شجرة العائلة!!
د. يوسف حطيني
تحرك أيها الحمار..
كادت دمعتان كبيرتان تسقطان من عيني الواسعتين.. حين رشقت هذه العبارة أذنيّ اللتين استطالتا بلا معنى.. لذلك رحت أتابع السير متسلحاً بجرح كبرياء غائر على الطريق الترابي المغبر الذي راح يمتدّ أمامي، دون أن أمنح صابر، مالكي الجديد، أية نظرة تشعره أنه امتلكني بالمئات التي ألقاها في يد فتى شقي ورثني عن أبيه الطيب.
تحرك أيها الحمار..
لم نصل بعد إلى الزريبة الجديدة حيث سآوي إلى ذاتي كما أحب أن أفعل دائماً.. ولكنها بداية غير طيبة..
منذ اشتراني صابر قبل ساعة من الزمن راح يقذفني بأقذع الشتائم، ويجرني جراً في شمس الظهيرة اللاهبة دون أن يجهد نفسه بالتفكير بما قد أعانيه.. إنه رجل غريب حقاً.. جاء إلى السوق يحمل سوطاً أسود غليظاً قبل أن يشتريني.. رسالة مخيفة لمثلي أن يشتري هذا الرجل السوط قبل الحمار.. ومنذ وقعت عينايَ على ذلك السوط وصلت تلك الرسالة التي تمت ترجمتها على ظهري طول الطريق بقسوة نادرة..
تحرك أيها الحمار..
هي لحظة واحدة فقط أردت أن أستريح فيها من عناء لاهب يسقط على ظهري بلا هوادة.. لم أفكر كثيراً أكان ذلك العناء من أثر الشمس أم من ذلك السوط اللعين.. صابر يلسعني وينفث دخان سيجارته بتلذذ نادر، ثم يصرخ في وجه ابنه المتعب الذي يسير إلى جانبه، رافضاً بإصرار أن يسمح له بالركوب فوق ظهري، فالحمار كما ردد صابر خلق لحمل الأمتعة التي تباع وتشترى، ولم يخلق قط لحمل البشر..
تداخلت الأصوات حولي حين دخلنا سوق الخضر، ملأت أنفي رائحة خُضَرٍ وفواكه طازجة، سال لعابي ورحت أتلمظ حلماً تحلّبت له شفتاي.. غير أن صوته الأجش طرد ما تبقى من صورة الحلم الباهتة، وأخذ يعلو فوق أصوات الباعة جميعاً:
تحرك أيها الحمار.. هل حشوت رأسك بالتبن؟
ولكنني لم أقف حتى أنال منه هذا التوبيخ.. ثم إنني لم أذق طعم التبن منذ أسبوع، فقد رحل التبن مع ذلك الرجل الطيب الذي كان يرعاني.. وصرت أكتفي بما تجود به الأرصفة..
نظرت إليه بطرف عيني.. واكتشفت اكتشافاً مذهلاً: لم يكن يقصدني هذه المرة.. ها هو ذا ينهال بصوته وسوطه على جسد ابنه الغض الذي ربما كان يحلم أيضاً حلماً مشابهاً.. أردت أن أرفسه ولكنني أحجمت في اللحظة الأخيرة، إذ إنه سيدي، وليس من المعقول أن ينال مني رفسة في اليوم الأول الذي أتوظف فيه عنده..
لم يقدّم لي أيّ عرض مغرٍ، ولكنني كنت متأكداً أن أي مالك جديد لي سيطعمني كل يوم أو كل أسبوع بقايا الخس وقشر البطيخ اللذيذ.. غير أن ما رأيته حتى الآن بات كفيلاً بكنس تلك الأحلام اللذيذة التي راودتني ذات جوع.
* * *
لم نكن قد وصلنا إلى البيت بعد حين كنا نكد السير، أنا والولد الصغير، حتى لا نسمع من صابر تلك العبارة التي تسقط على صدرينا كغبار ثقيل، فجأة تعب صابر.. فأعطانا أمراً حاسماً بالوقوف..
تحرك أيها الحمار..
استغربت الصوت الذي وصلني هذه المرة حاداً كصرير باب صدئ.. رجل يرتدي بزة سوداء، وينتعل حذاءً أسود ثقيلاً، ويحمل في يده عصاً غليظة نَبَتَ أمامنا فجأة.. وراح يردد في وجه صابر بلا توقف:
تحرك أيها الحمار..
مسكين صابر.. نظر إلينا نظرة رجل مقهور، دون أن يتمكن من دعوتنا للتحرك معه بعد أن حط على رأسه طير الفزع، فراح يسير، ورحنا نسير وراءه.. وبعد أن قطعنا مسافة قصيرة اتسعت عيناه الدامعتان، واستطالت أذناه، وأخذ ظهره ينحني.. ينحني حتى يكاد يلامس الأرض..
إذ ذاك أحسست أننا جميعاً: أنا وصابر وابنه الصغير ننتمي إلى عائلة واحدة.