منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: قبر بلا شاهد

  1. #1

    قبر بلا شاهد

    " قبـــر بــلا شاهـــد "

    لم يمر أسبوع على سفره،حتى التحق به خاله في مقر عمله،وبصوت متهدج مملوءة بالحسرة والحزن قال لـه:
    ـ ابنة خالتك ماتت هذا الصباح".
    لم تصدق أذناه هذا الخبر،فهو لم يفارقها إلا مدة قصيرة،لم تكن مريضة جدا،بل كانت تعاني من وجع كذاب اعتقد أنه سيزول بشرب جرعة من الماء مع ملعقة صغيرة من الزعتر.
    تلاشى وأحس بأن كل شيء حوله تبخر وانصهر وذاب.
    الموت ! هذه الكلمة البسيطة والمركبة في نفس الوقت والتي تزلزل أشد القلوب تماسكا وجراة وإيمانا،هذه اللفظة التي زعزعت عروش أحلامه،وهدمت عش متمنياتـه،وهدت أركان حبه المنيع الذي تساقـط تباعا كـأوراق الخريـف.
    الحافلة التي أقلته الى الـدوار،لم يعرف متى توقفت،رآى وجوها غريبة ومختلفة وشاحبـة لم يبصرها من قبل،تساءل أإلى هذا الحد تبدو الوحوه غامضـة وكئيبة،سألهم عنها،قالوا له والحزن في سحناتهـم:
    ـ لقد دفنت هناك في المقبرة المحاذيـة لغابة الجـوز.
    جرى جري المجانين،سقـط مرات كثيرة،تداركه شباب القرية باكين،امتزجت دموعه بدموعهم،وبأصوات الملتاعين قالوا لـه:
    ـ ومشـات عتيقة أعبد الله ... ورحلات الدرويشة أعبد الله.
    ارتمى على قبرها باكيا منتحبا،تمسح بتلك الأحجار القاسية التي تكومت فوق جثمانهـا،وردد قائـلا:
    ـ كم هي قاسية هذه الطبيعة بأشواكها وأحجارها وترابها،في صمتها الأخرس ضمت أرض الظـلام أعز انسانـة في حياتـي.
    ذرف دموعا حـارة وصادقة على قبر لم يعرف بين القبـور،لولا حارس المقبرة التي دله عليـه،لقد كان بلا شاهـد ولا علامـة.
    صـرخ بأعلـى صوتـه:
    عتيقة رحلت بين الدفلى والحجارة، رحلت بلا وداع ولا وصية وتركتنـي.
    بدت له المقبرة موحشة ومرعبة،كانت أول مرة يدخل فيها مقبرة،غشته كأبة سرمدية وهو يلثم قبرها،طلب منها السماح والمغفرة،وهو الذي كان يوبخها بسبب تقصيرها في الإتصال به والسؤال عن أحواله،من بعيد كانت تراقبه خالته وأمه،لم يكن في نيتهما الإقتراب منه،بل تركتاه يخرج من صـدره الام البوح والعتـاب والفراق المرالذي تجمع مرة واحدة بداخله،هو لم يكن يدري ماالقبر وما القبور؟وما الموت والموتى؟ كات الحيـاة تبدو له مسطحـة لا منعرجات فيها ولا منعطـات.
    لم يصدق انها ماتت،وحين عاد الى الدوار منحطا متلاشيا منهارا، تجمعوا حوله قالوا لها إن عتيقة لحظـة الإحتضـار كانت تردد اسمه على شفتيها،وتسأل عنه،وتطلب من حواليها لكي يحضـروه،لأنها تريد رؤيته قبيل الرحيل،قالوا له أنها لحظة التوديع ظلت عيونها مركزة على الباب الخارجي لعلها تحظى برؤيته،وأنها روحها بقيت عالقة في صدرها الليل كله تنتظرعودتـه،رددوا على مسامعـه أنها صبرت وتحملت سكرات الموت محتسبة متجلدة وجل غايتها أن تتزود بنظرة منك،لكن الله اختار أن ترحل دون أن تلقي عليها نظرة قبيل السفر الطويـل.
    قالوا لـه: أن غيابه سبب لها ألما كبيرا،وأنه منذ أن سقطت طريحة الفراش وهي تبكي ولا تتوقف عن البكـاء،لم يتركوه يسترجع أنفاسه حتى قدموا له منديلها المبلل بالدموع،زادوا في حسراته،فأهل القريـة لا يتورعون عن ذكر التفاصيل الصغيرة والجزئية عن الموت والألم مهما كانت فظيعة ومرعبة،حتى لو كان متلقيهـا مهدودا ومريضـا ولا يتحمـل سماعهـا،أهل القرية مثل الطبيعـة التي لا تحب الفـراغ لا يتركون حدثا صغيـرا او كبيـرا لا يعلقون عليه،والقرية طيلة السنة وهي تعيش وضعا رتيبا ومملا،وحدث الموت كبير جدا فكيف يمر هذا الحادث دون تعليف ؟ رآى عبد الله الوجوه المحـدقة به وهي تستمـر في وصف تفاصيل موت شابة أحبها وأخلص لها، لعن الموت والفراق والإحتضار،ولعن الظروف الملعونة التي جعلتـه يسافـر.
    تذكر حين رحل،ولو التفت ساعتها الى جسد ابنة خالته عتيقة قبيل الوداع،لرآى شفتين تختلجان،وسمع قلبا يخفق بقوة ويكاد يخرج من بين الأضلـع ،ولرأى بدنا يرتعد ارتعادة المقرور،تذكر أشيـاء كثيرة حين كان يجلس فوق مرتفع شاهق مطل على ساقية بقرية تاكزيرت مع عتيقة يتأملان الشفق الأحمـر،و تذكر حين قالت لـه بعد صمـت :
    ـ أمسافـر أنت بابن خالتـي ؟ الا تبقى معي هذا الأسبوع حتى اشفى من علـي ؟
    قـال لهـا:
    سوف أعود قريبا ولن أخيـب رجـاءك.
    نظرت إليه نظرات ملؤها الشوق والاسى،وفي عيونها الخضراء رآى سحابات من الحزن تتسع بالرغم من ضيق بؤبؤ ها،وضع قبلة على جبنها وقلبه يعتصرالما لفراقها.
    أحس أن الموقف قد جللته كآبة صماء،ولتبديـد مخاوف محتملة ومآسي مرتقبة همس في أذنهـا :
    ـ اللقاء مرتقب،أما الفـراق فحبله قصير،ومن بعيد سمع فقيه الدواروهو يردد قوله تعالـى:" إن للمتقين مفازا،حدائق وأعنابا،وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا " نزلت هذه الآيات على قلبه بردا وسلاما،كأن الفقيه أوتي مزمارا من مزامير داوود.
    التفت اليها،وهي تصغي لنداء الوحي،وبنبرة لا تخلو من آسى وندم قالت لـه :
    ـ ماذا قدمنا لرب الحساب يوم التناد؟
    طأطأ رأسه وبسرعة حاول تغيير الموضوع قائـلا :
    ـ نحن عباده الضعفاء وهو أرحم بنا وأدرى بنوايانا.
    وأضـاف قائـلا :
    ـ نحن لم نقتل،ولم نسرق،ولم نكذب ولم نظلم أحدا، فأي عذا ب سيمسنا؟ والخوف كـل الخوف على من يتحكمون في رقاب الضعفاء.
    زاغت تظراتها وهي ترى العصافيـر تتجمع دفعة واحدة في أعشاشها محدثة زقزقة موحـدة،تأملت شجرة السفرجـل اليتيمة في تلك الضيعة التي شهدت تاريخ مسار عائلي جميـل،هناك كان يجتمع أبناء الخـال والخالات والعم والعمـات لكي يأكلوا عن طيب خاطر ما قطفته ايديهم من فواكـه الضيعة من رمان وليمون وذرة وفـول.
    تحت تلك الشجـرة كان خلاف وحمود عبد اللطيف والصالحـة ومحمد والـزوهرة ومصطفـى ولحسن وفاطمة ونعيمة يقضون يومهـم،وتحت ظلال القصب المترامي الملتف،كانت تردد" عتيقة" موالات امازيغية تعبرعن هناء اللحظة وسعادة النفس وبراءة الإجتماع.
    تذكرت أشيـاء كثيرة مضت،ولـم يبق من ذلك الماضي الجميل غير عويل الرياح وهي تنقل صـداها عبر الجبـل والنهـر والأشجـار .
    قالت لـه بعد شـرود:
    ـ هل سترحل؟
    أجابهـا :
    ـ سوف يتجدد لقاؤنا ياعتيقة سيكون أكثر بهاء من أي وقت مضى.
    انتابتها حالة إعياء شديدة،وتمددت تحت جذع شجرة،وبالقرب منها كان خريرالساقيـة العذب الذي جعلها تشعر أن الزمن أذهب الحسرات وجاء بالمسرات،لم تصدق صفو نداءه ،تأوهت وتشنجت عضلات وجهها وقالـت لـه :
    ـ لا تتركني وحدي إن هذه الحمى تكاد تعصف بي.
    من أقرب شجرة تين ناولها واحدة،عجزت عن أكلها،ارتخت مفاصلها،وهو لا يدري كنه هذا العذاب الذي ألم بهـا.
    حاولت جاهدة أن تتماسك أمامه ،وتبدو في صحة وعافية،لكنها لم تقو على ذلك،وشرعت في التقيؤ،أمسك بكل قوة على رأسها لكي تتقيأ بكل راحة،قالت له بصوت خافت:
    ـ لا تتخلى عنـي، نهايتي اقتربت،وأجلـي قد دنا،وجع عصيب ماكر ينخر أمعائي ،وسكاكيـن تبقر بطني وأحشـائي.
    حاول تهوين الأمر،وتخفيف المصاب،فلم يفلـح،حتى العصافيرالتي كانت تملأ المكان اختفت ذلك اليـوم.
    شخص ببصره للسمـاء فرآى سحبا داكنة تتجه نحو الجنوب،وفي الجهة الغربية من الضيعة كانت اسراب من البوم تردد"ماو ... ماو" استعاذ بالله من هذا الصوت الكريه،جف حلقه،واتجه للساقية لشرب جرعة ماء يبلل بها ريقـه،وعلى سطح الماء رآى جسما غريبـا،لقد كانت حمامـة بيضاء تطفو على وجه المـاء ميتة،عاف المـاء،وتصبب العرق من جبينـه،أحس أن حروبا كثيرة تزلزل كيانـه،أصغى لصهيل خيـول جريحة كرت في اتجاه الشمـال،ومن جهة الغرب سمع نواح امـرأة ،كان صوتهـا يخترق صـدره،صوت حزين ومؤثر،دمعت عيناه،حاول مرة أخرى إبعاد الشكوك والمخاوف من قلبـه،نظر الى عتيقة نظرة متعب لا يرغب في الرحيل،اغرورقت عيناه بالدموع،حاولت أن تمسك بيده،فسحبها بهدوء رآى خالته مقبلة تحمل نعنانـا وزعتـرا.
    نظر الى الساعة كان الوقت يمر بسرعة،قال في نفسـه :
    ـ كم هو ماكر هذا الزمن الذي لم يمهلني لأقول لعتيقة :
    ـ مم تعانيـن؟ وأي مرض ألم بـك ؟
    ودعها على أمل اللقاء،رآى في نظراتها شيئا محيرا وغير مفهوم،رآى نظرة ليست بالعتـاب ولا الترجي ولا الخـوف،نظرات ممزوجة بأشياء غريبة،نظرة من يواجه مصيره وحـده،ولا يكثرت لمن حواليـه.

  2. #2
    حزينه حتى نهايتها....وقيمتها عاليه كقلمك.
    فعلا..
    ـ
    ماذا قدمنا لرب الحساب يوم التناد؟
    سقى الله هذا القلم وبارك به
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    الى الفاضلة ريمه الخاني: شكرا لمرورك الكريم.

  4. #4

  5. #5
    الى فراس الحكيم: شكرا لمرورك الكريم...لك تحباتي.

المواضيع المتشابهه

  1. شاهد على العتمة
    بواسطة محمد فتحي المقداد في المنتدى فرسان النثر
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 03-05-2015, 05:13 PM
  2. إمارتي شاهد إستراليين يستهزئون بالنقاب شاهد ماذا فعل ؟؟؟
    بواسطة أ. زيناء ليلى في المنتدى فرسان الفلاشات والصوتيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-31-2014, 04:13 AM
  3. شاهد معي
    بواسطة منى الراعي في المنتدى فرسان الفلاشات والصوتيات
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-08-2010, 07:51 PM
  4. شاهد برج دبي صور
    بواسطة عرموش في المنتدى فرسان السياحة.
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 02-06-2010, 01:28 PM
  5. شاهد على العصر
    بواسطة جريح فلسطين في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 02-16-2008, 11:17 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •