وهكذا بدأ راس النظام في تنفيذ السيناريو الأخير..
من دهاء النظام الأردني، أن رأس النظام بدأ حواراتِه مع القوى السياسية، بشكل أعلن أنه يريده جادا، ليخرِجَ البلاد من أزمتها بعد أن مهَّد لبيئةٍ حِوارية تقوم على الركائز الأربع التالية..
الأولى.. المصادقة النهائية على قانون الانتخاب المُعْترَض عليه، بعد إجراء تعديل طفيف على مقاعد القائمة المغلقة، لتصبح 27 مقعدا بدل 17 مقعدا..
الثانية.. ترك باب طرح "مكرمة ملكية تعديلية" إضافية على القانون المُصادَق عليه مُواربا، بتمرير فكرة احتمال العودة إلى مبدأ الصوتين الذي طرحته حكومة "عون الخصاونة"، كرشوة محتملة لـ "المنافقين الجدد"..
الثالثة.. التأكيد على ضرورة إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرَّر دون أيِّ تأخير وتحت أيِّ ظرف..
الرابعة.. الترويج لاحتمال إعلان قانون الطوارئ استنادا إلى المادة 124 من الدستور، بعد التمهيد لذلك إعلاميا بإبداء القلق على أمن البلاد واستقرارها من تداعيات الوضع السوري، ومن تداعيات استفحال العنف المجتمعي..
فبالركيزتين الأولى والثانية، يضع النظام القوى المقاطِعَة، وعلى رأسها "الإخوان المسلمون" و"الجبهة الوطنية للإصلاح"، في دائرة عدم توقُّع تغييرات جوهرية في القانون تتناسب مع طموحاتهم التي أعلنوا المقاطعة على أساسها..
وهذا نوعٌ من "الخنق السياسي" الحقيقي الذي يقلِّل من قدرة تلك القوى على المناورة السياسية، مادام كل ما تهدف إليه تلك القوى، هو مقعد نيابي هنا ووزير هناك، لأن النظام بالزج بتلك القوى إلى هذه الدائرة، إنما يخيِّرها بين أمرين..
فإما أن تعودَ إلى معارضتها "المهادنة" و"المحافظة" التي ستكون ضاغطة على قوى الحراك الشعبي، كي تكسبَ مكسبا نسبيا لا يُحْرِجُ النظام، ويبقيه متماسكا ومتوازنا بدون خسائر جوهرية مؤلمة..
على أن يكون واضحا أن تلك القوى ليس من حقها أن تحلمَ بأكثر من ذلك المكسب..
لأن النظام في حال اضطراره لتقديم تنازلات مؤلمة، فإنه يفضل أن يقدمها لـ "قادة المرحلة الجدد"، وذلك لكي يمتلكَ ضمانات حقيقية بالسيطرة على الشارع..
وليس لتلك القوى التقليدية ذاتها التي ليست أكثر من حرس قديم عليه أن يقايض النظام على بعض حبات "الفياغرا" بعد أن أصبحت رائحته تزكم الأنوف، وترهلات جسده تثير القرف ليس إلا..
وإما أن تخسرَ المرحلة، لأنها لن تستطيع أن تصبح ثورية أكثر من الحراك، ولن تنتزع الشارع منه في المرحلة القادمة..
فهي إن لم تقبل بمبدأ كسب الفتات الذي يجود به النظام عليها، مقابل استجابتها للحيثيات التي يريد محاصرة القادة الجدد وفعالياتهم في الشارع بها، فإنها ستخسر حاضرها ومستقبلها، وستطوي ملفاتها السياسية لتذهب وبشكل نهائي إلى حيث تكون نواةً للمتحف السياسي الأردني..
إنها نوع من المقايضة الذكية التي يعرف النظام أن تلك القوى السياسية التقليدية غير مُدَرِّبَة على تحديها أو على القبول بالخسارة التاريخية الناتجة عن ذلك التحدي، في ظل وجود بديل ينازعها السيادة الحقيقية على "قيادة المرحلة"، وهو الحراك الشعبي والقوى السياسية الجديدة التي هي قيد الانبثاق منه..
وبالركيزتين الثالثة والرابعة، فإن النظام يبعث برسالةٍ واضحة إلى تلك القوى، مفادها أن الرهان على عنصر الزمن ليس لصالحها ولن يجديها نفعا، لأن مفاتيح هذا العنصر بيده هو وليست بيدها هي..
فهو وإن كان قد قرَّر أن تكون الانتخابات في موعدها، في فسحة زمنية غير كافية لخلق توافقات معها إن هي أرادت الاستخفاف بصرامته..
فإنه ينبهها بوضوح إلى واقعة أنه يستطيع تغييبها نهائيا، بأن يغلق عليها باب المستقبل، إذا قررت أن تتخلى عن دورها التاريخي في المعارضة الناعمة والرقيقة، التي تعطيه شرعيته الديمقراطية دون أن تمنحها طليعية أو وطنية رائدة..
وذلك عبر فتح الطريق أمام جيل جديد من القيادات السياسية والفكرية من قلب الحراك ونشطائه وقادته الجدد، من خلال إعلان حالة الطوارئ وفق المادة 124 من الدستور، ليخلق حالة حوار وتفاوض ومقايضة مع هؤلاء، بدلا من تلك القوى التقليدية..
وهو إذ ينبه إلى احتمال لجوئه إلى إعلان "حالة الطوارئ" كمدخل لهذا التوجه الاستبدالي، فلأنه يريد أن يجعل القوى التقليدية تفهم، أن هؤلاء الجدد لا يمكن التفاوض والحوار معهم في مكاتب "الديوان الملكي" و"دائرة المخابرات العامة"، لأنهم يختلفون عنهم، ولأنهم يملكون أوراقا لا يملكونها هم، وهي التواجد في الشارع الذي أصبح أداة التغيير الحقيقية في هذه المرحلة..
وهو ما يجعل ضرورة تدجينهم ليصبحوا طيورا بلا مخالب لا تتم إلا في "الزنازين"..
إذن فالنظام يلعب آخر أوراقه مع المعارضة التقليدية، بأن يقايضها على ما من شأنه أن يضرب به الحراك الصاعد والقادة الجدد..
وكأن رأس النظام يقول عبر "تحركاته" و"مواقفه" و"ممارساته" و"رسائله الضمنية" وبمنتهى الوضوح:
أيتها المعارضة التقليدية المحافظة الناعمة..
أيها الإخوان المسلمون..
أيتها الجبهة الوطنية للإصلاح..
أيها اليسار المحتضر..
أيها القوميون المتكلسون..
يا جميع الوصوليين والمرتزقة ومناضلي التَّكَسُّب السياسي الرخيص..
مازلت أُفَضِّلُ التعاملَ معكم على التعامل مع الحراك بقياداته الشعبية الجديدة، رغم أن رائحة الجثث تنبعث من جنبات أكواخكم السياسية المهترئة، مادامت هذه القيادات الصاعدة لم تصل بعد إلى مستوى فرض معادلاتها على الأرض بالشكل الذي يجعلني وإياكم أرقاما بلا قيمة..
بعد أن تمكنت أنا، وأجهزة أمني، وجهاز مخابراتي، وبلطجيتي، وأبواقي الإعلامية، ودعاة الإقليمية ورعاة العصبية الذين جهزهم "أبي طيَّب الله ثراه" خلال أكثر من 30 عاما، لأستكملَ أنا تجهيزهم بعده، من عمل كل ما في وسعنا لإرباك بنيتهم وحراكهم، وإرسال رسائل تطمين لمن يشبهونكم منهم، بأن جعبتنا ما تزال تحتوى على فرص لمستقبلٍ سياسي واجتماعي واقتصادي مشرق..
مع أن الكثير من تلك القيادات عنيدة مثابرة صبورة، تحاول كل ما في وسعها لأجل تحييدنا جميعا وانتزاع المستقبل من أيدينا أنا وأنتم ومعنا وصولييهم هم انفسهم..
وأنا إذ أفعل ذلك معكم، فلأنكم أضمن لي على مدى العقد القادم من هؤلاء..
فمعكم مازلت أرى قدرتي على أن أكون وأستمر وأقلِّص حجم تنازلاتي التي أعتبركم أقدر على التعايش السياسي معها، من هؤلاء الذين راحوا يفرضون عليَّ وعليكم مفاهيم جديدة للوطن الأردني وللدور الأردني، ما تعودت ولا أنتم عليها وعلى التحرُك السياسي محليا وإقليميا من خلالها..
فاقبلوا بعروضي التي لا شك أنكم فهمتموها جيدا من خلال خريطة تحركاتي الأخيرة أنا ومخابراتي وحكوماتي..
فأنتم إن قبلتم بما أعرضه عليكم، تكونون قد ضمنتم استمرارَكم في مقدمة الفعل السياسي القادم، وسأشرككم في إدارة الدولة بشكل يحفظ ماء وجهكم الذي هدرتموه خلال عامٍ ونصف، وسوف تكونون محل رضى الأميركان والصهاية والخلايجة العرب حيث البترودولار الذي تعرفون بريقه جيدا..
ومع ذلك، وإن كنتم جادين في بعضٍ من بقايا الوطنية التي أظهرتكم المرحلة وكأنكم حريصون عليها أمام أتباعكم وحوارييكم، فلن تعدموا الحجة البراغماتية – كعادتكم – كي تقنعوا قواعدكم الحزبية، والحارات والأزقة الشعبية التي ما تزال تسمع منكم مخدوعة بكم، بأنكم قبلتم الصفقة كي تنقضوا على النظام يعد أن تمهدوا وتؤسسوا للمرحلة القادمة..
ولا تقلقوا – عندئذٍ – من باقي الشعب ومن القادة الجدد الذين أرعبوكم وأقلقوكم أكثر مما أرعبوني وأقلقوني، فأنتم بموافقتكم على عروضي ستريحوني من أكثر من ثلاثة ارباع المهمة، وسأتولى أنا بأجهزتي إنجاز الربع الباقي..
أما إذا "نقح" عليكم دُمَّلُ طموحاتكم التي خدعتكم على مدى السنة والنصف الماضية، وأصررتم على وهمكم بأنكم ما تزالون تعنون شيئا حتى لي أنا شخصيا، فسوف أعلمكم الأدب، وإعيد تربيتكم من جديد، وسوف أعد لكم متحفا خاصا أضعكم فيه، كي تكونوا عبرة لمن يعتبر..
ولا تظنوا أنني أبالغ أو أدعي أو "أهوِّش"، فأنتم تعرفون مثلي، أن كل ما أحتاج إليه كي ألقي بكم إلى المزابل بشكل نهائي، هو أن أقبل بتنازل أكبر قليلا، أناغش به "طموحات" و"أنوات/جمع أنا" بعض القادة الجدد في الشارع، كي أعقد صفقاتي معهم بدل أن تكون معكم..
ففي كل الأحوال سوف أكسب من جانب ما سأخسره من الجانب الآخر بالتحول منكم إليهم، او بالبقاء معكم بدلا منهم..
فوضع يدي في أيديكم، سيحفظ لي معظم صلاحياتي ومساوئ دستوري ومخازي قوانيني – وهذا مكسب يُعتد به – مقابل الإساءة إلى سمعتي محليا ودوليا باضطراري إلى وضع يديَّ في أيدي جثثٍ أنتنت بدأ الشعب بحفر قبورها ليدفنها..
أما وضع يديَّ في أيدي تلك القيادات الجديدة فإنه سيخفِّض من صلاحياتي، وسيعتصر بعضا من مواد دستوري العتيد، وسيلقي ببعض قوانيني إلى حاويات القمامة – وهذه خسارة مؤلمة أحرص بمد يدي إليكم على ألا أخسرها – مقابل تنظيف سمعتي المحلية والدولية التي ستقوم عندئذ على احترام وتقدير نزولي عند رغبة الشعب في التجاوب مع ممثليه الجدد، وسيشكر لي الشعب وإن يكن نسبيا، أنني دفنتكم وسهلت عليه مهمة التخلص منكم..
أما إن سألتموني: "كيف سأفعل ذلك؟"..
فستأتيكم المادة 124 من دستوري العتيد بالخبر اليقين..
فانظروا ما أنام فاعلون..
وأعلموا أن الوقت أمامكم قصير..
فكل هذا يجب أن يتم قبل حلول أمرين هامين هما..
حسم الوضع في جارتنا العزيزة..
وموعد الانتخابات النيابية القادمة