة التّأكيد على أنَّ تعاليمَ محمّدٍ أو تعاليم الإسلام منقولة ليست أصيلة، وهذا صحيح إلى حدٍّ ما لكن دون الرّبط بينها وبين مسيحيّي سورية وما بين النهرين وإلا لعثرنا في القرآن والإسلام الأوّل على ما يؤيّد هذا. وفيه أيضًا تحاولُ المصادر الإسلاميّة التّأكيدَ على نبوءة محمّدٍ من خلال أحداثٍ وتنبّؤاتٍ قيلتْ فيه قبلَ مباشرة الدّعوة، وليسَ لهذه التأكيدات سندٌ تاريخيّ علميّ، بل تصبُّ في خانة تعزيز الإيمان وإبراز أهميّة موضوعه. هذا الذّكر لدى كلا الطرفين قادَ أخيرًا إلى إنشاء "الأسطورة" كما وصفناها، بإيجاز، بروايتها ومخطوطاتها السريانيّة والعربيّة، في جوٍّ دينيٍّ إسلاميٍّ شيعيّ يبشّر بتقويض المسيحيّة وإعلاء شأن الإسلام، كما يرجو عودة المهديّ المنتظر..المصادر والمراجع: استندنا في هذا المقال الموجَز على دراسة Richard Gottheil في كتابِه "A Christian Bahira legend"، وعلى ما جاءَ في رسالة الماجستير لعبد الأحد ملكي شابو (نقلاً عن الإنترنت)، وعلى المصادر العربيّة الإسلاميّة التي وردَ ذكرُها في متن المقال. لزيادة التعمّق في الموضوع نحيل القارئ إلى جميع ما ذكرنا من مصادر ومراجع وإلى أطروحة أخرى قُدّمت في جامعة خرونينجن – هولندا (لم نصلْ إليها).