نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

رائد الفن التشكيلي السوري
المصدر رند صبّاغ
30 / 03 / 2007
من مواليد دمشق عام 1918 كان رائداً من روَّاد الفن التشكيلي في سورية والعالم العربي، وكما رسم رمز النسر السوري فقد غدا رمزاً للريشة السورية، ومدرسةً للأجيال القادمة والتي تتلمذت على يده وعرفت الفن من خلال عينيه وإنسانيَّته، "ناظم الجعفري" اسم أكبر من أن يُعرَّف حيث تضيع في وصف مثل هذا الرجل الكلمات وأنت تحاول إيفاءه حقه، فقد رسم من أجل الرسم وعشق ريشته وأقلامه، وعاش ولهاً مع أوراقٍ خلق من عدمها روحاً وذكرى... منحته دمشق الحياة فمنحها نفسه ووهبها كل ألوانه، فعاش في حاراتها ومسح شوارعها وسكانها وتعبّد في زخرفة جمالياتها.... "بلدنا" التقت "ناظم الجعفري" وكان لها معه الحوار التالي:






سجّلي :"لا أحد يعرف الله كما يعرفه الرسام"...

ابتدأ الحوار بهذه الجملة فما كان مني إلا أن أسأله عن السبب

_وكيف هذا؟

* لأن أعظم فنان وإن استطاع أن يرسمك كما أنت إلا أنه لن يستطيع أن يمنحك الروح...

يقولون: إن الفن موهبة من الله سبحانه وتعالى، وأنا أضيفُ على هذه المقولة، إنه لن يعطيها إلا لمن توفَّرت فيه شروطها، وماهي؟ ... الإيمان بالله بالدرجة الأولى... العملُ الجيّد بإتقان... فأنا لم أشترِ ممحاة في حياتي، حتى إنني لم أرسم بقلم الرصاص... سأحدّثك بحقائق دون تحديد أسماء... إذا دخلنا على سبيل المثال إلى كلية الفنون، فأنا أتحدَّى الأساتذة والطلاب أن يستطيعوا ضبط نسب فنجان قهوة مئة في المئة...

_ وهل النسب الفنية أمرٌ فطري بحسب رأيك؟

* ليست فطرية تماماً... إنها بحاجة إلى الأصالة والدراسة والموهبة...

_ ومنذ متى ظهرت الموهبة عند "ناظم الجعفري"؟

* لقد ابتدأتُ بالرسم منذ الصف الثاني الابتدائي، وفي الصف الرابع كان أساتذتي والطلاب يشهدون لي بموهبتي...

_ وحينها كانت قصة غلاف الكتاب الذي قدَّمته لأستاذك، والذي اتهمك أنك لم ترسمه بنفسك؟

في مدرسة "عنبر" والتي هي الآن مدرسة التجهيز وهي المدرسة الوحيدة في حينها، والتي كان الدخول إليها يحتاج إلى مسابقة، وحينها عندما دخلت للمدرسة جاءنا أستاذ خريج باريس في الزخرفة ويدعى "جورج خوري"، وحينها طلب منا مشروعين، الأول عن الرسم عن الطبيعة، أما الثاني فكان رسم الزخرفة بما معناه أن تتصرَّف بخيالك بموضوع معيَّن وهو غلاف كتاب حيث طلب منا أن نتخيَّل أننا ألفنا كتاباً وعلينا تصميم غلافه، وشرح لنا دور الغلاف في عملية جذب القراء إلى الكتاب لشرائه، وكنا حينها 63 طالباً في عنبر، وبقيت لأسبوع كامل أعمل في اللوحة دون أن أهتمَّ بدراستي حتى إن والدي غضب من هذه الحالة وقال لي: الرسم ما بيطعمي خبز ولكن كلامه كان حافزاً أكبر لي للعمل، ولم أكن أدرك السبب في ذلك الوقت... وحينما جاء وقت تسليم المشروع بدأ الأستاذ بتوزيع العلامات وكان قد منح الكثيرين علامة الصفر وعلامات قليلة جداً عن لوحاتهم وبدأ قلبي يخفق بشكل متزايد وأنا طفل صغير، كنت شاعراً بالخوف، وأقول لك اليوم وبعد هذا العمر عن سبب خوفي الذي لم أدركه حينها، فلو أعطاني حينها الأستاذ علامة مماثلة لعلامات الصف بأكمله سواءً كانت عالية أم منخفضة لكنت فقدت اهتمامي بالرسم، ولما عملت فيه، ولكن أستاذي كان نظيفاً وأميناً وليس كغيره، ليسأل فجأة وسط الصف من هو "ناظم الجعفري"؟ وكنت حينها في الصف السادس، فطلب مني الحضور إليه، وسألني من رسمها لك، قلت له: أنا، فقال لي: رسمها لك والدك أو شقيقك الأكبر، فأخبرته أن والدي لا يعرف الرسم، وأنا أكبر واحد في عائلتي، فمنحني 19 من 20.

_ وماذا عن الدراسة الأكاديمية؟

* لم نكن ميسوري الحال في ذلك الوقت، وكنت بحاجة للمال لأكمل تعليمي في هذا المجال، فعملت خلال الصيف أجيراً في أحد المحلات في سوق الحميدية حتى أدفع أقساط مدرستي في عنبر، وفجأة وأنا في طريقي إلى المنزل شاهدت إعلاناً عن الكلية العلمية الوطنية تعلن فيه عن حاجتها لمعلمين في كل المواد، ولكنني كنت طفلاً حينها، ولكن كيف سأذهب إلى هناك؟، وبعد خطوات قليلة التقيت بأحد أساتذة الكلية وهو صديقي، فأخبرني عن المنح الدراسية لمصر، استغربت وقلت له: ولكن العالم في حرب، إذ كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها، فأخبرني أن مصر تعيش بعيداً عن هذه الحرب، وفي الطريق ذاته صادفت شخصاً آخر، لأكتشف أنه حصل على منحة دراسية في التاريخ إلى مصر، فطلب مني أن أقدّم على كلية الفنون في القاهرة، ودلني على أحدهم الذي سيسافر خلال أيام قليلة إلى مصر في منحة أيضاً لأعطيه أوراقي ولوحاتي ليقدّمها هناك، وعندما شاهدوهم لم يصدقوا أعينهم، فطلبوا مني أن أنجح بالفحص الطبي، وأن أثبت أنني صاحب هذه اللوحات ولا أحد غيري، فسافرت إلى القاهرة في عام 1950 تقريباً، والتقيت بمسؤول قسم التصوير الزيتي وكان يدعى "يوسف كامل" فطلب مني أن آتيه في اليوم التالي صباحاً إلى الكلية، وعندما جاء اليوم التالي كنت هنالك في الساعة الثامنة صباحاً، فدخل عليَّ أمام جميع الطلاب، وأشار إلى إحدى الفتيات اللواتي يعملن كعارضات للكلية، وطلب منها أن تنزع ملابسها تماماً... وحينها شعرت برعب شديد، فأنا لم أكن قد رأيت شيئاً مثل هذا من قبل، وثبت وضعيتها ثمَّ طلب مني أن أرسمها ... وبدأ الطلاب المصريون بالتلفت علي كل فينة وأخرى، حتى جاءت لجنة التحكيم وأعطتني حقي،... وخلال السنوات الدراسية جميعها كنت الأول على دفعتي، وسأروي لكم هذه القصة في السنة الأخيرة وذلك بعد اجتيازي لسنة بسبب موهبتي، قامت الجامعة بإحضار لجنة من خارج الكلية ليقوموا بفحصنا، وكان موضوع الامتحان أن نرسم لوحة حول فنان كان يرسم في مرسمه فتاة عارية وفجاة جاءت إليه مجموعة من الزوار ... وكان علينا أن نتخيَّل هذه اللوحة، وبدأت أساعد الجميع وهم يرسمون وأنا أقف أمامهم ليستطيعوا تخيُّل الشكل، وعندما جاء دوري تملص الجميع مما أثار غضبي وقرَّرت في لحظة أن أتوقف عن الدراسة، فكسرت اللوحة المليئة بالأصبغة، وركضت على الدرج لأعود إلى سورية، ولكن الجميع ركضوا خلفي وأعادوني، فطلبت مني الإدارة أن أعيد الامتحان وقاموا بتصليح اللوحة وسلّمت اللوحة قبل يوم ونصف من الجميع... وعدت فور انتهائي من الامتحان إلى دمشق، وحينها سمعت أسماء الناجحين عن طريق الإذاعة المصرية.

_ وماذا عن مشاركتك في التدريس؟

* افتتحت كلية للفنون الجميلة في دمشق أيام الوحدة بين مصر وسورية، وكنت السوري الوحيد فيها حينذاك وكنت رئيس قسم التصوير الزيتي، وبعد سبع سنوات قدَّمت استقالتي... فنقلوني إلى التدريس في مدرسة إعدادية في شارع بغداد، ولكن الأولاد أحبوني وأحبوا درس الرسم، واستقلت بعد فترة أيضاً، واعتكفت في مرسمي في شارع بغداد الذي أملكه منذ العام 1948.

_ كانت لك علاقة خاصة يستطيع الواحد منا أن يلمسها بسهولة في لوحاتك مع مدينة دمشق، فهلا حدثتنا عما عنته لك هذه المدينة؟

* لقد مسحت مدينة دمشق بسبعة آلاف لوحة، وليست هناك مدينة واحدة في العالم سبق وتمَّ مسحها بهذا العدد من اللوحات، تخيَّلي أن تحتوي مدينة واحدة على هذا الكم من المناظر التي تستحق الرسم، لم أترك حارة في دمشق مهما صغرت أو كبرت ولم أرسم فيها، ولم أرسم تفاصيلها الدقيقة، وتفاصيل منازلها، وكنائسها وجوامعها وقبابها وأسواقها والحياة اليومية فيها، وكل أعمالي كانت عن دمشق، وكنت قد مسحت قبلها مدينة "بيروجيا" بعد أن دعتني الحكومة الإيطالية لمدة ستة أشهر للاطلاع عليها، وهي مدينة تبعد عن روما 167 كم، ومسحتها بمئة وستين لوحة وذلك قبل أن أمسح دمشق، حتى إنني رسمت الدهليز المظلم الذي يستقبلك أول ما تدخل إلى البيت الدمشقي، بالإضافة إلى كل ما فيه...

_ لاحظت من لوحاتك أنك ترسم شخصيات بسيطة وعابرة في الحياة، فعلى أي أساس تختار أبطال لوحاتك؟

* أحب أن أصوّر الإنسان وأن أحدد الشخصية التي أرسمها بناءً على ما أقرؤه من عقله، وما يمثله وذلك عن طريق نظري، لقد رسمت بائع العرقسوس وبائع اللبن والحرفيين، ولم أترك أحداً لفت نظري إليه إلا ورسمته.. أنا لا أرسم إلا من أشعر بشيء يشدُّني إليه، ولا أرسم أحداً من باب التملق...

_ ولكن رسمت وزير الثقافة السابق "محمود السيد"؟

* هذا أمر مختلف، رسمته لسبب، وسأرويه لكم ... منذ عامين وبعد اعتكاف دام طويلاً أقمت معرضاً في المتحف الوطني ملأت فيه قاعات المتحف العشر بلوحاتي، وعندما افتتح الوزير المعرض أعجب بي لدرجة الانبهار وعرفه عليَّ أحد أصحابي الذي شجَّعني على أن أقوم بهذا المعرض، وهو نفسه من طلب من "السيد" افتتاح المعرض بنفسه، وحينها احترمني "السيد" لأعمالي وفني، واشترى مني لوحة عن "بدوي الجبل" ودفع ثمنها وأهداها للمتحف الوطني...

_ لماذا اعتكفت طوال هذه الفترة لمدة 53 سنة؟

* اعتكفت ولكنني لم أتوقف عن الرسم، كنت أرسم لنفسي، ولا أحد يحاسبني أو ينافسني... وكنت مزعوجاً من عدد من الأمور، ولكن الجميع يستطيعون أن يلمسوا الرسم الجيد من السيئ، فحتى وإن أحضرنا لوحتين لجسد عار، رسم الأولى شخص محترف فيما الأخرى صنعها هاوٍ، وسألنا اثنين متباينين في الثقافة الفنية، فسيكشفها البسيط كما المثقف، وسيعرف أن هناك شيئاً ما، ربما لا يستطيع تحديده ولكنه يستطيع أن يشعر به... فالعمل جيد لا أحد ينكره...

_ وماذا عن اللوحة التي ربحت فيها جائزة في البرازيل؟

* في المعرض الثامن والخمسين في البرازيل سافرت إلى "ريو دي جانيرو" وذلك بعدما رسمت لابن سفير البرازيل لوحة لابنته ليعطيني الفيزا، وبعت كل شيء لأعيش هناك، ولكن الظروف عاكستني، ولكنني شاركت في معرض في المتحف الوطني مع البرازيليين، وحصلت على الجائزة الأولى الفخرية، وهي عادة حكر على المواطنين، ولكنني لم أكن برازيلياً، فكانت فخرية... وبعد ذلك عدت إلى دمشق...

_ رسمت شقيقتك في 53 لوحة، فهلّا حدثتنا عن علاقتك بها، وخصوصيتها بالنسبة إليك؟

* كانت شقيقتي على قدر عال من الجمال والأناقة، وإحدى اللوحات التي رسمتها فيها كانت 3 أمتار عرضاً ومترين وخمسة سنتيمترات ارتفاعاً، صورتها عارية، وبأوضاع مختلفة وسط الأشجار والطبيعة، وقلت عنها إنها الجنة ... فالجنة لحواء التي تحمل وتنجب وتربي، وتحتمل الألم... لو كان النسل بيد الرجل لقطعه خوفاً من الألم...



_ وماذا تعني لك المرأة؟

* المرأة هي الأم، وانا أعرف أن المرأة تحتمل الكثير، فالله من حكمته خصَّ المرأة بالحمل والإنجاب لأنها الوحيدة القادرة عليهما... حتى في لوحة تباشير الوحدة رسمت جنديين، مصرياً وسورياً وهما يتصافحان وهناك امرأة تتوسطهما وتباركهما وهي الأم...

_ باعتبارك أنت من صمَّم شعار سورية، وهو هذا النسر الذي يمثل البلاد، لماذا اخترت النسر؟

* لأن النسر طير قوي، وهو من الجوارح... وهي فكرتي أنا ولم يقترح أحد عليَّ هذا... إنه رمز الشموخ والكبرياء، ورمز للأمة الإسلامية بأكملها...

_طالبت وزارة الثقافة بإنشاء متحف لك، فهل هذا صحيح؟

* لم يمسح إنسان في العالم مدينته في سبعة آلاف لوحة، كما فعلت أنا لدمشق، وذهبت لأطالب الوزارة بإنشاء متحف خاص لناظم الجعفري بشروط وضعتها أنا، لأنني أمثل جزءاً من التاريخ..

آخر تحديث ( 30 / 03 / 2007 )