كتاب يعيد اكتشاف إسرائيل : أرض التوراة .. في اليمن
الربيعي يحدّق في أرض التوراة
منذ وقوع فلسطين في براثن الصهيونية العام 1948، تتكرر في كثير من المقالات والدراسات والأبحاث التي يكتبها الكتاب والدارسون الفلسطينيون والعرب عبارات مثل "الأساطير التوراتية" و "المزاعم الصهيونية"، وكثير من مرادفاتها، لكن دليلا واحدا قادرا على كشف حقيقة وأصل تلك الأساطير والمزاعم لم يقدمه أحد حتى قبل شهور قليلة عندما صدر عن (دار الفكر) بدمشق كتاب للباحث غير العادي الدكتور فاضل الربيعي بعنوان (فلسطين المتخيلة- أرض التوراة في اليمن القديم).
والكتاب عبارة عن مجلدين ضخمين يزيد مجموع صفحاتهما عن ألف ومائتي صفحة من القطع الكبير، قدم فيه الباحث للأمة دليلا أكيدا غير قابل للنقض، دليلا يكشف ثم ينسف أساطير وأكاذيب وخزعبلات وأوهام عشنا حتى الآن قرنا كاملا نعاني من آثارها وما ترتب عليها من جرائم وآثام.
لقد عانت الأمة العربية ولا تزال تعاني من نتائج الغزو الاستعماري الغربي على مدى أكثر من مائة عام. كان الدافع المعلن لكل ما فعله المستعمرون الغربيون هو إعادة (الشعب اليهودي إلى أرض الميعاد - فلسطين التي نفوا منها منذ أكثر من ألفي عام). بدأت الكذبة بأسطورة توراتيه- قرأوها بوعي كامل وحملوها ما أرادوا ولم تكن قراءة محرفة- تحدثت بداية عن (إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين)، ثم أصبح الحديث عن (إقامة دولة إسرائيل) تحل محل (مملكة إسرائيل القديمة)، وبعد قيامها أصبح (ضمان أمن إسرائيل) هو الواجب الإلهي الملقى على عاتق الدول الاستعمارية الغربية تتداوله من ساقطة إلى صاعدة.
وفي سبيل هذا الهدف المقدس قتلوا عشرات الألوف من الفلسطينيين والعرب وشردوا مئات الألوف منهم ونهبوا ثرواتهم، واستبدوا بأمة بكاملها، ووضعوا ذلك كله تحت عنوان (الصراع العربي- الإسرائيلي).
لقد قامت (دولة إسرائيل) مستندة إلى مزاعم توراتيه صدقها كثيرون ممن يتوجب عليهم أن ينكروها، وتلخصت تلك المزاعم بأنه كان لليهود في فلسطين ملك غابر تجسد في دولتين (مملكة إسرائيل) و (دولة يهودا والسامرة) في عهدي داود وسليمان. ومعروفة كذبة الهيكل الذي كان موجودا تحت قبة الصخرة، وهو هدف ما يجري هذه الأيام من تهويد للقدس ومحاولات تهجير سكانها من العرب تمهيدا لهدم المسجد الأقصى وبناء ما يدعونه (الهيكل الثالث) مكانه.
لقد استطاع المفكر فاضل الربيعي في بحثه الاستثنائي وبجهد فردي جبار تعجز عنه مؤسسات، أن يثبت بالأدلة القاطعة كذب تلك المزاعم وأن يبرهن على أن كل ما تحدثت عنه التوراة، سواء كان أماكن وأسماء، أو وقائع وأحداث، لم يكن في فلسطين بل في اليمن. وفي مقدمة كتابه يقول بنبرة العارف القاطعة: " لم يحدث السبي البابلي في فلسطين، كما أن المصريين والأشوريين لم يشتبكوا فوق أرضها قط، وسفن سليمان لم تمخر عباب المتوسط... وإلى هذا كله، فإن الملك داود لم يحارب الفلسطينيين، وبينما يزعم أن الهيكل بني في فلسطين، فإن الحقيقة التي لا مناص من التمعن فيها اليوم ... تقول: إن القبائل اليمنية العائدة من الأسر البابلي هي التي أعادت بناء الهيكل في السراة اليمنية وليس في فلسطين. ومن ثم، فإن الهيكل لم يبن في القدس قط بل إن أسوار أورشليم التي أشرف على ترميمها نحميا لا وجود لها هناك أصلا.
وفوق ذلك ليس ثمة هيكل لسليمان تحت قبة الصخرة".إنه اكتشاف بالنسبة لنا أهم ربما من اكتشاف الولايات المتحدة الأميركية نفسها، والأهم منه ما قدمه الباحث (المكتشف) من أدلة قاطعة على صحة اكتشافه، فبدون تلك الأدلة يتحول الاكتشاف إلى مجرد نظرية قد تكون بلا قيمة علمية. كانت مصادر الباحث تبدأ بنصوص التوراة، وهو الذي تعلم اللغة العبرية ليسبر أغوار ما جاء فيها، ثم مستعينا بالتاريخ والجغرافيا، والشعر وأدب الرحلات والمذكرات.
ألست محقا عندما قلت إن الجهد المبذول في هذا العمل البحثي الهام يحتاج إلى ربما أكثر من مؤسسة وليس إلى فرد؟ لكن فاضل الربيعي بجهده الفردي بز، على الأقل، مؤسسة واحدة كبيرة.
الكتاب لا ينفع معه التلخيص أو المراجعة السريعة، كما يحدث في مراجعات الكتب العادية، وليس من خيار لمن يريد أن يتعرف على ما جاء فيه إلا أن يقرأه، وعلى من يقرؤه أن يتمتع بقدر جيد من الجلد والتحمل، فهو لن يقرأ ديوان شعر ، لكنه سيرى بأم عينه كيف يتهاوى هرم من الأساطير والأكاذيب تحت مطارق التحقيق العلمي بالجهد المضني والعمل المرهق عبر الغوص في التاريخ والجغرافيا والأدب، وهذا في حد ذاته متعة لا حد لها لأي قارئ جاد يسعى لأن يتعلم كيف يمكن الوصول إلى الحقيقة.
لقد اعتمد الباحث في مراجعه التي سيتعرف إليها القارئ أثناء قراءته للكتاب، واتبع منهجا محددا في توخي هدفه، رآه يسهل عليه الوصول إلى قارئه وإن كان غاية في الجهد على الباحث، شرحه في مقدمة الكتاب على التالي: "...إن تقنيات البحث التي سوف يستخدمها هذا الكتاب تقوم على الأساس التالي: سنعرض النص التوراتي بلغته الأصلية مع ترجمة أمينة إلى أقصى حد ممكن، وخصوصا للقصائد والمراثي التي كتبها أنبياء وشعراء اليهودية، ممهدين السبيل أمام وصف الهمداني للمواضع ذاتها وبالأسماء ذاتها. وأخيرا سوف نستخدم توصيف شعراء الجاهلية للأماكن نفسها".في نهاية المقدمة التي وضعها للجزء الأول، يقول الربيعي مؤكدا ومتأكدا: " ان الأساطير التي نسجها المستشرقون الأوروبيون، منذ مطلع القرن الماضي عن فلسطين التوراتية قد أدت في النهاية إلى بزوغ فلسطين أخرى لا وجود لها في شرق وغربي نهر الأردن"، ثم ليعلن أن "استرداد فلسطين من أسر المخيالية الاستشراقية وتحرير صورتها نهائيا من هيمنة السرد الغربي هما الهدف الحقيقي لهذا الكتاب".ويتساءل الربيعي مندهشا ومعه الحق كله، قائلا: "إنه لأمر مدهش حقا أن يكون لدى العرب وثيقة تاريخية دامغة عمرها الحقيقي أكثر من ألف عام، تسرد وتصف لهم الحق التاريخي في أرضهم من دون أن يعلموا بذلك، بل وأن يستمر بعضهم في تصديقه الأوهام والمختلقات والأكاذيب القائلة إن أحداث وقصص ومرويات التوراة دارت في فلسطين". ترى هل سبب ذلك هو الجهل وحده؟ حسنا، لم يعد الجهل بعد الآن مبررا ليستمر تصديق تلك الأكاذيب، فأنا أشهد أن فاضل الربيعي قد بلغ (بالتشديد على اللام).
يبقى أن نقول، نحن الذين تهمهم فلسطين ويهمهم أن تكون عربية، "إن استرداد فلسطين من أسر المخيالية الاستشراقية وتحرير صورتها من السرد الغربي" يعني نسف كل المزاعم والأساطير التي قامت عليها كل الأفعال والأعمال السياسية والعسكرية والاقتصادية التي وقعت في القرن الماضي وسمحت وبررت وأدت بالفعل إلى قيام (دولة إسرائيل).
- عن دار الفكر -
2009/05/24
الكاتب الفلسطيني بلال الحسن نشر مقالة حول الكتاب في العدد الخامس عشر من مجلة العودة الفلسطينية في ما يلي نصه:
تظهر مئات الكتب يومياً ثم تمضي إلى حال سبيلها. نادرة هي الكتب التي تظهر ثم تبقى. من هذه الكتب كتاب صدر حديثاً حمل إسم «فلسطين المُتخيّلة»، أي فلسطين التي تخيّلها المستشرقون، وبخاصة منهم دارسو التوراة والمشرفون على ترجمتها إلى العربية. وللكتاب عنوان فرعي ثانٍ هو «أرض التوراة في اليمن القديم» أي ليس فوق أرض فلسطين.
مؤلف الكتاب هو العراقي فاضل الربيعي، وقد عكف على إنجازه في هولندا حيث كان يقيم، وعبر جهد استمر ثماني سنوات.
والناشر هو دار الفكر الإسلامي في دمشق. ويقع الكتاب في مجلدين يضمان 1200 صفحة.
سبق للدكتور اللبناني كمال الصليبي، وهو المؤرخ المقتدر، أن أصدر كتاباً قبل ما يزيد على عشر سنوات، حمل عنوان «التوراة ولدت في جزيرة العرب»، أمضى في تأليفه اثني عشر عاماً في أثناء إقامته في ألمانيا. ولم تنشر الجامعة التي كان يعمل فيها الكتاب إلا بعد عملية تحكيم قامت بها مع عدد من الجامعات المماثلة، وكلها أجازت نشر الكتاب كعمل علمي محكم.
الآن، يأتي فاضل الربيعي، معلناً تقديره لجهد الدكتور الصليبي، الذي أثار الموضوع وطرحه للنقاش. ومعلناً في الوقت نفسه، أن حجج الدكتور الصليبي لم تكن مقنعة كفاية، وهو هنا، وفي كتابه هذا «فلسطين المتخيلة»، يريد متابعة هذا البحث التاريخي الشائك وتعميقه. فهل نجح في محاولته؟ أستطيع أن أسجل، أن فاضل الربيعي قد نجح في مسعاه، فهو جاء إلى المعركة بأسلحة جديدة مبتكرة، هي أسلحة ثلاثة:
أولاً: الشعر العربي القديم. يقول الربيعي إن الشعر العربي القديم هو أهم قاموس جغرافي في العالم، وهو يتضمن وصفاً مذهلاً للبيئة العربية أمكنة وبشراً. ويستكشف القارئ ذلك حين يطلّ على المناقشة وتطوراتها.
ثانياً: كتاب هام جداً في هذا المجال، ولم يتم الالتفات إليه من قبل، وهو الكتاب التراثي الذي يحمل اسم «صفة جزيرة العرب»، ومؤلفه الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني. وهو كتاب حققه العلامة اليمني محمد بن علي الأكوع، وطبع في بغداد عام 1989 من قبل دار الآفاق، وهو كتاب فريد من نوعه، يقدم وصفاً تفصيلياً لكل المواقع الجغرافية الكبيرة والصغيرة في جزيرة العرب، والعشائر التي كانت تسكنها، ومواقع المياه والجبال والأودية القريبة منها.
ثالثاً: التوراة نفسها، والوصف الذي تقدمه للمعارك التاريخية، وأسماء الأماكن والجبال والأودية التي جرت فيها تلك الأحداث. هنا يقوم المؤلف بعمل مهم جداً، فحين أدرك في أثناء تأليف الكتاب أنه لا بد له من قراءة التوراة بلغتها، ذهب إلى الجامعة وتعلم العبرية، واكتشف بنفسه هنا أن مترجمي التوراة افترضوا أن أحداثها جرت فوق أرض فلسطين، وبدأوا يترجمون التوراة ويتحدثون عن جغرافيتها على هذا الأساس.
المؤلف فاضل الربيعي، يغزل على مدى صفحات الكتاب كله، نسيجاً تاريخياً وثقافياً محكماً، مستمداً من هذه المصادر الثلاثة، فهو يبدأ بالموقع التاريخي كما ورد ذكره في الشعر العربي القديم، وفي أرض اليمن بالذات، ثم يعرّج على كتاب الهمداني ليستخرج منه الوصف الجغرافي الذي قدّمه للمكان نفسه في اليمن وليس في فلسطين، ثم يصل إلى ذروة المقارنة، حين يستخرج وصف التوراة للحدث أو للموقع أو للمعركة التاريخية التي جرت، وما أوردته من وصف تفصيلي للمكان الذي جرت فيه. وتكون النتيجة أن المصادر الثلاثة تلتقي وتتفاعل وتؤكد أمراً واحداً، هو أن هذا الموقع هو في اليمن وليس في فلسطين، وأن تلك المعركة جرت في أرض اليمن وليس فوق أرض فلسطين. وبناءً على ذلك يقول إن ما فعله مؤرخو التوراة هو إنشاء «فلسطين متخيلة»، جرت فوقها أحداث التوراة، بينما جرت أحداث التوراة الحقيقية فوق أرض اليمن.
يقول ناشر الكتاب إنه تخوّف من جرأة الموضوع، وأراد أن يستشير بشأنه، فلجأ إلى مؤرخين يمنيين كبار يقيمون في الولايات المتحدة الأميركية، وكلهم شجعوه على النشر، وكلهم قالوا له: بالنسبة إلينا هذه بديهيات.
إنه كتاب يفتح الآفاق. كتاب علمي من الدرجة الأولى. كتاب جريء. لا بد من الاهتمام به. ولا بد لعلماء التاريخ من مناقشته بكل جدية.