بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته /عن موقع صوت المغرب الإسلامي:
هو محمد عزالدين بن مولاي إدريس بن محمد بن علال ينتهي نسبه إلى المولى إدريس بن عبد الله الكامل بن حسن المثنى بن حسن السبط بن علي بن أبي طالب
اسمه العائلي: المعيار الإدريسي
ولد بمدينة مراكش بالمغرب و أصله من بلاد السراغنة وكان والده من أهل العلم والوطنية اشتغل قبل استقلال المغرب بالعدالة وعين بعد الاستقلال بظهير شريف قاضيا شرعيا إلى أن توفاه الله إليه في حدود الأربعين من عمره فعرف المترجم بسبب ذلك اليتم في سن مبكرة
بدأ دراسته بحفظ القرآن الكريم في كتاب خاص ثم التحق بالتعليم العمومي وكانت نية والده الفقيه العالم أن يتولى بنفسه تعليم ابنه العلوم الشرعية و تتولى المدرسة تعليمه المزدوج وكانت نظرته هذه رحمه الله صحيحة لكن موته المبكر غير مسيرة المترجم و لما يحصل بعد على الشهادة الابتدائية .
وفاة والده وقع تحول كبير في حياة المترجم و أصبح توجيه مسيرته العلمية لأناس آخرين رأوا من الأفضل متابعة دراسته تحت أعينهم فنقلوه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية إلى ثانوية ابن يوسف التابعة للتعليم الأصيل و في الوقت ذاته للجامعة اليوسفية ثاني أقدم جامعة بالمغرب بعد جامعة القرويين
لقد واجهته في البداية صعوبات لا حد لها من حيث المواد ونوعيتها و لغتها و زملاء الدراسة الذين كان أغلبهم في سن متقدمة بل كان بعضهم ممن جاءوا من البادية ربما جلس في الفصل الواحد الابن إلى جانب والده و كانوا قد أنهوا حفظ القرآن و كثير من المتون والأمهات الشيء الذي كان يحرج صغار الطلاب وجلهم من أبناء المدينة
أمام هذا الوضع الصعب و ما يفرضه اليتم و انتظارات الأسرة وجد المترجم نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما إما الاعتكاف في محراب العلم أو الموت في سبيل ذلك ،كان من فضل الله على عبده أن هيأ له أسباب القراءة والتعليم في بيته و بين ذويه في مدينته التي تجر ذيلا من التاريخ الحافل بالأمجاد... فمكتبة والده رحمه الله غنية بأهم المصادر و المراجع الفقهية واللغوية المعتمدة في المدرسة المغربية المالكية وفيها إلى جانب ذلك بعض المصنفات الأدبية التي وجهت ميول المترجم وجنوحه إلى الأدب أخص منها بالذكر البيان و التبيين للجاحظ و المقامات للحريري و النثر الفني في القرن الرابع الهجري لزكي مبارك و من خلالها قرأ الكثير للقدماء والمعاصرين و بعض المترجمات الغربية وكما تأثر بالبيانيين من كتاب العربية ولع في وقت من الأوقات بالكتابات العلمية والسياسية من خلال الصحف والمجلات خاصة...
و تجدر الإشارة إلى أن الدراسات الإسلامية كان قد لحقها في ذلك العهد كثير من الجمود وفي المقابل ساد بين أكثر الطلاب والمثقفين الفكر الماركسي بشكل واضح و ضعف التدين بين الشباب حتى كان رواد المساجد منهم يعدون على رؤوس الأصابع.
في ظل هذه الأوضاع التعليمية المستهدفة من دعاة التقدمية تكون جيل من رجال العلم والوطنية والإدارة الأفذاذ قبل أن يتحول التعليم الأصيل إلى مسالك إنقاذ للفاشلين في دراستهم
كانت مدة الدراسة الثانوية ست سنوات تتوزع على سلك أول ينتهي بالحصول على الشهادة الثانوية و يتوج الثاني بشهادة الباكلوريا و قد قطع المترجم المرحلة كاملة بتوفيق من الله وسداد منه وفي سن جد مبكرة حتى إنه لما رفع طلبا لاجتياز الباكلوريا قبل سنة من ذلك رفض لعدم بلوغه السن القانوني .... في حين التحق عدد من زملائه بالوظيف بمجرد الحصول على الشهادة الثانوية خصوصا بالتعليم الابتدائي والشرطة و الكتابة بالمحاكم ...
وتجدر الإشارة إلى أن السلك الثاني من الثانوي كان ينقسم إلى شعبتين : شرعية وكان جل طلبتها من البادية و عددهم قليل و أدبية و فيها العدد الكبير من الطلبة ... وفيها درس المترجم
ومن الوفاء أن لا نطوي هذه الصفحة دون أن نذكر أسماء بعض الشيوخ الذين كان لهم تأثير في الطلبة :
1- أساتذة من مصر الشقيقة كانوا يدرسون المواد العلمية كعلم الأحياء و الفيزياء والكيمياء و الرياضيات ومن الأسماء التي ما تزال في الذاكرة : محمود صدقي و محمود إمام و زمزم و حمدي وكانوا أكفاء لكن إقامتهم لم تطل إذ سرعان ما ألغي التعاقد معهم ...
2- شيوخ كبار يتبرك بالأخذ عنهم لرسوخهم في العلوم الشرعية و لاستقامتهم و ورعهم في دينهم منهم العلامة الفقيه الأصولي مفتي مدينة مراكش الأستاذ عبد الرحمن الدكالي زين العابدين و العلامة الفقيه المؤرخ الأستاذ أحمد الكنسوسي و العلامة الفقيه الفرضي اللغوي المتفنن الأستاذ أحمد أملاح و العلامة الفقيه النحوي الموقت الأستاذ الحسين راغب رحمهم الله ومنهم العلامة الفقيه النحوي المؤرخ الأستاذ محمد بازي والعلامة الفقيه العروضي المقرئ الأستاذ الحسن طالبون مد الله في عمرهما
3- أساتذة الأدب العربي وكانوا ثلة من النوابغ العصاميين منهم الأديب المبدع والشاعر المفلق الأستاذ أبو بكر الجرني المعروف بالجرموني و الأديب الأنيق و الشاعر الرقيق الأستاذ الطيب المريني دنيا و الأديب الناقد المتمرد الأستاذ محمد بن رحال نوفل رحمهم الله
4- أساتذة اللغات الأجنبية منهم في الأنجليزية الأستاذة الأمريكية الآنسة برنام و الأستاذ الياباني تشينج ومنهم في اللغة الفرنسية الأستاذ محمد بن الكوش و الأستاذ عطال و الأستاذ الرباع و الأستاذ ناجز وغيرهم.
م تسر الأمور كما كان صاحبنا يتصور
ما كل ما يتمنى المرء يدركه * * * تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ففي الوقت الذي كان يستعد فيه لشد الرحال إلى مدينة فاس لمتابعة دراسته بكلية الآداب هناك ألحت الأسرة على الالتحاق بكلية اللغة العربية بمدينة مراكش للبقاء إلى جانبها وكذلك كان ...
وكلية اللغة العربية ما هي في الحقيقة إلا امتداد طبيعي لجامعة ابن يوسف بمراكش و إن أصبحت اليوم تابعة - إداريا - لجامعة القرويين بفاس و الجهود متضافرة من مدة من أجل إعادة الاعتبار للجامعتين معا لتؤديا دورهما على أحسن وجه وبشكل متطور يعود بهما إلى عهود أمجادهما الغابرة أيام كان إشعاعهما يصل إلى أوروبا و إلى كثير من أصقاع المعمور
كان بكلية اللغة العربية يومها من شيوخ العلم و رجال الفكر والأدب رجال لهم وزنهم الكبير داخل الوطن وخارجه كما سيأتي لا حقا وكانت المواد المدرسة على الرغم من طابعها اللغوي و الأدبي تتسم في جملتها بروح إسلامية قوية مما بدأ يهيئ المترجم للرسالة العلمية الكبرى التي تنتظره .
كان مقر كلية اللغة العربية داخل أسوار مدينة مراكش بحي الرميلة متكئا على قصر التهامي الجلاوي باشا مراكش و جلادها أيام الاحتلال الفرنسي - من جهة - مقابلا لمقر فرع حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المعارض - من جهة ثانية - وكانت للمكانين في ذلك العهد إيحاءات كثيرة ... وذلكم الجيل من الطلبة كان مسكونا بهاجس السياسة بشكل لم يكن لصاحبنا أن ينجو منه على الرغم من تجربة عائلته المريرة مع السياسة و هو موضوع آخر ليس هذا محله ...
ثم إن أكثر طلبة كلية اللغة العربية في ذلك الوقت كانوا من المنتسبين من أساتذة و مفتشين و مديرين و غيرهم من الموظفين و غاية جلهم تسوية و ضعياتهم الإدارية و المادية في حين لم يكن الطلبة الرسميون وهم صغار السن يمثلون سوى نسبة ضئيلة وكان همهم مراجعة البرامج والمقررات و تحسين أوضاع الطلبة وفتح آفاق واسعة أمام الخريجين للعمل ومتابعة الدراسات العليا ....
من هنا وجد المترجم نفسه في مكتب تعاضدية الكلية تحت لواء المنظمة الطلابية "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب " و كانت كلية اللغة يومها محدودة الآفاق لا شعب بها و لا دراسات عليا حيث تنتهي الدراسة بالحصول على الإجازة ليس فيها فحسب بل في كليات جامعة القرويين جميعا ...
لم تكن للمترجم منحة مع أنه كان الأول أو الثاني في فوجه وكان فيه من الطلبة {الآباء} المنتسبين من يدعي أنه أنحى من الخليل وسيبويه ولعله لذلك كانت جائزته بعد التخرج منحة دراسية خاصة من كلية الآداب بجامعة طهران بمناسبة مرور 2500 سنة على تأسيس الأمبراطورية الإيرانية كما سيأتي لاحقا.
كان نظام الدراسة بالكليات - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - يستغرق ثلاث سنوات تتوج بالإجازة حسب مختلف التخصصات ، وفيما يتعلق بكلية اللغة العربية بمراكش فعلى الرغم من تخصصها اللغوي والأدبي كان جل علمائها من ذلكم الجيل المشارك القادر على تدريس كثير من العلوم والأداب والذي لا تنتهي مهمته عند دروسه النظامية بل تجد له أكثر من درس تطوعي في إطار الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بإلقاء دروس شعبية يومية في مختلف المساجد والأماكن العامة
في التفسير والحديث والفقه خاصة وفي علوم وفنون أخرى أحيانا ، مما أعطى لهؤلاء العلماء شعبية واسعة واحتراما كبيرا بين الناس لعلمهم وفضلهم وسمو أخلاقهم ...
هؤلاء العلماء أعطوا للكلية هيبة واحتراما ففي الوقت الذي كانت المدرجات في كليات أخرى تمتليء أجواؤها بدخان السجائر حتى ليضيق بذلك عالم جليل مثل شيخنا العلامة محمد المكي الناصري وهو يدرس الموافقات للإمام الشاطبي بكلية الحقوق بالرباط ويصيح محتجا على هذا السلوك المشين ، وفي الوقت الذي كانت فيه كثير من الطالبات في الجامعة كاسيات عاريات كانت أجواء كلية اللغة العربية طاهرة نقية
في هذا الفضاء النظيف من كل تلوث بيئي أو فكري بدأت تتشكل شخصية المترجم و راح يتعلم من عمل أساتذته قبل علمهم دون أن يحول ذلك بينه وبين أخذ العلم عن غيرهم ، وفي هذا الوقت بدأ صاحبنا ينشر بعض مقالاته وكانت البداية على أعمدة جريدة "العلم" المغربية وكان أول موضوعين نشرا له هما :" الشعر وليد الموسيقى" و "على هامش تجديد ضريح المعتمد / بين ابن تاشفين وابن عباد "
من أبرز شيوخ المترجم في هذه المرحلة :
- العلامة الفقيه المحدث الحافظ العميد الرحالي الفاروق رحمه الله أحد كبار علماء الغرب المشاهير شيخ الجماعة ورئيس الجامعة اليوسفية والمجلس العلمي ثم عميد كاية اللغة العربية بمراكش والمترجم بصدد إكمال ترجمته بملتقى أهل الحديث { وهو من شيوخ الوالد رحمه الله}
- العلامة السلفي الصالح المحدث الداعية الإستاذ القدوة الشيخ الهاشمي بنميرة السرغيني ، كان أمة وحده في الجهر بكلمة الحق وفي التطابق التام بين قوله وعمله رحمه الله { وهو من شيوخ الوالد رحمه الله}
- العلامة الأصولي النظار الأستاذ الشيخ الحسن الزهراوي رحمه الله ، كان قوي البرهان راجح الحجة ، ناظر كثيرا من الأحبار والرهبان بما بهرهم نفع الله بذلك
- العلامة الفقيه الناسك البركة الشيخ المهدي حاتم السرغيني رحمه الله { وهو من شيوخ الوالد رحمه الله}
- العلامة الفقيه الأديب الخطيب الشيخ عبد السلام جبران المسفيوي رحمه الله رئيس المجلس العلمي بعد وفاة الشيخ الرحالي الفاروق{ كان صديقا حميما للوالد رحمه الله وزميلا له في العدالة قبل استقلال المغرب}
- الأستاذ الكبير الأديب الناقد الشهير الدكتور محمد نجيب البهبيتي رحمه الله أحد أعلام الأدب العربي المعاصرين و لصاحب هذه السيرة ترجمة له بملتقى أهل الحديث
- الأستاذ الكبير الأديب الناقد الشهير الوزير المربي الدكتور أمجد الطرابلسي رحمه الله وقد كان للمجلس العلمي بمراكش شرف طبع كتاب خاص عنه بعنوان علم مر من هنا" تأليف الزميل الدكتور عباس رحيلة
- العلامة الفقيه النحوي اللغوي الأستاذ العميد الدكتور المهدي الوافي رحمه الله
- العلامة الفقيه المشارك المطلع الأستاذالشيخ محمد عماد الدين بن الدراوي رحمه الله
- العلامة الأديب الشاعر الفقيه الأستاذ إبراهيم الهلالي مد الله في عمره
- العلامة اللغوي المقتدر الأستاذ محمد بن القزيز مد الله في عمره
-العلامة اللغوي اللساني المعروف الأستاذ أحمد الأخضر غزال مدير معهد التعريب بالرباط سابقا مد الله في عمره
بموازاة مع دراسة صاحبنا بكلية اللغة العربية انتسب في السنة الأخيرة منها إلى كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس وحضر دروس بعض الأساتذة في السنة الأولى كالعلامة الأستاذ الزعيم علال الفاسي والعلامة الأستاذ الشيخ محمد المكي الناصري والأستاذ العلامة الدكتور مصطفى البارودي رحمهم الله وكان في الإمكان أن يواصل دراسته بها لكن هموما أخرى صرفته عن ذلك
كان الموضوع الأول الذي استولى على اهتمامه بعد حصوله على الإجازة العليا في الدراسات العربية هو اتخاذ القرار المناسب فيما يتعلق بمستقبل دراسته خصوصا أمام العرض المغري في ذلك العهد من جامعة طهران
تردد كثيرا في ذلك على الرغم من تشجيع الدكتور عبد اللطيف السعداني رحمه الله له الذي لم يكتف بمراسلته في الموضوع بل بل جاء في زيارة خاصة إلى مدينة مراكش صحبة زوجه الإيرانية وابنيه الصغيرين أو ابنه وابنته الصغيرين و تم بين اللقاء بينهما على موعد بغرفته بفندق النهضة بشارع محمد الخامس و اتفقا على اتخاذ الاجراءات اللازمة للسفر في أقرب الآجال
و فعلا أكب المترجم على تعلم اللغة الفارسية وبدأ يستعد للسفر إلى إيران لكن لحكمة يعلمها الله حالت دون ذلك عوارض شتى كانت ترجح في كل مرة كفة النكوص عن ذلك
جاءت في البداية أحداث الصخيرات بالمغرب والتي انتهت بفضل الله بالفشل ومع أن الجامعة الإيرانية لم تتأخر وكذلك سفارة إيران في الرباط من تجديد الدعوة إلى المترجم للسفر إلى طهران في السنة الموالية لكن صاحبنا قرر بعد تفكير طويل عدم الاستجابة لقناعات جديدة تكونت لديه مع الزمن و تتعلق بميوله و حاجات أمته.
تم الحسم في موضوع السفر إلى إيران ، وبدأ التفكير في الاشتغال بشيء مفيد ، فشارك المترجم في تأسيس جمعية خريجي كلية اللغة العربية بمراكش التي انتخب عضوا في مكتبها إلى جانب إخوة أفاضل من قدماء الخريجن وجددهم
كان من أهم ما تقدم به مكتب الجمعية شيئان :
- إحداث الدراسات العليا بالكلية {السلك الثالث}
- فتح مجالات العمل أمام الخريجين
كما نظمت الجمعية أنشطة ثقافية استدعت لها بعض كبار العلماء أمثال الأستاذ الكبير الرئيس عبدالله إبراهيم و الأستاذة العالمة الدكتورة عائشة عبدالرحمن بنت الشاطيء رحمهما الله و غيرهما
ولم تكن هذه أول جمعية ينشط صاحبنا فيها بل سبق له وهو في بداية دراسته الثانوية أن شارك في جمعية مسرحية كان بعض المسؤولين عليها يرونه مرجوا ليقوم في المستقبل بأدوار طلائعية على الخشبة كما انخرط في جمعية النهضة اليوسفية وشارك في كثير من أنشطتها ، وشارك في تنشيط نادي الكتاب بدار الشباب بعرصة الحامض بمراكش لكنه لم يستمر في ذلك طويلا لقلة اهتمام جل الشباب في ذلك العهد بالكتاب و إقبالهم الكبير -بالدرجة الأولى- على :"كرة القدم" و "المسرح" و"الموسيقى " ثم يأتي الكتاب في آخر الميولات .
بموازاة مع نشاط المترجم داخل بعض الجمعيات المحلية ، حمل مع زملائه من الخريجين الرسميين في كلية اللغة العربية شعار {عاطلون بالإجازة }و نشرت جريدة العلم افتتاحية لها تحت العنوان المذكور
لقد كان هؤلاء كلما كاتبوا المسؤؤلين جاء الرد واحدا "الأسف على عدم وجود مكان شاغر" وتكرر ذلك مرات حتى أيأس ذلك الخريجين المعطلين
وعن رد الفعل لدى صاحبنا تتحدث هذه الأبيات التي ليست سوى محاولة شعرية متواضعة من شاعر صغير قضى سنة من أعجف سنين حياته وأظلمها في البطالة يطوف بشهادته - الإجازة في الدراسات العربية - على المسؤولين يطلب عملا فلا يجد من يصغي إليه
ولما أعياه البحث وأظلمت الدنيا في عينيه ، عاد إلى نفسه يسائلها : ما ذنبي ؟ فلم تفته بغير هذه الأبيات على لسان اللغة الأم ، التي من أجلها حل به ما حل من ضيم :
أولا: قصيدة التحدي
بين قوم جهلونـــــــي * * * ضعت يا خيبة عمـــري
يضحك الجاهل منــــي* * * ليت الجاهل يــــــــدري
نشوتي بعض جنـودي * * *تطرد الهم وتبـــــــــري
قربتي تحت جناحــــي* * * تغرق الأرض بأمـــــري
زورقي وحده يجـــــري* * * كلكم فيه أسيــــــــري
مالكم مثل جنابـــــــي* * * ذروة المجد جـــــــواري
أغرق البحر بدمعــــي * * * أزهر الكون بشعـــــري
جاهل أنت نفــــــــوذي* * * كلكم صنعة فكـــــــري
ثانيا : قصيدة عقوق الأهل والوطن :
ذاب كبدي وفــــؤادي * * * من وعود وعهـــود
والأمانـــي نفخت في * * * روح بـــر و سجـود
ضاع عمري هدرا في * * * بلـــــدة غيـر ودود
ضاع فيها أدبــــــــــــاء * * * زامنوا عهد جحــود
ضاع فيها فقهــــــــــاء* * * زامنوا عهد رعـــود
ما ذنوبي كفـرت رو * * * حـي بكم كفر جدودي
غير أني نصرت بي * * * من بها صح وجــــودي
لن ترى منذ غد منـ * * * ــي هدايا الـــــــــورود
يا جهـــولا جهل أنـ * * * ــي سأعطيه قيـــودي
و أخيرا استجابت وزارة التربية الوطنية للخريجين المذكورين و عينتهم أساتذة للسلك الثاني بالتعليم الثانوي مكلفين بتدريس مادتي التاريخ والجغرافية باللغة العربية لأول مرة في السلك الأول
وعلى الرغم من عدم موضوعية التكليف المذكور إلا أنه كان بالنسبة لصاحبنا فرصة ثمينة لتوسيع مداركه و إغناء مخزونه العلمي المتنوع ، بل وجد في نفسه تجاوبا مع المادتين خصوصا التاريخ الذي سيصبح في المستقبل جزءا أساسيا في تخصصه العلمي الأول.
التحق الفتى و هو لم يتجاوز بعد العشرين من عمره بعمله بثانوية حمان الفطواكي بمدينة دمنات وهي المدينة التي لها مكانة خاصة في عقله وو جدانه ففيها الأهل و الأحباب و منها سيرتبط بشريكة العمر و أم الأولاد رعاها و إياهم الله
أيا بلد الزيتــــــــون فيك أغنــــي + + + بأروع شعر بل بأبدع لــــــــــــحن
ملأت لحاظي يا ســـــواد عيوني + + + ملكت فؤادي يا مهاد فتـــــــــوني
جمالك فوق الوصف فوق بياني + + + جنانك بعض من جنائن عــــــــدن
بأرضك أبصرت الهوى يفنــــــي + + + بأرضك هاجت مهجتي و جنوني
أنا وطني دمنات مرتع حبــــــي + + + لها سكن قلبي كذاك جفـــــــوني
وهناك درس مادتي التاريخ والجغرافية ثم مادة قواعد اللغة العربية ونظم مع طلبته أنشظة ثقافية رائدة في وقتها من أهمها " محاكمات أدبية " ما تزال تذكر فتشكر كما حتمت ظروف المدينة الصغيرة على مثقفيها خصوصا من الأساتذة التفكير في إيجاد أجواء للتسلية و الترفيه على النفس فكان مما تفتقت عليه عبقريتهم تنظيم جلسات للعب السطرنج و لم نجد في تلك الأيام من يبصرنا بحكم الدين في ذلك فتعلم صاحبنا السطرنج بشكل جيد و كان أستاذه فيه زميله الأستاذ محمد أمين العمراني حياه الله.
م تدم هذه الحال سوى نحو سنتين لأن المترجم لم يكن قد أشبع نهمه العلمي بعد ومن ثم قرر مع أربعة من زملائه بمراكش التقدم لمباراة ولوج دار الحديث الحسنية بالرباط و التي شاركوا فيها جميعا لكن الحظ لم يحالف منهم غير صاحبنا الذي سيشد الرحال _بعد تسوية وضعيته الإدارية _ إلى الرباط ليبدأ حياة علمية جديدة يودع فيها _ مؤقتا_اهتماماته الأدبية و يتفرغ للعلوم الشرعية و هناك سيتتلمذ لثلة من العلماء الأجلاء منهم :
_ الشيخ محمد المكي الناصري
_الدكتورة عائشة عبدالرحمن {بنت الشاطيء}
_الدكتور رشدي فكار
_الشيخ عبد الرحمن الغريسي
_الدكتور علي عبد الواحد وافي
_الدكتور ممدوح حقي
_ الشيخ أحمد بن تاويت
_الشيخ مولاي العباس الأمراني
_الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري
_الشيخ عبد الله شاكر الكرسيفي
_ الأستاذ مولاي المصطفى العلوي
_الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله وغيرهم رحم الله منهم من قضى و مد في عمر من ينتظر.
في هذه الفترة اتصل ـ صاحبنا ـ بالدكتور رشدي فكارـ رحمه الله ـ و سجل معه رسالته لنيل دبلوم الدراسات الإسلامية العليا في موضوع "التربية الجنسية في الإسلام" و اقترن ذلك ببداية حياته الزوجية ، و كانت الكتابات الجنسية الملتزمة و المائعة نشيطة في ذلك الوقت غاية النشاط ، و بينما هو يجمع شتات الموضوع من مختلف المظان ، إذا بمدير جديد لدار الحديث يعين ، فكان من أول ما اهتم به مراجعة الرسائل و الأطروحات من حيث طبيعتها و موضوعاتها ، انطلاقا من تخصصه و نظرته للأمور ، و من ثم لم يكن غريبا أن يقترح على صاحب رسالة "التربية الجنسية في الإسلام " تعديل الموضوع لينصب على العلاقة الزوجية ونظام الأسرة ، و الغريب في الأمر أن يوافق على ذلك الأستاذ المشرف ، معللا ذلك بعدم تقبل علمائنا لمثل هذا الموضوع ضاربا المثل بنفسه و ما لاقاه من هجوم عنيف عقب صدور كتابه عن البغاء الوحشي ...
لم يرتح المترجم لذلك ، فقرر ـ إن كان و لا بد ـ أن يغير المشرف لا الموضوع ، فاتصل بالأستاذ العلامة الحسن الزهراوي ، وعرض عليه الموضوع ، فلقي منه استحسانا كبيرا ، و بينما كان يسعى ليكون هو المشرف ، إذا بقدر الله يأتي فيلتحق رحمه الله بالرفيق الأعلى و يبدأ التفكير في اختيار آخر ، لكن أشياء حدثت فأخرت ذلك إلى حين ...
كانت وضعية خريجي دار الحديث الحسنية بالرباط قد عرفت في ذلك العهد ، صعوبات جمة تبعا للوضعية التي باتت تعرفها المؤسسة بسبب غياب كثير من النصوص القانونية المنظمة لها ...
في هذا الوقت و في غمرة ما كانت تنذر به الظروف القائمة من مخاوف ــ قبل صدور القوانين المذكورة ــ جاءتنا أنا و زميل لي عزيز دعوة كريمة من السيد عميد كلية اللغة العربية بمركش أستاذنا الكبير الشيخ الرحالي الفاروق للتدريس بالكلية ، فلم نتردد في الاستجابة لذلك ، و استلام المواد المقترح علينا القيام بها ، على الرغم مما أحاط بذلك من مغامرة أدى زميلي ـ لسوء الحظـ ـ ضريبتها ، ذلك أنه تزامن مع اقتراح تعييننا بالكلية ، تعيين وزارة التربية الوطنية لكل الخريجين غير المعينين بعدد من المؤسسات التعليمية ، و من لم يلتحق يشطب عليه من الويفة العمومية ، و كان من حظي ــ بفضل الله ــ أن تمت المصادقة على تعييني بكلية اللغة العربية بمراكش ، على عكس زميلي الذي تم تعيينه في مؤسسة أخرى ، فكان ما كان مما فصلته في مقال لي منشور بحوليات كلية اللغة العربية بمناسبة تكريم الزميل
كانت الكلية يومها تشكو من خصاص في عدد من المواد الأدبية و الفكرية و التربوية ، فأسندت إلي في البداية مادتا: التربية و علم النفس ، ومادتا :"الفكر الإسلامي" و الفلسفة ، ثم أسندت إلي لسنوات مادة الأدب العربي و تاريخه
كان منطق علمائنا في ذلك العهد أن الأستاذ الكفء هو الذي يدرس كل المواد ، و كان شيخنا العميد يصر على تسمية كلية اللغة العربية :"كلية الدراسات العربية " لتنضوي تحتها كل العلوم والآداب العر بية و الإسلامية
كانت تجربة قاسية بما تطلبته من عكوف على القراءة و التحضير ، و انقطاع عن كل شيء غير ذلك ، لكنها كانت بعد ذلك ، قيمة مضافة أغنت مكتبتينا ، و وسعت مداركنا ...
تولى صاحبنا تدريس الأدب العربي و تاريخه في كل سنوات الإجازة بكلية اللغة العربية ، من الأدب الجاهلي إلى الأدب الحديث ،مما شغله مدة غير يسيرة عن التفكير في موضوع رسالته لنيل دبلوم الدراسات الإسلامية بدار الحديث الحسنية ...
كما وجد نفسه ــ في الوقت ذاته ــ يؤسس مع بعض زملائه لتقاليد علمية لم تكن قد أخذت بها جامعة القرويين بعد، كبحوث الإجازة ، و نظام الشعب ، و فتح السلك الثالث للدراسات العليا
لقد ظل النظام المتبع في كلية اللغة العربية منذ تأسيسها ،هو أن يلقي الطالب الناجح في الإجازة في آخر المطاف عرضا يحضره في مدة وجيزة قبل المثول أمام لجنة الامتحان و إلقائه بين يديها ، و سرعان ما انتصرت ــ بفضل الله ــ إرادة التغيير فأصبح إعداد بحوث الإجازة سارية المفعول منذ ذلك العهد إلى اليوم ، و كان من طلبتي في هذه السنوات و التي تلتها نوابغ من الطلاب ذاع صيتهم في الأوساط العلمية والأدبية أذكر منهم ـ باعتزاز ـ في هذه العجالة الدكتور عبد الإله فونتير و الدكتور عبد الرحيم نبولسي و الدكتور عبد الحميد زهيد و الدكتور أحمد كروم و الأستاذ أحمد البوشيخي ، والأستاذ عبد الرحمان المتقي و الدكتور مصطفى تاج الدين والأستاذ هشام الراجعي ، و الأستاذ أحمد غاووش ، والدكتور آيت مبارك و الدكتور أحمد قادم والدكتورة فاتحة سلايعي والأستاذة فاطمة نبولسي و الدكتور عبد الرحمان الحشمي والدكتور عبد الرزاق فاضل و الأستاذة خديجة صابر و اللائحة طويلة و كلهم اليوم من أعزالزملاء و الأصدقاء
أما الشعب فقد فعلنا ها و تحملنا المسؤولية فيها لفترة طويلة كما كافحنا لسنوات من أجل فتح الدراسات العليا بالكلية حتى أصبحت واقعا معيشا.
بموازاة مع ذلك انخرط صاحب هذه السيرة العلمية في عدة أنشطة موازية من أهمها :
ــ القيام بمهمة الوعظ في مسجد الكتبيين ( الكتبية ) وسط مدينة مراكش ثم في مسجد تركيا في حي جليز، و كانت محكا عمليا للاتصال المباشر بمختلف الشرائح الاجتماعية من رواد المساجد من أهل العلم و الفضل و الخير، كان عدد الدروس ثلاثة في كل أسبوع ، تهتم بكل ما يحرك المشاعر و يرقق القلوب ، و يشرح مقاصد العبادات ، وعصمة الشريعة ، و أسرار الدين وعظمته ...
ــ خطبة الجمعة بمسجد الحي الجامعي بمراكش ثم بمسجد بوكار قبل طلب الاستعفاء للتفرغ للبحث كما سيأتي
و خطبة الجمعة من أصعب المهام الدينية ، فالخطيب يظل طول الأسبوع يفكر في الموضوع المناسب لها ، مع الحرص الدائم على إرضاء المصلين ، الذين يتجمع منهم في هذا اليوم ، ما لا يتأتى في سائر الأيام ...
ــ عضوية جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية ــ عضوية رابطة علماءالمغرب
هذه كلها مجالات تنسجم مع التخصص العلمي و التوجه العملي مما ساعد على إعادة الوعي بضرورة ، تحضير الدبلوم و الدكتوراه.
لم تكن رابطة علماء المغرب غريبة عن صاحبنا فقد كان حاضرا في مؤتمرها الرابع بمراكش مع إخوانه أعضاء مكتب جمعية خريجي كلية اللغة العربية ، وكان منهم الأستاذ الشاعر محمد السميج الأندلسي و الأستاذ الشاعر والكاتب محمد السعيدي الرجراجي و الأستاذ المدرس محمد ابن عزوز و الأستاذ المحامي عبد اللطيف ابن عطية رحمه الله و غيرهم و استطعنا على الرغم من أننا كنا مجرد ملاحظين، أن نحصل على مساندة المؤتمر لنا في مطلبنا المتعلق بفتح السلك الثالث بكلية اللغة العربية بمراكش و تبني ذلك في توصياته ، ثم لم ألبث بعد ذلك أن أصبحت عضوا في الرابطة و حضرت بهذه الصفة مؤتمر الناضور و مؤتمر مكناس و مؤتمر العيون ، كما أصبحت من كتاب صحيفة "الميثاق " لسان رابطة علماء المغرب إلى درجة أنني لما توقفت عن ذلك بسبب انشغالي بتهييء رسالتي لنيل دبلوم الدراسات الإسلامية كتب إلي الأمين العام للرابطة في ذلك العهد ــ أستاذنا الكبير العلامة الشيخ عبد الله كنون ــ ردا على رسالة بعثت بها إليه أسأله عن أمور خاصة قائلا: أين غيبتك عن جريدتك و أين أبحاثك المفيدة .، و هي واحدة من مجموعة من الرسائل الجاهزة للطبع إن شاء الله ...
أما جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية ، فحضرت مؤتمرها الثاني بمراكش و كنت يومها أستاذا طالبا بدار الحديث الحسنية ثم أصبحت عضوا في الجمعية ، و حضرت مؤتمرها بالرباط ، و لم أقع ـ بفضل الله ـ في الصراع الذي دار في هذا المؤتمر بين طائفتين من الخريجين ـ على الرغم من إنزالي في أحسن فندق في العاصمة ثم استدعائي بعد ذلك لأكون ضمن المدعوين باسم و فد الخريجين لحضور حفل الاستقبال المقام داخل القصر الملكي بمراكش بمناسبة "عيد العرش" و هي أول مرة في حياتي أشرف فيها بالدخول إلى القصر الملكي
إن صاحبنا يومن بأن التفرقة لا تأتي بخير أبدا ، و أن العلماء أولى الناس بالدعوة إلى الوحدة و جمع كلمة الأمة ، و من ثم ظلت علاقتي بكل الخريجين قائمة على المودة و الاحترام ، مع الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم.
و أخيرا عقد صاحبنا العزم على مواصلة مسيرته العلمية الأكاديمية ،فاتصل بالدكتور محمد الراوندي الأستاذ بدار الحديث الحسنية و سجل تحت إشرافه رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية و الحديث في موضوع " نفس الصباح في غريب القرآن و ناسخه و منسوخه " لأبي جعفر أحمد بن عبد الصمد ابن عبد الحق الخزرجي (ت 582هـ) ـ دراسة و تحقيق . فكان نعم الأستاذ المشرف في علمه و فضله و نبله ...
و الدكتور الراوندي تمرس بالبحث و التحقيق تحت إشراف أستاذتنا الكبيرة الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ ـ رحمها الله ـ التي لازمها طويلا و استفاد منها كثيرا ... فأصبح في حياتها و تحت عينيها مرجعا معتمدا في التراث العربي الإسلامي عامة و المغربي والأندلسي خاصة
و قد عرفت كلية اللغة العربية خلال إعداد هذه الرسالة تحولات كثيرة ، كان صاحبنا حاضرا فيها و شاهدا عليها ، فعميد الكلية اليوم هو الدكتور المهدي الوافي الذي خلف الشيخ العميد الرحالي الفاروق الذي انتقل إلى عفو الله ، و كانت الكلية قد عرفت تعيين أساتذة جدد تخرجوا من معهد جديد عرف في تلك الفترة بمركز تكوين المكونين، و كان بعضهم متشبعا بأفكار اليسار المتطرف ، فأخذوا يمررون خطابهم من خلال دروسهم ، و يكررون على مسامع الطلاب مقولات طه حسين و من سبقه من المستشرقين في التشكيك في بعض ما جاء في القرآن الكريم من قصص و أخبار مما انتهى الناس منه من زمان ، لكن أستاذنا العميد لم يتحمل ذلك و لم يتمهل في اختيار العلاج المناسب له ، ففتح عليه جبهات متعددة كان في غنى عنها، و لجأ خصومه إلى الصحافة فبدؤوا يهاجمونه بالحق و بالباطل ، مما جعلني و كان قد أسند إلي ـ رحمه الله ـ رئاسة قسم الموظفين ، أن أبادر بمؤازرة من بعض الزملاء الغيورين على سمعة الكلية إلى إيقاف هذه الحملة بتكذيب ما جاء فيها ـ و كان فعلا لا أساس له من الصحة ـ وكان ذلك بمصادقة معظم أساتذة الكلية
و في خضم هذه الظروف ناقش صاحبنا رسالته لنيل الدبلوم أمام لجنة علمية تتكون من الأساتذة : الدكتور محمد الراوندي رئيسا و الدكتور محمد يسف و الدكتور حسن الوراكلي عضوين و كان من ضمن الحضور الدكتور العميد المهدي الوافي و كانت النتيجة الحصول على دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية و الحديث بميزة:حسن جدا.
كان ـ العبد الضعيف ـ قد تسرب إليه الإرهاق الشديد بسبب ظروف العمل المتوترة ، و معاناة البحث و التحقيق ، و كان في أمس الحاجة إلى رحلة ينسى فيها همومه ، و يرتاح فيها من نصب العمل وخصومات الزملاء ، و فجأة و على غير موعد ، تلقى دعوة كريمة من المملكة العربية السعودية لحضور الملتقى السادس للجنادرية و ظل و هو على متن الطائرة يردد دون أن يمل الآية الأولى من سورة الإسراء {بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }
لقد كانت فعلا رحلة (غير منتظرة ) جاءت لتسري عن صاحبنا و تسليه قبل كل شيء و لتحقق أمورا لم يعرفها في حياته من قبل ، إنها المرة الأولى التي يركب فيها الطائرة و لو خير لما ركبها أبدا ، فقد كان في ذلك على رأي أمير الشعراء أحمد شوقي و موسيقار الجيل محمد عبد الوهاب :" أركب الأسد و لا أركبها " لكن شاء الله أن تكون البداية لرحلات لم تنقطع بعد ذلك حتى باتت تعد اليوم بالعشرات ...
لم أكن أعرف موضوع الزيارة ، و لا الجهة المرشحة لحضور الملتقى ، كل ما علمته ، أن الأمور تسير تحت الرئاسة الفعلية لصاحب السمو الملكي و لي العهد و رئيس الحرس الوطني الأمير عبد الله ( خادم الحرمين اليوم حفظه الله).
كانت الرحلة بالليل انطلاقا من مطار محمد الخامس على متن طائرة بوينغ 747 تابعة للخطوط السعودية و في الدرجة الأولى التقيت بثلاثة من الزملاء المدعوين للملتقى هم : الدكتور حسن الأمراني الشاعر الإسلامي المعروف و الذي سيظل رفيقي طيلة المدة التي قضيناها في المملكة العربية السعودية والمسرحيان الدكتور عبد الكريم بن رشيد و عبد الرحمن بن زيدان
و بعد ست ساعات من الطيران في ليلة لم أذق فيها طعم النوم ـ و عادتي أن لا أنام في سفر ـ حطت بنا الطائرة في مطار جدة الدولي ، لننتقل بعد وقت وجيز إلى طائرة أخرى ستقلنا إلى الرياض ، ، كانت الطائرتان من نفس الطراز وكان الاستقبال واحدا فناجين القهوة العربية و التمر الشيء الوحيد الذي اختلف هو انسحاب المضيفات و الاقتصار على المضيفين ...
و بعد نحو ساعة أو تزيد قليلا حطت بنا الطائرة في مطار الملك خالد بالرياض و هو مطار غاية في الجمال ، وحسن النظام
كان الاستقبال حارا و ممتازا ، و كانت في انتظار كل واحد منا سيارة فارهة بسائق خاص ، لم تلبث أن اتجهت بنا صوب فندق الرياض حيث ستكون إقامتنا لنحو عشرة أيام قادمة ...
و في عشية ذلك اليوم التحق بنا الفيلسوف المغربي الشهير صاحب الشخصانية الدكتور محمد عزيز الحبابي رحمه الله و برفقته زوجه الدكتورة فاطمة الجامعي ، و لا زلت أذكر جيدا كيف قال لنا ـ غفر الله لنا وله ـ أنا و الأخ الدكتور حسن الأمراني : أرجوكما كلما سمحت لكما ظروفكما أن ترافقاني في جولة على الأقدام فقد حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب و النساء و جعلت قرة عيني في المشي.
نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله تفضل صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد و نائب رئيس مجلس الوزراء و رئيس الحرس الوطني ـ إذ ذاك ـ برعاية افتتاح فعاليات المهرجان الوطني السادس للتراث و الثقافة و ذلك يوم الأربعاء 3 شعبان 1410 الموافق ل 28 فبراير 1990 بحضور أصحاب السمو الملكي الأمراء و المعالي الوزراء و عدد من رجال الثقافة و الفكر الأدب في العالم العربي
و في اليوم الموالي انطلقت أعمال المهرجان بفندق أنتركوننتال بقاعة الملك فيصل للمؤتمرات حيث افتتح صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد رحمه الله الندوة الثقافية الكبرى للموروث الشعبي في العالم العربي و علاقته بالإبداع الفني و الفكري ، و قد بدأ الحفل بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم ، ثم كلمة الحرس الوطني ، قبل إلقاء كلمة الأمير فيصل بن فهد التي افتتحت بها الندوة
ثم انطلقت الجلسة الأولى من جلسات الندوة الثقافية الكبرى التي قدم ورقتها الدكتور علي الراعي في موضوع " الفن المسرحي في العالم العربي ـ تاريخه و عوامل ظهوره " ترأس الجلسة الدكتور منصور الحازمي ، وشارك في مناقشة الورقة : الأستاذ الفريد فرج و الدكتور عبد الله الحامد و الدكتور عبد الكريم برشيد .
يصعب في هذا الموجز الحديث عن المهرجان الوطني السادس للتراث و الثقافة بكل تفاصيله مما خصصته برسالة مستقلة و حسبي ـ هنا ـ أن أقتبس بعض الأقباس من ذلكم اللقاء الثقافي الكبير .
كان من أهم ما ميز المهرجان استقبال صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد و نائب رئيس مجلس الوزراء و رئيس الحرس الوطني (خادم الحرمين ـ اليوم ـ ) بقصره بالرياض رجال الفكر و الثقافة و الأدب من داخل و خارج المملكة المشاركين في أنشطة المهرجان .
و قد تناول الجميع طعام الغذاء على مائدة سموه .
و تواصلت الجلسات في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات في أجواء من المسؤولية و الحوار الجاد الهادف ...
و تميزت الندوات الفكرية التي عقدت في إطار المهرجان بإثارة عدة قضايا هامة ، شارك فيها عدد من ألمع العلماء و المفكرين في العالم العربي و الإسلامي
و سعدنا على هامش المهرجان بحضور حفل جائزة الملك فيصل و عدة تظاهرات و حفلات ودعوات كريمة... لها تفاصيل في كتيب خاص.
بعد عشرة أيام حافلة بالذكريات الجميلة الرائعة في مدينة الرياض توجهت بنا الطائرة إلى المدينة النبوية المنورة المطهرة على ساكنها أفضل الصلوات و أزكى التسليم وكنت برفقة الأخ الدكتور حسن الأمراني و الدكتور محمد عمارة والأستاذ السيد ياسين ، حطت بنا الطائرة بالمطار يوم الخميس على الساعة التاسعة و خمسة و أربعين دقيقة ليلا و وجدنا في انتظارنا أحد رجال الحرس الوطني اسمه فيما أذكر متعب الذي توجه بنا مباشرة إلى فندق ـ اسمه دلة ر مضا ، و كان يطل على المسجد النبوي ، و من نافذة غرفتي و من النظرة الأولى رأيت نورا شدني و لم يفارقني إلى اليوم ، و أكرمنا الله بصلاة الفجر و الصبح فيه صبيحة يوم الجمعة ، ثم بصلاة الجمعة و السلام على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما بعد صلاة الصبح و بعد صلاة الجمعة كما قمنا بزيارة مقبرة الشهداء قرب جبل أحد ... و مسجد القبلتين ، و مسجد قباء ... وكان الدكتور محمد عمارة يتحفنا بين الفينة و الأخرى بتعليقاته و تنبيهاته المفيدة ...
دخلنا مدينة جدة قادمين إليها من المدينة النبوية المنورة ، يوم الجمعة {10/03/1990م} حيث حطت بنا الطائرة في مطار جدة الدولي حوالي الساعة الخامسة عشية ، و وجدنا في انتظارنا السيارات التي أوصلتنا إلى "فندق الحمراء سوفتيل جدة " حيث سنقيم ثلاثة أيام الأخيرة من زيارتنا للمملكة العربية السعودية ، و بمجرد وضعنا لأمتعتنا في الفندق المذكور توجهنا نحن الأربعة إلى مكة المكرمة لأداء العمرة
كانت بالنسبة لي أول مرة أزور فيها البقاع المقدسة ،و كان شوقي دائما إلى ذلك كبيرا ، و من ثم انتابني عندما وقع بصري على الكعبة لأول وهلة ذهول كبير و شعور في الوقت ذاته بالفرحة العارمة و بالأمن و الطمأنينة فطفت و صليت و سعيت في نشاط منقطع النظير , و دون أدنى شعور بالتعب ، و ظللت بعد ذلك مشدودا إلى الكعبة أتملى بطلعتها و أتقرب إلى الله بذلك لا يكاد يشغلني عن ذلك ،سوى إشارات الدكتور عمارة للأستاذ ياسين أن يغطي فخذيه كلما تكشفتا خصوصا عند جلوسه ... و بقينا في بيت الله الحرام بعد أن أدينا العمرة إلى أن صلينا العشاء و ما شاء الله من نوافل ثم عدنا إلى جدة في الليلة نفسها ...
و في اليوم الموالي يوم السبت توجهنا من جديد إلى مكة المكرمة ـ أنا و الأخ الدكتور حسن الأمراني ـ فأدى كل واحد منا عمرة عن والده رحمهما الله ثم بقينا في البيت العتيق إلى أن صلينا العشاء و ما شاء الله من نوافل
، و أذكر أننا لما خرجنا من المسجد الحرام للتوجه إلى جدة ،وجدنا السائق ـ عفا الله عنه ـ في حالة من الغضب لم يخفها بل توجه إلينا قائلا: إن هاهنا كثيرا من أهل بلادنا من لم يحج و لم يعتمر و أنتم كلما دخلتم البيت سكنتم فيه ، و فضلنا الصبر عليه و عدم الرد عليه تقربا إلى الله بذلك.
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية: أتاح لي حضوري بالمهرجان الوطني السادس للتراث و الثقافة بالمملكة العربية السعودية ،عدة فرص للقاء ببعض الأعضاء المسؤولين عن الرابطة على هامش أشغاله ، و التي كان يومها الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله رئيسها ، و من هؤلاء الدكتور أبو صالح عبد القدوس نائب الرئيس في ذلك الوقت والرئيس فيما بعد ، مع الاعتراف بما كان للأخ الدكتور حسن الأمراني المسؤول عن مكتب الرابطة بالمغرب من فضل علي في ذلك
و جاء هذا الانخراط المبكر في الرابطة متجاوبا مع إيماني الراسخ بأن الأدب ليس بمعزل عن الدين كما قال علي بن عبد العزيز الجرجاني و روج له كثير من النقاد دلت على ذلك نصوص الكتاب و السنة و عمل الصحابة و التابعين و أقوالهم
و جسدته ابداعات الشعراء و لمساتهم و نظرات النقاد و تقويماتهم و هو عالمي لا يختص بلسان أو مكان و إنما بمبادئ الإسلام و قيمه ، و الفن في حضارة الإسلام لا ينفصل عن الأخلاق ، وكل فن لا يخدم قيم المجتمع ساقط لا قيمة له و من ثم كان الالتزام الإسلامي شرطا لقبول الأدب .
أنشطة علمية مختلفة :
1ــ الجامعة الخريفية :دأبت وزارة الشؤون الثقافية منذ مدة على تنظيم ندوات علمية في تاريخ الدولة العلوية الحاكمة بالمغرب ، أطلقت عليها اسم "الجامعة الخريفية " و تنعقد في مدينة الريصاني بإقليم الراشدية مهد الدولة العلوية ، ويتم ذلك من حيث الزمان في أواخر فصل الخريف من كل سنة ... توصلت من الوزارة المذكورة بدعوة كريمة أولى و ثانية للمشاركة في أعمالها ، فلبيت الدعوة ، و شاركت في دورتين من دوراتها الأولى، ببحثين منشورين ضمن أعمالهما ، و قد تزامن ذلك في دورته الثانية ، مع تعيين العميد الجديد لكلية
اللغة العربية بمراكش ، الذي لم يخف موقفه من هذا الأمر ، الذي تجلى في رفضه الإذن لبعض الزملاء بالسفر لحضور أعمال الجامعة الخريفية ، بدعوى أهمية هذه المرحلة بالنسبة للطلبة ... و على الرغم من أنه لم يعاملني بالمثل ، إلا أننا لم نتوصل بالدعوة بعد ذلك في السنوات الموالية ، و كنا ثلاثة أساتذة شاركنا في ندوات الجامعة الخريفية قبل ذلك ، ثم تخلف بفعل فاعل الله يعلمه ...
لم نكلف أنفسنا عناء البحث عن السبب ، لكننا لم نستبعد أن تكون للكلية يد في ذلك خصوصا مع الموقف المشار إليه من قبل من أحدنا ...
ــ الحج إلى بيت الله الحرام: لم يكن صاحبنا يتوقع أن ينادى عليه للقيام بمهمة مرافقة حجاج مدينته ـ مدينة مراكش ـ إلى البقاع المقدسة ، ضمن البعثة العلمية ، لكنه لم يستغرب أن يقع ذلك لما يعهده في السيد رئيس المجلس العلمي إذ ذاك صاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبد السلام جبران ،من حب للخير و براءة من الحقد و الضغينة ــ تغمده الله بواسع رحمته ــ ومهما يكن فقد يسر الله لصاحبنا حجة مباركة ميمونة ستكون فاتحة خير كثير بالنسبة له ...و كان رفيقه وشريكه في هذه المهمة النبيلة الأخ العزيز والصديق الوفي الأستاذ محمد البايك ، الذي ساعد كثيرا في إغناء الجانب العلمي و المعرفي لهذه الرحلة التي استغرقت نحو أربعين يوما، قضينا تسعة عشر يوما الأولى منها بالمدينة النبوية المنورة ، والباقي بمكة المكرمة و منى و عرفات ... اغتنمنا مدة إقامتنا بالمدينة بالمواظبة على الصلاة في المسجد النبوي في غالب الأوقات، كما صلينا في عدد من المساجد الأخرى ،كان أقربها إلى محل إقامتنا مسجد الإجابة ، و إلى جانب أدائنا لواجب التأطير اليومي لحجاجنا ، و التأكيد لهم على أنه لابد لهم من علم ما لا يعذر الحاج بجهله ، و أنه يلزمهم التحلي بالأخلاق و الفضيلة ، و الابتعاد عن المراء والجدل ... ثم عليهم أن يستحضروا دائما أنهم يمثلون في مؤتمر المسلمين الأكبر بلدهم و ملكهم و شعبهم الذين من حقهم عليهم أن يكونوا لهم خير سفراء في تلكم الربوع الطاهرة ... و على هامش ذلك كانت لنا جولات ماراطونية على الخزائن و المكتبات ، و لقاءات أخوية مع عدد من العلماء ، وقد وجدنا في الأخوين العزيزين :مولاي الحسن العلوي ، و السيد عبد الرحمن شطو ما اختصر علينا المسافة في الوصول إلى كثير من المآرب و الوقوف على كثير من المؤسسات الدينية و العلمية ، كمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ،و كلية اللغة العربية ، التي لم نكن نتوقع أن نجدها ـ للأسف ـ في تلك الحال المزرية التي وجدناها عليها ـ في ذلك الوقت ـ إلى جانب جلسات علمية لا تنسى في ضيافة الأخوين الكريمين...
لم ندع فرصة وجودنا بالمدينة النبوية المنورة ، تمر دون أن نزور مكتبة المسجد النبوي الشريف ، حيث وقفنا على بعض المخطوطات ، بل صورت أحدها و هو " كتاب فتح الرحمن و راحة الكسلان في رسم القرآن" تأليف محمد أبو زيد الراعي ، و كنت يومها أعد العدة لتحقيق كتاب " عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل " لأبي العباس أحمد بن البناء المراكشي ، قبل أن تقوم الدكتورة هند شلبي بتحقيقه ، و كان يومها قد ظهر كتاب مهم في هذا الموضوع هو" رسم المصحف " للدكتور غانم قدوري ، الذي كان من ضمن الكتب التي اقتنيتها من المدينة على ساكنها أفضل الصلاة و أزكى التسليم ...
و جاء موعد شد الرحال إلى بيت الله الحرام ، فجمعنا أشياءنا و تهيأنا للإحرام من الميقات {آبار علي } حيث توقفنا لفترة قصيرة اغتسلنا خلالها و تجردنا من المخيط و المحيط و صلينا المغرب قبل أن تنطلق بنا الحافلة ، نحو مكة المكرمة في رحلة لم تخل من أتعاب و مخاطر ، بسبب السائق الذي كلما توقف في محطة طلب " البقشيش" فكان إذا جمع ما يرضيه ارتاح و أراح ، و إذا لم تكون الاستجابة في حدود ما يريد ، بقي واقفا لمدة طويلة و كثيرا ما يتظاهر بالنوم ، حتى إذا تعالت أصوات الاستنكار ، انطلق كالسهم في سرعة جنونية ، لا يسع الركاب أمامها إلا أن يخضعوا من جديد لا بتزازه اشتراء لراحتهم و طلبا لسلامتهم ...
قبل طلوع الفجر بقليل، كانت الحافلة تقف بنا أمام عمارة السقاط ، في حي جرول بمكة المكرمة قريبا من بئر طوى ، و كانت العمارة يومها جديدة ، و في حين أشعر كل الركاب بأنهم ستكون العمارة المذكورة مقر إقامتهم ، أخبرنا أنا و رفيقي و زميلين لنا من البعثة العلمية ، بأن مكان إقامتنا سيكون في مكان آخر غير هذا ، و بعد تحريات خاصة ،علمنا أننا سننزل في مكان جد بعيد ، فصممنا على البقاء في عمارة السقاط ، و بعد أخذ ورد تمت تلبية رغبتنا ، لكن في غرفة يكون معنا فيها شخص و أمه ، و هو ما جعلنا نحتج بقوة ، و نتهم بعض أفراد البعثة الإدارية المغربية، الذين دبروا هذا الأمر ، بالسعي إلى إهانة العلماء و التضييق عليهم ،و نزع هيبتهم من قلوب العامة ، و وصل الخبر إلى بعض المسؤولين ، فجاء من أقصى المدينة يسعى ـ و الله أعلم بما كان يدور في خلده ـ فلما رآنا و كان يعرفنا عز المعرفة لم يسعه إلا الاعتذار عما حدث ... وبعد أن وضعنا أمتعتنا و رتبنا أمور إقامتنا ،توجهنا إلى بيت الله الحرام ،حيث أدينا العمرة ، و كنا قد دخلنا بالتمتع...
و تبدأ الفترة المكية في أجواء من الحرارة المفرطة ، و نوع من الغلظة و الجفاء في المعاملة أحيانا ، و في كثافة سكانية مرتفعة بمناسبة موسم الحج ...
لكن هذا كله لم يمنعنا من أداء مهمتنا العلمية على أحسن وجه ، مع الحرص على الصلاة في المسجد الحرام في أغلب الأوقات ...
و في مكة التقينا بثلة من العلماء من مختلف جهات المعمور و من مختلف المشارب و التوجهات ، مما آثرنا فيه التزام الحياد ، و لم نتردد في تلبية دعوات كريمة، و استجازة بعض العلماء، مما كان من المنافع التي استفدنا منها بمناسبة أداء فريضة الحج التي جئنا من أجلها أساسا ، و أقف عند هذا الحد ، لأن ما بقي محض عبادة ، ابتداء من يوم التروية إلى آخرأيام منى ،و ما رافقها من الصعود إلى عرفات و الوقوف بها ، و النزول بمزدلفة ثم العودة إلى منى و رمي الجمار و الحلق أو التقصير، ثم الذهاب إلى بيت الله الحرام لأداء الركن الأخير من أركان الحج الخ ...
3ــ دروس و محاضرات بمدينة بوجدور :
في إطار العناية بتوعية المواطنين بشؤون دينهم في مختلف جهات المملكة المغربية ، و انتقال العلماء إليهم في بعثات ، كان لي شرف الانتداب للقيام بهذه المهمة خلال صيف 1992م بمدينة بوجدور إحدى مدن الصحراء المغربية، و كان رفيقي في هذه المهمة الأستاذ المحجوب أزكروز و هو رجل فاضل و على خلق
كنا نلقي دروسنا و مواعظنا يوميا في المسجد و تحت الخيام في جمهور غفير متعطش لمعرفة أحكام الدين الحنيف و آدابه ، متجاوب مع خطابنا الذي كنا حريصين على أن يصل إلى الوجدان و الأذهان بيسر و دون كبير عناء ، لانبثاقه من البيئة المغربية بكل خصوصياتها و اختياراتها وفي طليعتها الثوابت الدينية التي ظلت عبر العصور سر وحدة و استقرار هذا البلد الأمين ...
و قد وجدنا لدى مختلف الشرائح الاجتماعية رغبة أكيدة في معرفة أحكام الدين و آدابه فيما يتصل بكثير من القضايا اليومية المعيشة، خصوصا في مجال تربية الأبناء و العلاقات الزوجية ، مما اجتهدنا في معالجته ، بالشكل الذي كانوا يجدون له تطبيقات عملية في حياتهم ، حتى إنه كان كثيرا ما يفاجئنا أحدهم ببيت شعر أو مثل شعبي يلخص الحكم أو القاعدة التي نتحدث عنها ، و قد تجد من يقرأ عليك من حفظه أبياتا في الموضوع من منظومة المرشد المعين لابن عاشر أو من تحفة ابن عاصم مما يدل على عراقة هذه البلاد و تشبثها بهويتها بشكل واضح صريح ، و باختصار كانت رحلة لا تنسى ...
بقلم الدكتور عزالدين المعيارالإدريسي
ملحوظة:الترجمة لم تتم بعد، في انتظارتزويدنا بالتتمة من قبل المترجَم له.