الطبع السليم .. يأباها
بقلم ( محمد فتحي المقداد )
مقالات ملفقة 32 \2
عندما أتذكر قصيدة البردة، وكم من المرات قرأتها وسمعتها، لكنني لا أملّ من ذلك، ومن المثير حقاً الوقوف على قصتها، فالشاعر كعب بن زهير، قالها في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بعدما كان قد هجا الرسول، فأهدر الرسول دمه، وبعد فترة من الزمن دخل الإسلام قلب كعب ، فسأل عن أرق أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأخبر أنه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فذهب إلى أبي بكر وأخبره خبره، فمشى أبو بكر وكعب على إثره، وهو متلثمٌ، حتى صار بين يدي الرسول، فقال أبو بكر: يا رسول الله رجلٌ يبايعك، فمد الرسول صلى الله عليه وسلم يده، ومد كعبٌ يده، فبايعه، وأسفر عن وجهه وأنشد كعب قصيدته الجميلة البديعة المشهورة باسم " البردة " :
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول *** متيمٌ إثرها لم يُفد مكبول
و ما سعادُ غداة البيْنِ إذ رحلوا *** إلاّ أغَنُّ غضيضُ الطرف مكحولُ
هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مُدبِرةً *** لا يشتكي قِصَرٌ منها ولا طولُ
تجلو عوارضَ ذي ظَلَمِ إذا ابتسمت *** كأنه مُنْهَلٌّ بالراحِ معلولُ
وقد يستغرب الكثير من متعلمي اليوم أن هذه القصيدة قيلت أمام الرسول الكريم وأجاز قائلها، وعفــا عنه وكساه بُردتـه ( عباءته ) - صلى الله عليه وسلم – يبدو أن الهوة ساحقة في الفهم الحقيقي. و بالرجوع إلى مادة ( خلع )، نجد أن من خَلَعَ ثوبه ونعله وقائده، حيث تعتبر هدى شعراوي، أول امرأة خلعت حجابها في مصر، كما أن الوليد بن المغيرة، هو أول من خلع حذاءه عندما أراد دخول الكعبة، تعظيماً وتبجيلاً لها، وصارت سنة متبعة. ومن الرواية المزعومة كذباً، و التي لا تليق بصحابة رسول الله قصة أبي موسى الأشعري مع عمرو بن العاص في قضية التحكيم الشهيرة، قام أولا أبو موسى: خلعته كما أخلع خاتمي من إصبعي، أو سيفي من عاتقي( يعني علي بن أبي طالب )، وجاء عمرو بن العاص فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هذا- يقصد أبا موسى الأشعري- قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه، وأثبتُّ معاوية بن أبي سفيان، فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه. أخلاق الثعالب لا تليق بالصحابة، ولا يمكن أن يكونوا كذلك.
ومن خلع امرأته ( خُلعاً ) بالضم، وخُلع الوالي عزله، وإذا خالعتِ المرأة بَعْلَها على طلاقٍ ببدلٍ فهي ( خالِعْ )، وقيل إن ( خلع ) وقع الإسلام وهو أن عامر بن الظرب زوّج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث، فلما دخلت عليه نفرت منه فشكا إلى أبيها، فقال : لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك وقد خلعتها منك بما أعطيتها، زعم بعض العلماء أن هذا كان في الجاهلية وهو أول خلع في العرب.
وعن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فارق الجماعة قيدَ شبرٍ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " . و الرِّبقَة : واحدة الرِّبق عَقْدٌ أو قَيد من حبل ، أو حلقة تشدُّ بها الغنم الصغار لئلا ترضع حَلّ رِبْقَتهُ ( نقض العهد ), و رِبْقَة الاستعمار ( قيده ).
في أيامنا هذه كثرت الخلاعة، على كل المستويات، وحوربت الفضيلة و الأخلاق في جميع مناحي الحياة، فمالنا نعيب الزمان، والعيبُ فينا، و الرَّجلُ إذا ترك الحياءَ وركب هواه فهو خليع ، فإذا انقاد لهواه وتهتَّك فهو شابٌ خليع، أما قصة الأدب الخليع فقد صار من الشهرة على مستوى العالم، كما أنه صفة لكل مؤلَّف أدبي تعلو فيه لغة الجسد المحمومة ، و من خلَع عِذارَ الحياءِ منهمكاً في الغيّ والفساد دون خجل ، أما من خلَع على نفسه ثوبَ الكِرام ادّعاه لنفسه ، جار الربيع العربي ليخلع عدداً من الدكتاتوريات الشهيرة، التي أدمت بلدانها بعد أن حوّلتها إلى خراب ودمار، وعاد سدنة الأنظمة لتنظيم أنفسهم من جديد، وأعلنوا انقضاضهم وتحويل الربيع إلى خريف دامٍ .
و لا ينجو أحد من وجع الأضراس، إلا بخلعها، ومن الأولاد من أصيب بعرجٍ أو كَتَعٍ نتيجة خلع ولادي، لتعسر ولادته، وكثيراُ ما نستخدم كلمة اقْلع بدل اخْلع لتعطي الدلالة بدقة متناهية.
ولتجنب الإطالة في سياحتي في ضروب كلمة ( خلع )، أكتفي بهذا القدر الذي أعطى دلالة واضحة فاضحة، لممارسات يأباها رفضاً و تقذيراً الطبع السليم.
عمّان \ الأردن
15 \ 4 \ 2015