الأدب الألخميائي (الأدب الإسباني المكتوب بحروف عربية)
المصدر: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: د. سلمى الخضراء الجيوسي الجزء الأول ص 770 إلى 787، عن بحث مطوّل بعنوان: التراث الإسلامي في الأدب الإسباني، كتبته لوسي لوبيز بارالت[1]
لربما يكونُ الأدب الإسباني المكتوب بحروفٍ عربيَّة (الألخميائي) من قِبَلِ كُتَّابٍ مسلمين من أكثر الأدلَّة وُضوحًا على هذا البُعد السامي في إسبانيا، والذي بدَأ يضمحلُّ ولكنَّه ما زال رغم ذلك مُؤثِّرًا وفاعلاً، يسمحُ لنا هذا الأدب السري، الذي ما زال مُعظَمه غير منشور، والذي كتبه مُنشَقُّون دُفِعوا دفعًا لأنْ يعملوا تحتَ الأرض، بأنْ نلمح عمليَّة الانقِراض البطيئة كما عاشَها آخِر المسلمين في إسبانيا بأنفُسهم في القَرنين السادس عشر والسابع عشر؛ إذًا كانت إسبانيا التي وصَفَها أوتيس غرين (Otis Green) بأنها "غربيَّة خالصة" تغصُّ بآخِر علامات شرقيَّتها[2].
لم يُكتَشف الأدبُ الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة إلا بعدَ وقتٍ طويل من عمليَّة إجْلاء المسلمين عن إسبانيا التي جَرَتْ عام 1609؛ فلقد شَهِدَ عام 1728 ظُهور العَديد من المخطوطات التي كانت مخبَّاة داخل عَمودٍ في بيتٍ من بيوت ريكلا (Ricla)، ثم اكتُشفت عام 1884 مجموعةٌ أساسيَّة كانت مخبَّاة داخل أرضيَّةٍ مزيفة في بيت مُهدَّمٍ في ألموناسيد دي لاسييرا (Almonacid de la Sierra) في سرقسطة.
إنَّ الأمر الأوَّل الذي يُلاحِظه المرء بِخُصوص هذا الأدب - الذي ما زال قسمٌ كبيرٌ منه غيرَ مطبوعٍ، وما زال القسم الأكبر مُوزَّعًا بين مكتبات إسبانيا والشرق وأوروبا - هو طبيعته الهجينة المولَّدة؛ ومن ثَمَّ الخفيَّة المُلغِزة[3]؛ إذ إنَّ المخطوطات مكتوبة باللغة الإسبانيَّة (أي: القشتاليَّة)، أو باللغات الرومانسيَّة الأخرى مثل: البرتغاليَّة أو الفالنسيَّة، ولكنَّها رغم ذلك مرسومة بحروفٍ عربيَّة.
تقودُنا هذه الظاهِرة اللافتة إلى استنتاجٍ أوَّلِيٍّ مُروِّع وهو: أنَّ قسمًا لا بأسَ به من الأدب الإسباني في العصر الذهبي كان شرقيًّا؛ بحيث ينبغي على الباحث في ذلك الأدب أنْ يكون مستعربًا، أو أنْ يعرف على الأقل الحروف العربيَّة؛ لكي يستطيع قراءةَ ذلك الأدب.
في القرن التاسع عشر بدَأ الرُّوَّاد الأوائل مثل باسكوال غايانغوس (Pascual Gayangos) وإدواردو سافيدرا (Eduardo Saavedra) يفكُّون شيفرة تلك المخطوطات، وفي بداية القرن العشرين قام خوليان ريبيرا وآسين بالاثيوس بهذه المهمَّة، أمَّا في الوقت الحاضر فإنَّ دراسة الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة تلقى اهتِمامًا أكبر من مختصِّين مثل: ل. ب. هارڤي (L.P.Harvey) ومرسيدس غارسيا إرينال (Mercedes Garcia Arenal) ومانويلا مانزاناريس دي سيري (Manuela Manzanares de Cirre)، وراينهولد كونتزي (Reinhold Kontzi) وأوتمار هيجيي (Ottmar Hegyi) ولويس ودنيس كارديلاك (Louis and Denise cardaillac) وماريا تيريزا نارفيز (Maria Tereza Narvaez) وأنطونيو فيسبرتينو رودريغيز (Antonio Vaspertino Rodriguez)، ونخصُّ بالذِّكر هنا ألفارو غالميز دي فوينتس (Alvaro Galmes de Fuentes) الذي بدَأ بتحقيق سلسلةٍ من هذه المخطوطات أعادَ كتابتها بالحروف اللاتينيَّة، وبدَأتْ تظهَرُ تباعًا عن دار نشر غريدوس (Gredos).
عندما بدأتْ دراسة الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة في القرن التاسع عشر، عُلِّقَتْ على هذا الأدب آمالٌ كبيرةٌ، ولقد كان الباحثون يُؤمِنون أنَّ جواهرَ نادِرةً في الأدب الإسباني سوف يتمُّ الكشف عنها قريبًا جدًّا.
وينقل لنا ل. ب. هارفي كلمات سيرافين إستيبانيز كالديرون (Serafin Estebanez Calderon) عندما تسلَّم كرسي اللغة العربيَّة في مجمع مدريد (Ateneo de Madrid) عام 1848:
"يمكن للمرء أنْ يقول: إنَّ الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة هو بمثابة جِبال الإنديز بالنسبة للأدب الإسباني؛ إذ إنَّه بالفعل لم يُكتَشفْ بعدُ ولم تجرِ دراستُه، وهو يعدُّ بكنوز ثمينةٍ سيحصل عليها الأوائل من الرجال والنساء الذين سيقومون بزيارة هذا [الأدب المجهول]"[4].
ويبدو الباحث الأمريكي العظيم المتخصِّص في الإسبانيَّات جيمس ت- مونرو مُتمسِّكًا في كتابه "الإسلام والعرب في الدراسات الإسبانية" Islam and the Arabs in Spanish Scholarship بهذه الآمال، لكنَّ هارفي يعترف أنَّ "عبارة منندث إي بيلايو القاطعة... ما زالت صحيحةً إلى يومِنا هذا: إنَّ النجاح لم يبتسمْ لنا بخصوص هذه الآمال الساطعة[5].
وعليَّ أنْ أقرَّ أنا أيضًا بعَدالة منظور مثل هذا يتمتَّع بقدرٍ أقل من التفاؤل؛ فلقد بيَّنتْ لي الأبحاث التي قُمت بها حول المخطوطات غيرِ المنشورة من الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة، والمحفوظة في المكتبة الوطنيَّة (Biblioteca Nacional) والمكتبة الملكيَّة (Biblioteca real) ومكتبة الأكاديمية الملكية للتاريخ (Historia de la Real Academia de la Biblioteca) ومكتبة قسم الدراسات العربيَّة في معهد علم اللغات في مدريد:
(Bibliotica del Departamento de Estudios Arabes del Instituto de Filologia in Madrid)
والمكتبة الوطنيَّة في باريس ومكتبة جامعة إكس إن بروفنس ومكتبة جامعة كامبريدج، إضافةً إلى تفحُّصي الخاص للفهارس الأساسيَّة الخاصَّة بهذا الأدب - أنَّ الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة لم يُعطِنا أعمالاً أدبيَّة عظيمة شاهقة؛ إذ إنَّه كان يتكوَّن بصورةٍ أساسيَّة من نصوصٍ استُخدمت لأغراضٍ معيَّنة وتركَّزت على موضوع تحوُّل المرء عن دِينه إلى دينٍ آخَر.
وتنقسمُ هذه المخطوطات بعامَّةٍ إلى نوعين اثنين: فهناك ما يُسجِّل الطقوس والتعاليم الإسلاميَّة التي كانت قد أخَذت في الضَّياع والتَّلاشي، وهناك أيضًا النُّصوص التي تنغمسُ في مجادلاتٍ عنيفة مُعادية للدِّيانة المسيحيَّة، والنوعان في كلتا الحالتين يظهران - كما يُشير لويس كارديلاك[6] - تَراجُعًا ملحوظًا عن الكتابات المعقَّدة لعرب العصر الوسيط، مثل: كتابات الهاشمي وابن حزم القرطبي وفراي إنسيلمو من تورميدا، لكنَّ المخطوطات التي فكَّت شيفرتها تكشف حقًّا عن بعض اهتِمامات المجتمع المسلم: هناك كرَّاسات في الفقه، رسائل في السِّحر والشَّعوذة، ورسائل تدورُ حول الوصفات الطبيَّة، ونُبوءات تتعلَّق بالمستقبل، وتعليمات تشرح كيفيَّة التصرُّف في حال باغتت محاكم التفتيش مُؤلِّفي المسلمين وكُتَّابهم، وكتابات تُسجِّل شهادات المسلمين حول ظُروف اضطهادهم، وأزجال في مديح محمد [النبي]، وأشعار تقلد لوب دي فيغا.
لكن على رغم أنَّ الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة كان بعامَّةٍ مُبتذلاً من وجهة النظَر الجماليَّة الصِّرف، بل إنَّه كان أسوأ من ذلك إذا قُورن بمعظم الإنتاج الأدبي خلال العصر الذهبي في إسبانيا، فإنَّ هذا الأدب يكشفُ لنا أحيانًا عن نصوصٍ أدبيَّة ذات قيمةٍ جماليَّة حقيقيَّة لا جدال فيها؛ ومثال ذلك تلك الروايات الرومانسيَّة الملحميَّة (مثل الحديث، أو الملحمة التي تدورُ حول الحصن الذهبي (Alcazar de Oro) التي أعاد كتابتها بالحروف اللاتينيَّة غالميز دي فوينتس في كتاب المعارك (Libro de las batallas)، الذي نشَرَه عام 1975)، إضافةً إلى بعض الأشْعار التي كتبها محمد رمضان (Mahomed Rabadan)، وشُعَراء آخَرون درستهم مانويلا مانزاناريس دي سيري.
لكن رغم كلِّ تحفُّظاتي بِخُصوص القيمة الجماليَّة لمعظم الأدب الإسباني الذي كتَبَه المسلمون بالحروف العربيَّة، فأنا أومن حقًّا بأنَّ هؤلاء الكتاب المجهولين الذين يمتلكون هويَّة مهجَّنة ومصيرًا مأساويًّا يتبوَّؤون مكانةً خاصَّة في الأدب الإسباني في عصر النهضة الذي ينتَسِبون إليه بلا أيِّ شك.
وتكشفُ المخطوطات خاصيَّة أدبيَّة شديدة الأهميَّة إذا قرأناها بتمعُّن واهتمام، ولربما من منظورٍ مختلف قليلاً؛ في هذه المخطوطات سنرى - ونشعُر بنوع من الشفقة والحُزن الاستثنائيَّيْن - اختفاءَ شعبٍ بكامِله وانقِراضَه، ونرى في الوقت نفسِه الجهودَ التي بذلها أبناء هذا الشعب لكبْح جِماح القُوَى التاريخيَّة المحتومة التي كانت ستهبطُ عليهم وتسحَقُهم.
لقد كان مُؤلِّفو الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة مُؤرِّخي عالَم أو ربما كانوا المؤرِّخين المضادِّين؛ إذ إنَّ الوصف الأخير لهم هو أكثر صِدقًا ودقَّةً - يذوب ويختفي.
المأساة الأولى بالنسبة لهؤلاء "المؤرخين" المسلمين تمثَّلت في كونهم غير قادِرين على إنتاج أدبٍ أو كتاباتٍ تتعلَّق بتحوُّلهم من دِينهم إلى الدِّين الآخَر، أو رواياتٍ تحكي حُظوظَهم التاريخيَّة العاثرة باللغة التي استعمَلَها أسْلافُهم في شبه الجزيرة، لقد كانت اللغة العربيَّة الفُصحَى، وحتى اللهجات العاميَّة المستعمَلة من العربيَّة، تنسابُ من بين أيدي المسلمين من الذين بقوا في إسبانيا بسرعة.
إنَّ الحروف العربيَّة التي كتبوا بها نُصوصهم الإسبانيَّة، والتي كانت تمثِّل بالفعل كلَّ ما يعرفونه من لغتهم الأولى المقدَّسة عندهم، تشهد حقًّا على مأساة مُروِّعة.
لقد كانت إضاعة لغة القُرآن أمرًا مُؤلمًا وشديدَ الوطأة على المؤمنين المسلمين، ليس من المنظور الثقافي فقط، بل من وجهة نظَر الدِّين كذلك؛ إذ إنَّ الإسلام يعدُّ الصلاة باستخدام لغة الوحي المقدَّسة جزءًا أساسًا لا غنى عنه في الطقس الدِّيني الإسلامي.
وقد قادت هذه الحقيقة أو هيجيي[7] إلى مُلاحَظة أنَّ مُؤلِّفي تلك النُّصوص كانوا يتمسَّكون بالحروف العربيَّة لدَواعي السريَّة أكثر من أنْ يكونوا يفعلون ذلك لإيمانهم بالمنزلة المقدَّسة التي كانت تحتلُّها تلك الحروف بالنسبة لهم ولقُرَّائهم السريِّين أيضًا، ومن هنا ينشأ السخط والنقد اللاذع الذي يصبُّه أحدُ هؤلاء المؤلِّفين السريِّين الذي أراد ترجمة الكراسة التي ألَّفَها "من العربيَّة إلى الإسبانيَّة المكتوبة بالحروف العربيَّة"، فتذمَّر قائلاً: إنَّه:
"ولا أحد من إخوتنا أو أخواتنا في الدِّين يعرفُ العربيَّة التي أُنزِلَ بها القُرآن الكريم، أو يفهم حقائق الدِّين، أو يستطيع أنْ يتمتَّع بجمال هذه الحقائق، إلا إذا عبَّرنا لهم عن هذه الأشياء بصُورةٍ مُلائمةٍ بلسانٍ أجنبي الذي هو اللسان الذي يتكلَّم به هؤلاء الكلاب المسيحيُّون الطُّغاة الذين يضطهدوننا، ليلعنهم الله! وليسامحني الله الذي يقرأ ما هو مكتوبٌ في القلب، ويعلم أنَّ غايتي هي أنْ أفتح للمؤمنين من المسلمين سبيلَ الخلاص، حتى ولو كان ذلك باستِعمال هذه الطُّرق الفاسدة الخسيسة"[8].
إنَّ المهمَّ والمثير للمشاعر بخصوص هذه المخطوطات الإسبانيَّة المكتوبة بالحروف العربيَّة، من وجهة النظَر الأدبيَّة والإنسانيَّة، هو كشفُها عن الاهتِمامات اليوميَّة لمؤلِّفي هذه المخطوطات وأبطالهم، لقد كان هؤلاء المسلمون الموريُّون - هؤلاء المؤرِّخون اليائسون المضادون للإنديز - واعين بدقَّة لما كانوا يُحاولون إنجازَه: كانت مهمَّتهم المستحيلة هي إيقاف التاريخ وانتهاكه، أنْ يواصلوا كونهم ينتسبون إلى الشرق في إسبانيا منتصف القرن السادس عشر، ووسط مجتمع كانت فيه محاكم التفتيش في أوْج ازدِهارها.
إنَّ الأدب الإسباني الذي كتَبَه المسلمون بالحروف العربيَّة هو مَعلَمٌ وأثرٌ باقٍ على ذلك الجهد المثير للشَّفقة من محاولة إنقاذ المعرفة بالدِّين الإسلامي وثقافته - أو ما تبقَّى من هذه المعرفة - التي تقلَّصت الآن إلى مُعتزلات سريَّة للمسلمين المضطهَدين.
"ليس هناك جهادٌ أكبر من نشر دِيننا في أراضي [الخطيئة؟ أرض الخراب المقفرة؟]، هتفت المسلمة العبيديَّة [9] (La Mora de Ubeda)، وإذ نقرأ كلماتها المتَّقدة حماسةً في القرن العشرين في ضوء معرفتنا بانقِراض شعبها فإنَّنا نشعُر بالانفعال والحزن، إنَّ الرجل الشاب من أريفالو (Arevalo) الذي يمتلكُ رؤيةً متفائلة مستحيلة التحقُّق يرجعُ صدى تلك المأساة عندما يعلنُ في الفصل الافتتاحي لعمله الشرح (Tafcira) بإيمانٍ خالص أنَّه سيكتب شرحًا آخَر "عندما تصبح الأرض حرَّة"[10]- أي: عندما "تتحرر" إسبانيا من المسيحيين. من بين أكثر الأمثلة على مُقاومة المسلمين لمصيرهم فجاجةً وإثارةً للحُزن تلك التمرينات على الحروف العربيَّة، التي كان أواخر المسلمين في إسبانيا يرفُضون نسيانها، التي قام بها شخصٌ مجهول على هوامش بعض النسخ الأخيرة للعَديد من مخطوطات الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة: المخطوطة رقم (5380) المحفوظة في المكتبة الوطنية في مدريد، والمخطوطة رقم (774) المحفوظة في المكتبة الوطنيَّة في باريس لكي نذكُر مثالين فقط من أمثلة عديدة.
لم يكن الموريون إيجابيين على الدَّوام ومُتَفائلين بسَذاجة عندما كانوا يُعبِّرون عن عَواطفهم تجاه ضعف أمَّتهم وانحِدارها.
والملاحظة التي يمكن أنْ نعثرَ عليها على الدَّوام بهذا الخُصوص هي الشعور بالكرب والتَّشاؤُم، لقد كان العالم العربي - الإسباني يختفي ببساطة، وكان أبناء المجتمع السري المضطهَد يعرفون ذلك، "لقد أصرَّ" مؤرخو "المسلمين الموريين" بإلحاحٍ على عرض هذه الصورة الشعاعيَّة الروحيَّة المثيرة للحُزن والأسى، على هذا التفحُّص الداخلي مُزدرِين وصفَ الطبيعة والجغرافيَّة الخارجيَّة الذي استَبَدَّ بمكتشفي العالم الجديد وشكَّل لهم هاجسًا.
يكشفُ المسلمون الذين حُوِّلُوا عن دِينهم عن شُعورهم الغامر بالاضطهاد في بعضٍ من أكثر مخطوطات هذا الأدب المأساوي إثارةً للحُزن والأسى، تبكي المرأة العبيديَّة - التي فقدت عائلتها عندما سقطت غرناطةُ - قائلةً للرجل الشاب من أريفالو عن انهيار أمَّتها وسُقوطها هذه الكلمات الموجعة التي تتنبَّأ بالمستقبل:
"قالت لي - وهي تبكي هزيمةَ المسلمين وانهيارهم -: صَلِّ يا بني للطف الله العظيم ألاَّ يستمر عقابه لنا فترةً طويلة من الزمان كما تقولُ لي النُّبوءة... ادعُ لطفَ الله العظيم أنْ تكون محبته لمسلمي هذه الجزيرة الذهبيَّة بعظَمة قُدرته، وادْعُه أنْ يُحوِّل هذه المآذِن إلى مَناراتٍ شاهقة راسخة"[11].
لقد كان عالم المرأةِ العجوز المسلمة، التي أُجبرت على التحوُّل عن دينها، يَتداعَى أمامَ عينيها، وهي تتفجَّع، في خلاصة قصيرة موجزة[12] تُثِيرُ الأسى والحزن اللذين يسحَقان القلب، على ما حلَّ بكتب الإسلام المقدسة من دَمار: "لقد رأيت القُرآن الكريم بين يدي تاجر يصنع منه ورقًا لاستعمال الأطفال، وقد التقطت تلك الأوراق المطويَّة وأنا حزينة القلب..."[13].
شكوى مُتفجِّعة أخرى تثيرُ الأسى نسمَعُها من بين شفتي يوسي بانيغاس (Banegas Yuse) المستعرب العظيم[14]، الذي يَبكِي أيضًا على سُقوط غرناطة، كما أنَّه كان يشعُر أنَّ ما هو أسوأ من ذلك سيُصِيب المسلمين الذين كان يعيشُ بين ظَهرانيهم؛ إذ بسبب الثورة التي وقعت عامي 1500-1501، أعادَ فرديناند وإيزابيلا التفكيرَ بالامتيازات التي مَنَحاها لمسلمي الأندلس الذين استسلَمُوا بعد هزيمة المسلمين، وقد انتشرَتْ فيما بعدُ عمليَّات التعميد الجماعي [للمسلمين]؛ وهكذا فإنَّ يوسي يكتُب للرجل الشاب من أريفالو، الذي كان يعيشُ في أفيللا؛ وبالتالي فإنَّه كان جاهلاً بما حصل وكان يحصل في غرناطة، ويخبره بتخوُّفه الفعلي من أنَّه "إذا لم يكن قائد الفتح - يقصد فرديناند - سوف يُحافظ على كلمته فإنَّه ليس بمقدورنا أنْ نأمل الكثير ممَّن سيَخلُفونه في الحكم".
وفيما يلي المرثاة التي يَكتُبها يوسي:
"اعلم يا بني أنَّك لا تعرف شيئًا عمَّا حلَّ بغرناطة؛ وعليك ألا تفزع حين أُخبِرُك بما حَلَّ بها؛ لأنَّ صدى ما حدَث يترجم بقلبي في كلِّ لحظةٍ من اللحظات، ولا تمرُّ برهةٌ من الزمن إلا وتهرُّ أمعائي من هول ما حدث... أي بني، إنَّني لا أبكي الماضي لأنَّ الماضي لن يعود، لكنَّني أبكي على ما ستشهَدُه عيناك إنْ كُتِبَ لك العيش على هذه الأرض وفي الجزيرة الإسبانيَّة، ادعُ لطفَ الله، إكرامًا فقط لقُرآننا العظيم، أنْ تذهب هذه الكلمات التي سأقولها إلى عالم النِّسيان، وألا تسمع هذه الكلمات التي تنبَّأتُ بها أبدًا، خُصوصًا أنَّ دِيننا الآن محتقرٌ ومُزدَرى إذ يقول الناس: أين ذهبت صلواتكم وأدعيتكم؟ ما الذي حدَث لدِين آبائنا؟ وسوف يحسُّ الإنسان ذو الشُّعور الرقيق بأنَّ كلَّ شيءٍ فج وشديد المرارة.
وما يُؤلم أكثر أنَّ المسلمين سيُقلِّدون المسيحيين ولن يَرفُضوا ارتداء لباسهم، ولن يزدَرُوا طَعامهم، ادعُ لطف الله أنْ يرفض المسلمون أعمالَ المسيحيين وألا يلقوا بالاً إلى قَوانين المسيحيين في قُلوبهم... وها أنت ترى أنَّني أقولُ ذلك وأنا مَفطورُ القلب فادعُ لطف الله ومحبَّته التي تَفُوقُ الوصف أنْ يكون قولي بعيد الاحتمال والحدوث، وأنا أقوله لأنَّني لا أرغبُ أنْ أبكي بكاءً [مرًّا على ذلك الحال]... إنَّا لا نستطيعُ في هذا المكان الضيِّق أنْ نمدَّ أنفسنا بأسباب البَقاء إلا عَبْرَ المواجهة، فما الذي سيكونُ بأيدينا فعلُه إذًا عندما تأتي أيَّام الخريف الأخيرة؟ ما الذي سيفعَلُه الأبناء والحفَدَةُ عندما سيحقرُ الآباء الدِّين ويفترون عليه؟ وإذا لم يكن الملك الفاتح سيَفِي بوعْده فما الذي ينتظرُنا على أيدي مَن سيَخلُفونه في الملك؟
أي بني، إنَّني أقول: إنَّ هزيمتنا سوف تكبر ويصيرُ حالنا من سيِّئ إلى أسوأ، فادعُ لطف الله العظيم أن يُنزل رحمته علينا ثانية، وينعم علينا، ويمدَّنا بأسباب البَقاء"[15].
لقد مَرَّ [المسلمون] بأوقاتٍ صَعبة، ومِئاتٌ من مخطوطات الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة، التي مُنعت طباعتها بغير وجهِ حقٍّ، تشهدُ مرَّة بعد مرَّة على الحال المتوتِّر والكرب الذي عاناه المسلمون المحصنون وراء الأسوار في المجتمع الأندلُسي المسلم الذي كان آيلاً إلى الزَّوال.
ويكتُب الرجل الشاب من أريفالو واحدةً من أكثر صفحات كتابِه دراميَّة وإثارة للمَشاعر عندما يُخبِرُنا بالتفصيل عن اجتماعٍ سري حضَرَه "رجال من المسلمين وعلمائهم" في سرقسطة (وفي ذلك الاجتماع ولدت فكرةُ كتاب الرجل الشاب الذي أطلق عليه اسم "الشرح").
في هذا المقطع من كتابه يُخبِرُنا عن الإحساس باليأس والغضب الذي كان يشعُر به هؤلاء المسلمون، والذين كان العديد منهم غيرَ قادر على معالجة الوضع؛ ومن ثَمَّ فإنهم كانوا مُتَشائمي النَّظرة بسبب الصُّعوبات التي كانت ستُواجِههم بِخُصوص الإبقاء على دِين الإسلام حيًّا [في تلك الديار]:
"... لقد بدأ الرجال المجتمِعون في الحديث عن الأحزان والمِحَنِ، وكلٌّ منهم ألقى علينا خُطبةً رنَّانة: ومن بين الأشياء العديدة التي ذكَرَها أحدُهم هو أنَّ الضَّياع الذي نحنُ فيه كان عظيمًا، ويدعو إلى الرثاء والشفقة؛ بسبب صغر شأن العمل الذي يمكننا القيام به، عالم آخَر قال: إنَّ ما ينبغي علينا عمله، وما نحس كلَّ يوم أنَّ علينا عمله، سيبرهن على جدارتنا واستحقاقنا، لكنَّهم أنكروا عليه كلامه قائلين: إنَّ ما سنفعله سيكونُ من غير طائلٍ من منظور العقيدة؛ لأنَّ العمل كان ينقصه أمرٌ جوهري وهو الدعوة والتضرُّع الرسميان إلى الله؛ وبالتالي فلن يكون العمل مقبولاً عند الله...
من بين هذه الأشياء المثيرة للغثيان ألقَى علينا أحد العلماء خطبة غاضبة عَصْماء، لقد أخبرنا - مثله مثلُ غيره - أنَّ علينا أنْ نُشمِّر عن سواعدنا، وأنْ يلفَّ كلُّ واحد منَّا ثوبَه حول وسطه[16]، ومَن يرغب في الخلاص عليه أنْ يذهَبَ ويبحَثَ عن خَلاصِه، وقد قُوبِلت كلماته باستياءٍ لأنها تسبَّبت في إثارة الحزن الشَّديد بين الناس، وهو لم يكن ليُعطِي مثالاً للمسلم المؤمن، أحزانٌ كثيرة أخرى عبَّر عنها [المتحدِّثون]، وبما أنَّ كلَّ واحد من الرجال كان يحس بأنَّ الأذى والضرر العام كان واقعًا عليه هو شخصيًّا لم أستغربْ ضرورة أنْ يتكلم كلُّ واحدٍ من الحاضرين عمَّا يدور في خلده؛ لأنَّنا لم نكن في المزاج الذي يسمحُ لنا بأنْ نحكي النكات أو نتفوَّه بكلماتٍ غير مهذَّبة"[17].
لقد كانت المحنة التي يمرُّ بها مسلمو الأندلس باعثةً على اليأس؛ ممَّا جعلهم يبحثون عن مَلاذٍ لهم في الحيل المدهشة التي تُمكِّنهم من احتمال الوضع وتمنحهم بعض المتعة والفرح؛ لقد انغمسوا في النبوءات أو كتب الجفر (aljofores)، ويعدُّ هذا الأمر من الأبعاد المدهشة والمثيرة للاستغراب في الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة، كما أنَّه يعدُّ مثالاً مثيرًا للشفقة على التفكير الرغبي الجمعي، تتظاهر الكتب التي تدعى كتاب الجفر، المكتوبة بوضوحٍ في القرن السادس عشر، بأنها مخطوطاتٌ قديمة (رغم وجود استثناءات معيَّنة تشذُّ عن القاعدة) تتنبأ بمستقبلٍ زاهر مُزدَهٍ بالنَّصر لمسلمي إسبانيا.
باستخدام كتب الجفر (التي يصعُب علينا تصنيفُها وردُّها إلى أحد الأنواع الأدبيَّة؛ لأنها تدمج عَناصِرَ من الرواية والأدب والتاريخ)، كان المسلمون يُحاولون فقط إعادةَ كتابة تاريخهم والتأثير في مُستَقبلهم، ومن النادر أنْ نجدَ مُوازيًا لهذه التجربة الأدبيَّة والإنسانيَّة التي حاوَل بها مُسلمو الأندلس "أنْ يعيشوا حياة مختلفة عن حياتهم"، كما يعرف أميريكو كاسترو، بصورةٍ مُلهِمة، هذه التجربة.
إنَّني أُدرك أنَّ مسلمي الأندلس كانوا بالكاد يعتقدون بصحَّة الأدب الذي يتنبَّأ بالمستقبل (وهو أمرٌ كان موضوعًا للبحث والنقد)، ورغم ذلك فقد استثمروا معرفتَهم بطريقةٍ متفرِّدة؛ كما استخدم المسيحيُّون، بِمَن فيهم رامون لول، هذا النوع "الأدبي، الصَّادر عن اليأس، طِيلة العصور الوسطى، وصولاً إلى عصر النهضة، لكنَّ أعظمَ مثال على هذا النوع دون أيٍّ شك ذو أصلٍ أندلسي مسلم، أقصد ذلك العمل المدهش الذي لا يصدق من الكتب المصنوعة من الرَّصاص في ساكرومونتي والرَّقائق المخطوطة في برج توربين (Turpin) في غرناطة.
عندما هُدِم برج توربين - وهو مِئذنة قديمة لجامعٍ - عام 1850 لتَوسِيع الكاتدرائيَّة، عُثِر على صُندوقٍ مصنوع من الرَّصاص يضمُّ كتاباتٍ منقوشةً "تتنبَّأ بالمستقبل" وهي مكتوبة بالإسبانيَّة والعربيَّة، وتتحدَّث عن نهاية العالم، وتُنسَب هذه النُّقوش إلى القديس يوحنا الإنجيلي، ولقد بُدِئَ حينها بالعمل المناسب من أجل التحقُّق من صحَّة الآثار المكتشَفة، ويُخبرنا داريو كابانيلاس [18] (Dario Cabanelas) أنَّ القدِّيس يوحنا الصليب، وكان حِينها رئيسًا لدير الراهب ديسكالسيد الكرملي (Discalced Carmelite) من بين علماء اللاهوت والقُضاة والمتخصِّصين في الكتاب المقدَّس الذين عُيِّنَوا لدراسة هذا الاكتشاف الأثري (ونحن للأسَف لا نعرف شيئًا عمَّا دار بخلد القديس يوحنا من أفكارٍ بخصوص هذا الاكتشاف "المدهش").
وبعدَ خمسة عشر عامًا، سنة 1595، عُثِر على اكتشاف لافتٍ آخَر أكثر أهميَّة؛ إذ وُجِدت ألواح رصاصيَّة في ساكرومونتي في غرناطة مكتوبة بحروف عربيَّة ذات زوايا (لكي تبدو عتيقةَ المظهر) وباللاتينيَّة البسيطة غير المتقنة، ويُقال لنا: إنَّ ما عثر عليه كان تسعة عشر لوحة دائريًّا مصنوعة من الرَّصاص على هيئة صَفائح رقيقة، وجميعُها بحجم رقائق البسكويت التي يتَناوَلُها المصلُّون في العشاء الرباني (وقد شاهد داريو كابانيلاس بعضَ هذه الألواح التي ما زالت موجودةً في غرناطة)[19].
وقد صُنعت الألواح لتبدو كأنها تعودُ إلى القرن الميلادي الأول، وكتب عليها العديد من الكتب، الأحداث العجيبة الغريبة التي شاهدها القدِّيس جيمس، والأحاجي والأحداث العجيبة الغامضة التي شاهدتها العذراء:
Mysteries Seen by St James enigmas and The Great Mysteries seen by the Virgin.
و"عن الروح المهيبة المجلة" on the venerated Essence
والمبادئ العامة للإيمان (Maxims of the Faith)، وكتب أخرى، وجميعها منسوبة إلي تيسيفون إبناطار (Tecifon Ebnatar) وأخيه سيسيليو إينالرابي (Cecilio Enalrabi)، وهما تلميذان مزعومان من تلامذة القدِّيس جيمس الرسول (st James the Apostle) الذي كان يحمل اسم سانتياغو إبوستول Santiago) Apostol) القدِّيس الراعي لإسبانيا. وقد أمَر رئيس أساقفة غرناطة بيدرو فاكا دي كاسترو (Pedro Vaca de Castro) بحماسةٍ كبيرة أنْ يُنقَّب عن هذه الألواح الرَّصاصية (plomos) (كما تُعرَف عالميًّا)، وتسبَّب العثور على هذه الألواح - كما يقول هارفي - في حدوث ضجَّة هائلة تُشبِهُ الضجَّة التي أحدثها اكتشاف مخطوطات البحر الميت في أيَّامنا.
وتعطينا هذه الألواح الرصاصيَّة وصفًا جسمانيًّا للمسيح ومريم العذراء التي صعدَتْ إلى السَّماء على ظهر فرس (وهي نسخةٌ غير مصقولةٍ عن عُروج محمدٍ إلى السماء السابعة على ظهر البراق)، وهي تجيبُ عن أسئلة القديس بطرس (بالعربية!) بخصوص الأحوال والمعاصي التي ستُرتَكب بحقِّ غرناطة في القرن السادس عشر، وعن الأهميَّة الخاصَّة للمسلمين في تلك الأيَّام.
ولقد نشَأ نزاعٌ لاهوتي استمرَّ لمدَّةٍ طويلة؛ نتيجةً لاكتشاف هذه الألواح، ورغم أنَّ هذه "الآثار" قد صُودِقَ على صحَّتها بالفعل من قِبَلِ علماء لاهوت شبه الجزيرة [الإسبانية] في نيسان/ أبريل 1600، فقد نشَأتِ اعتراضاتٌ كثيرة، ومن بين هذه الاعتراضات تلك التي أبْداها عالِمُ اللاهوت الشديد الدقَّة والصَّرامة بينيتو أرياس مونتانو (Benito Arias Montano)، وكذلك عالم اللاهوت اليسوعي الغرناطي المتحدِّر من أصولٍ أندلسيَّة مسلمة أغناتسيو دي لاكاساس (Ignacio de las Casas)، وقد نقلت الألواح في النهاية إلى مدريد ثم إلى روما، وكذَّبها خوسيه غودوي إي الكانتارا (Jose Godoy y Alcantara) في القرن التاسع عشر، ولم يعدْ يعترف بها إلى الأبد[20]، وهي ما زالت تُوصَف من قِبَلِ الكنيسة بأنها عملٌ من أعمال الهرطقة.
وُظِّفَتْ هذه الخدعة لخِدمة بعضِ أغراض السُّكَّان المسلمين في الفترة التي سبَقتْ عمليَّة طردِهم بصورة نهائيَّة من الأندلس عام 1609؛ إذ أحبطت هذه "النُّبوءات" بعضَ الإجراءات التي كانت ستُتَّخذ، والتي كانت ستُسبِّب الضيق للكنيسة المسيحيَّة كما ستُوقِع محنة بالمسلمين، ومن هنا نشَأتْ محاولة دبلوماسيَّة (يائسة في الحقيقة) للوُصول إلى تركيبٍ بين المعتقدَيْن.
ونُورِدُ هنا مثالاً واحدًا من أمثلة التوفيق بين المعتقدات الدينيَّة التي تَرِدُ في الألواح الرصاصيَّة (وهو في الحقيقة من بين بعض الأمثلة التي تُرِينا المواجهة الحاصلة بين هذين المجتمعَيْن خِلال تلك الفترة): تتحوَّل العبارة الإسلاميَّة المأثورة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" إلى "لا إله إلا الله ويسوع روح الله"، وهي عبارةٌ كاثوليكيَّة الوقع وقُرآنيَّة في الوقت نفسه كما يشيرُ هارفي بذكاء ودقَّة[21].
ويحومُ بعض الشك حول ألونسو ديل كاستيو (Alonso del Castillo) وميغيل دي لونا (Miguel de Luna) اللذين شارَكا في الترجمة "الرسمية" لهذه الألواح الرصاصيَّة في أنهما كانا في الحقيقة هما اللذين كتباها وقد ساعدهما في هذه المغامرة اللاهوتيَّة ذات الآثار النافعة على الصَّعيد الحياتي اليومي أشخاصٌ لهم بعضُ الاهتمام بالدِّينين المتعارضين.
تبدو السجلات التاريخيَّة المزعومة ومخطوطة برج توربين هذه الأيَّام مثيرةً للشَّفقة بسَذاجتها اللاهوتيَّة كما تبدو مأساويَّة بسبب إخْفاقها التام في منْع طرْد مُسلِمي الأندلس، ومنْح الإسلام في إسبانيا - الذي كان يُعاني النزع الأخير - بعضَ الهَيْبة والاحتِرام، ومع ذلك فإنَّ هذه المكتشَفات تهمُّنا لكونها سابقةً "أدبيَّة" على النوع الذي تَركَّز موضوعُه حولَ الاهتمام بالتنبُّؤ بالمستقبل في الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة.
ورغم أنَّ الألواح الرصاصيَّة ومخطوطة برج توربين كانت مكتوبةً جميعها بلغاتٍ أخرى (العربيَّة واللاتينيَّة والإسبانيَّة) فإنها في الحقيقة تبدو منتسبة إلى التراث نفسه - أي: إلى ذلك النوع من الأدب الذي يرغب في التأثير في المستقبل والذي كانت نسخه في الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربية (وكان مألوفًا بطريقة أو بأخرى بالنسبة لسيرفانتس ولوب دي فيغا (Lope de Vega) منتشرة بصورةٍ واسعةٍ خِلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
بعضُ هذه النُّبوءات، التي تبدو مغوية تمامًا من المنظور الأدبي، تقولُ: إنَّ قدر الإسلام قد تنبَّأ به محمد نفسه، أو إنَّ علي بن جابر الفارسي (ابن يعمر Yumayr lbn) أو القديس إيزيدور (St Isidore) قد قاما بذلك، لقد كان مسلمو الأندلس يُقدِّمون تفسيرًا أدبيًّا لوجودهم، وأرادوا من خلال ذلك أنْ يُبجِّلوا هذا القدر التاريخي ويرفعوا من شأنه، بإضْفاء بعض المظاهر الروحيَّة الجديَّة الغامضة عليه، لكنَّ الخيال الجامح - وهو ظاهرةٌ مألوفة بالنسبة لنا جميعًا - منعهم من الرؤية الكاملة لهذه الحقيقة المؤلمة، يتحسَّر محمدٌ نفسُه على سقوط الإسلام في إسبانيا في المخطوطة رقم (MS 774) المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس:
"يروي ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّه رأى ذات يوم محمدًا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُصلِّي صلاةَ العشاء، وبعد أنِ انتهى من صَلاته اتَّكأ على الحروب ونظَر إلى حيث تغرب الشمس، وبكى بُكاءً مُرًّا.
فقال ابن عباس - رضِي الله عنه -: "يا رسول الله، لم تبكي حتى ابتلَّت شعرات لحيتك من الدمع؟
فقال النبيُّ محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لقد بكيت لأنَّ ربي أراني جزيرةً تُدعَى الأندلس ستكون أبعدَ جزيرة يَصِلُها الإسلام وسوف تكون أوَّل مكان يخرج منه))[22].
في المخطوطة نفسها نعثرُ على نبوءة مفضلة بصورةٍ تدعو للاستغراب لدى المسيحيِّين وهي للقدِّيس "إيزيدور" (وهذا - بلا شَكٍّ - انتحالٌ لاسم طبيب الكنيسة الشهير القديس إيزيدور الإشبيلي St Isidore of Seville الذي عاشَ في القرن السادس الميلادي) وتُدعى "شكوى إسبانيا"؛ حيث يأخُذها القديس إيزيدور، أفضل أطباء إسبانيا، من كتابٍ قديم جدًّا يُدعَى "سر أسرار إسبانيا"[23] (وهذا أمرٌ قريبٌ جدًّا من التحريفات المتطوِّرة التي عُثر عليها في ساكرومونتي)، أنَّ النَّبرة التي نعثر عليها في هذه النبوءة هي نبرةُ عَرَّافٍ شديد الفصاحة:
"ارثِ لحال مسلمي إسبانيا! لعظمة قصر الحمراء الذي سيستولي عليه مَن هو أقوى، وابكِ على فرسان رندة الفاتنين الذين اعتادُوا أنْ يُستَنجدَ بهم، على جمال مالقة وعَظمتها، على حِصن جبل طارق، وعلى أكثر البساتين والجبال إثارةً للسُّرور والمتعة في النَّفس التي كانت تسليةَ المسلمين ومُتعتهم؛ إذ إنهم سوف يهجرونها، سوف يكون حُزنهم عظيمًا ولن يعرفوا إلى أين يهربون وأي عزاء سوف يُهدِّئ من روعهم"[24].
لكنَّ تنبُّؤات مسلمي الأندلس كانت بصورةٍ خاصَّة متفائلة، كان هدفهم في هذه الحالات رفع الروح المعنويَّة لمسلمي الأندلس المضطهَدين وتخفيف بعض الآلام التي يُسبِّبها العالَم الذي وجدوا أنفسهم يَعيشون فيه، وذلك باستِخدام الخيال الذي كان يتحوَّل في بعض الأحيان إلى نوعٍ من هذيان المصاب بمرضِ الحُمَّى، ويبدو القديس إيزيدور، الذي يتنبَّأ بانتِصار المسلمين في الأندلس على الإسبان في النهاية، وذلك في مخطوطة الجفر الباريسيَّة التي ذكرناها من قبلُ، عارفًا ببعض الأحداث التاريخيَّة التي يستَخدِمُها في نُبوءته لكي يأخُذ جانب المسلمين، وما زالت كلماته تحملُ بعض الإجلال والاحترام لهم: "سوف تدورُ عجلة [عام] ألف وخسمائة وواحد، وعندها سوف تُعانِي شُعوب إسبانيا من وُقوع البلايا والمِحَن، وسوف تُسحَق هذه الشعوب، ولن يَعرِفَ الإسبان إلى أيِّ مكان يذهَبون، وأي منقلب ينقَلِبون.. وسوف يبتسمُ الحظ لمسلمي إسبانيا الذين سيُصبِحون في ذلك الحين أصدقاءً للمسيحيين؛ لأنك لن تجد في ذلك الوقت رجلاً واحدًا في إسبانيا يستطيع قراءة القُرآن[25].
سوف "يُكرَه مسلمو الأندلس على استعمال زيت [المعمودية]، المقدَّس بالقوَّة "وسوف يقعُ" عليهم الكثير من الظُّلم"[26].
وفي الحقيقة أنَّ التعميد القسري لمسلمي الأندلس كان قد بدَأ بالفعل لدى دوران "عجلة [عام] 1501"، لكنَّ المأساة الجماعيَّة سوف تَقَعُ على المسيحيين بعدَها بقليلٍ حسَب القديس إيزيدورا:
"... وعندما تدورُ عجلة [عام] 1502 أو قبل ذلك، سوف تُصبِحُ المسيحية خجلة من نفسها، وسوف تصبح رثَّة الحال ممزقة بحيث يُحالِفُ الحظُّ الرجلَ المسيحي الذي سيكونُ له صديقٌ أندلسي مسلم، وسوف يُجازَى [كلُّ شخص] على عمله إنْ كان حسنًا أو سيِّئًا: سوف يُصِيب المسيحيين من المرض والدَّمار والشر ما هو عظيمٌ؛ لأنَّ حِصن الشر لن يتوقَّف عن نشر شُروره إلى أنْ يأتي على آخِر رجلٍ من [فرقة المسيحيين]... لكنَّ المسلمين سوف يهزمون حصن الشر ويحتلون كلَّ أرض إسبانيا"[27].
وفي النهاية سوف يأتي الأتراكُ لمساعدة مسلمي إسبانيا، وينتهي الجفر بتمجيد الإسلام قائلاً:
"أوَّل ما سيعودُ إلى دِين الإسلام هو جزيرة صقلية، وبعدَ ذلك جزيرة الزيتون؛ أي: ميورقة (Mallorca) ثم جزيرة الملح؛ أي: إبيزا (Ibiza) ثم أخيرًا جزيرة إسبانيا العظيمة..."[28].
لن يُضاهي هذا النصرَ إذًا نصرٌ آخر، كما أنَّ الوقت مدهش بسبب دقَّته واعتِنائه بأدقِّ التفاصيل:
"سوف يُؤسَر ملكُ المسيحيين ويُرسَل إلى مدينة بلنسية حيث سيتحوَّل إلى دين الإسلام، وعندما يرَى المسيحيون ذلك سيتجمَّعون في مدينة النهر، وسوف يحكمهم ثلاثة ملوكٍ من المسلمين الذين سيَدخُلون المدينة بقوَّة السِّلاح، وسوف يَأكُل الملوك الثلاثة على مائدةٍ واحدةٍ، وفيما بعدُ سوف يدعو كلُّ واحدٍ منهم للآخَر أنْ يُوفِّقه الله؛ سيتحرَّك أحدهم باتجاه مونكايو (Monkayo) [كما هي في الأصل]، وسوف يدخل الثاني منطقة تشييرا (cuera) [كما هي في الأصل]، ويدخُل الآخَر منطقة حيمشا (Himca) [والتي تعني كما أظنُّ إشبيلية].
وعندما يرى المسيحيون ملكَهم مأسورًا سوف يتحوَّل قسمٌ كبير منهم إلى الإسلام، وسوف ينتصرُ المسلمون بقوَّة الله تعالى وعونه..."[29].
يُثبِتُ التاريخ بالطبع أن هذا التفاؤل المثير للمشاعر كان خطأً، كما أنَّه يثبت أيضًا كم أنَّ هذا الخيال الخصب لمن ألَّفوا كتبَ الجفر، الذين كان عليهم أنْ يخترعوا قُدرتهم على البَقاء كشعبٍ من لا شيء، والذين تبرهن مخطوطاتهم التي نقرَؤُها هذه الأيَّام على كونها الأكثر إثارةً للشَّفقة بسبب معرفتنا للمسار التاريخي لشَعبهم، قد برهن على أنَّه كان عقيمًا وبلا طائل.
لقد أُجبِر مسلمو الأندلس بالتدربج على الصَّمت تاريخيًّا، وعلى الاندِماج الثقافي، وحتى على الطَّرد من "جزيرتهم الأثيرة على قلوبهم إسبانيا"، كما تشهَدُ نصوص الأدب الإسباني المثيرة الغريبة المكتوبة بالحروف العربيَّة فيما بعدُ.
وينبثق "الدليل" [التالي] "إلى الطريق"، وهو خارطةٌ فعليَّة لهويَّةٍ تتلاشَى، من خطَر الانقِراض الثقافي والشخصي الذي كان يتهدَّد مسلمي الأندلس، ويدَّعي هذا الدليل أنَّه يقودُهم، أو يقودُ مَن يَرغَبون منهم بالفِرار إلى دِيار الإسلام، عبر الصحراء من الأرض التي كانت يومًا ما وطنهم الأثير على قلوبهم:
"معلومات عن الطريق: في جاكا عليكم أنْ تبرزوا قِطَعًا ذهبيَّة، وإذا سألوكم عن وجهتكم: [فقولوا] بأنكم ذاهبون بسبب الديون التي تراكمت على كَواهلكم، وأنَّكم راغبون بالهرب إلى فرنسا، في فرنسا [قولوا]، إنكم ذاهبون إلى سانتو ماريا دي لوريتا (Santa Maria de Lorito)، في ليون سوف تبرزون النقود المعدنيَّة، ستدفعون واحدًا وأربعين، بالفضَّة أو الذهب، وسوف تسألون عن الطريق إلى ميلان، وطيلة الطريق إلى هناك سوف تقولون: إنَّكم ذاهبون لزيارة ساماركو (Samarks) [المكان الذي يَرقُد فيه القدِّيس مارك (St Mark) في فينيسيا، يَمِّموا وجوهكم شطر بادوا، واستقلُّوا قاربًا متَّجهًا إلى فينيسيا، وسوف تدفعون نصف ريال عن كلِّ شخص، ترجَّلوا في ميدان ساماركو ثم اذهبوا إلى نزلٍ هناك، لكن قبل أنْ تقيموا في النزل عليكم أن تتفاهموا مع صاحب النُّزل على السعر، ستدفعون نصف ريال في اليوم، لا تتناولوا شيئًا في النزل؛ لأنكم ستدفعون ثلاثة أضعاف الثمن الفعلي للطعام والشراب، اذهبوا إلى الميدان لتشتروا أيَّ شيء تَرغَبون في شرائه، وهناك سترَوْن أناسًا يرتدون غطاءً أبيض للرأس، هؤلاء أتراك، وأناسًا يضَعُون غطاءً أصفر للرأس، هؤلاء يهودٌ، وهم تجارٌ آتون من تركيا العَظِيمة، ومن هؤلاء اطلُبوا ما ترغَبُون به؛ إذ إنهم سوف يُرشِدونكم إلى ما تريدون فعله، أخبروهم أنَّ لكم إخوانًا في سالونيك، وأنَّكم تريدون الذهاب إلى هناك، سوف تدفَعُون دوكاتية واحدة [عملة ذهبية أوروبية - المترجم]، عن كلِّ شخص، وسوف تدفعون مُقابل الماء وحطب التَّدفِئة في الطريق، اشتروا حاجتَكم لمدَّة خمسة عشر يومًا، اشتروا يخنةً وأرزًا وخلاًّ وزيتونًا وحمصًا أو أي نوعٍ من الفاصولياء البيضاء وخبزًا طازجًا لاستهلاك ثمانية أيَّام، وكعكًا بعشرة جنيهات لكلِّ إنسان"[30].
وعلى رغم خُطَبِهم الرَّنَّانة واجتماعاتهم السريَّة ونبوءاتهم المتفائلة الكاذبة والمزيَّفة في الوقت نفسِه، وعلى رغم كتب الجفر التي ألَّفوها فقد أخفَقَ مُؤرِّخو الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة من قِبَلِ مُسلِمي الأندلس، تلك الملحمة المعكوسة، في إبطاء زحف القدر عليهم، لكنَّهم رغم ذلك يُقدِّمون لنا رؤيةً ثمينة لاختفائهم التَّدريجي المؤلم كحضارةٍ حيَّة، ويستحقُّ مُؤلِّفو مسلمي الأندلس الغريبو الأطوار، الذين أصبحوا الآن مُهجَّنين على الصَّعِيدين الثقافي والديني؛ ومن ثَمَّ فإنهم كانوا يمرُّون بحالة انحطاط وتراجُع؛ بسبب موقفهم المتعصب ودفاعهم المتحمِّس المستميت عن الإسلام المستحيل الآن أنْ يدرجوا في أيَّة دِراسة لأدبِ شبه الجزيرة الإسبانيَّة في عصر النهضة.
لم يكتب الفصل الأخير من هذا الأدب الهجين المختلط في شِبه الجزيرة، بل في البلدان الإسلاميَّة التي هاجَرتْ إليها البقيَّة الباقية من مسلمي إسبانيا لأسبابٍ سياسيَّة ودينيَّة، ولقد استطَعْنا أنْ نتتبَّع خُطوات بعض هؤلاء المنفيِّين، من بين هؤلاء المؤلِّفين المدهشين حقًّا مسلمٌ أندلسي من القرن السابع عشر أطلق عليه بسبب مأساته كلاجئ اسم المهاجر إلى تونس (el refugiado de Tunez) ولقد خلَّف هذا المؤلف الغريب الشأن وصفًا مفصلاً لتجاربه في مسقط رأسه إسبانيا، وكذلك في بلده الذي اختاره للإقامة تونس (وقد قمتُ بتحقيق مقاطع من هذا النص، وسوف أقومُ بتحقيق المخطوطة، المصنَّفة تحت رقم (2-S) في مكتبة الأكاديمية الملكية للتاريخ [BRAH] في مدريد، كاملة)[31].
إنَّ أزمة الهويَّة التي يُعانيها ذلك المهاجر تُمزِّق الفؤاد حقًّا.
وعلينا أن نتذكَّر أنَّ مسلمي إسبانيا قد تعرَّضوا لعمليَّةٍ طويلةٍ من تغيير الهويَّة الثقافيَّة: لقد مُنِعوا من استعمال لغتهم العربيَّة، وأُجبِروا على تغيير دِينهم وعاداتهم وأسمائهم والزي الذي كان يُميِّزهم عن غيرهم عبر إصدار مرسومٍ قانوني إثْر مرسومٍ خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومع مَجِيء عام 1609 الذي شَهِدَ طردَهم النهائي من إسبانيا كانوا في الحقيقة قد امتُصُّوا في التيَّار العام للثقافة الإسبانيَّة "الرسميَّة"، وذلك رغم الفعاليات السريَّة التي كانوا يقومون بها، ورغم محاولاتهم السريَّة ممارسة البقيَّة الباقية عن معرفتهم بشَعائر دِينهم الإسلامي.
وهكذا، فعندما وصَل هؤلاء المهاجرون إلى تونس والمغرب والبلدان الإسلامية الأخرى استُقبِلوا هناك بوصْفهم مواطنين أوروبيين؛ لأنهم كانوا لا يعرفون إلا أقلَّ القليل من عناصر الثقافة الإسلاميَّة التي تركها أسلافهم.
مثله مثلُ إخوتِه من المهاجرين عانَى مهاجرُ تونس عمليَّة عنيفة مزدوجة استهدفت امتصاصه في المحيط الثقافي خلال السنوات التي عاشها: لقد جرى دمجه في التيار الثقافي الإسباني العام في سني طفولته، ثم جرَى دمجه ثقافيًّا في ثقافته الإسلاميَّة، التي كان قد نَسِيَها خلال فترة هجرته إلى تونس في سنِّ الرجولة.
وتكشفُ لنا الفصول الخاصَّة بسِيرته الذاتيَّة في نصِّه الدرامي المثير عن الصِّراع الداخلي لنفسٍ لا تنتمي بصورةٍ أبديَّة إلى أيِّ بلدٍ، لقد حاوَل بكلِّ ما أُوتِي من قُدْرةٍ ومشقَّة أنْ يكون مسلمًا في إسبانيا عصر النهضة، وهو الآن يُحاول أنْ يبقى إسبانيًّا في تونس المسلمة، لقد كره النظام الإسباني الذي اضطهده[32]، ولكنَّه كان يحنُّ إلى لغته الإسبانيَّة، وخُصوصًا إلى الشعر الإسباني - الذي كتبه غارسيلازو ولوب دي فيغا وغونغورا - الذي كان يعشقه ويحفظه عن ظهر قلبٍ، لقد كان ممتنًّا للسلطات الإسلاميَّة في تونس - عثمان داي وأبو غيث القشاش (سيتيبولغيز Citibulgaiz) - بسبب الاستقبال الرحيم والكريم الذي لقيه المهاجرون[33]، لكنَّه كان ممتعضًا من حقيقة أنَّ العديد من أهالي تونس جعَلُوا اندِماج مُسلِمي الأندلس في الثقافة الإسلاميَّة عملاً شديد الصُّعوبة بسبب الغيرة والحسد وقسوة الفؤاد التي كانوا يتَّصفون بها[34].
[1] لوسي لوبيز بارالت (Luce Lopez Baralt): أستاذة الأدب الإسباني والأدب المقارن في جامعة بورتوريكو، قام بترجمة هذا الفصل فخري صالح.
[2] Miguel Asin Palacios، >>El Simbolo de los siete castillos concentricos del alma en Santa Teresa y en el Islam، >> in: Asin Palacios، Huellas del Islam. Santo Tomas de Aquino، Turmeda، Pascal، San Juan de la Cruz، pp. 73-98.
وتبحث زميلتي كاثرين زفيتليتشكي إمكانية وجود أثر للقبلانية في التصوُّف الإسباني وهي تدرس أيضًا رمز القلاع الإسبانية المتحدة المركز في كتابها:
Catherine Swietlicki، Spanish Christian Cabala: The Works of Luis de Leon، Santa Teresa de Jesus، and San Juan de la Cruz (Columbia: University of Missouri Press، 1986).
[3] يقول أوتمار هيجي، وهو مُتخصِّص في الموضوع: إنَّ وجهة نظَرِه (وأنا أُوافِقُه تمامًا في ما يقوله) هي أنَّ الكُتَّاب لم يستخدموا الشخصيَّات العربيَّة في الكتابات الإسبانيَّة المكتوبة بالحروف العربيَّة رغبةً في توفير نوعٍ من السريَّة؛ (إذ إنَّ محاكم التفتيش كان لديها خُبَراء في العربيَّة؛ ومن ثَمَّ في الخط العربي).
ولكنَّهم فعلوا ذلك بسبب الحاجة أو الرَّغبة في التشبُّث بالمعاني الضمنيَّة والتَّداعيات الدينيَّة والثقافيَّة التي كانت تُوحِي بها لغةُ الوحي المقدَّسة، إنَّ هيجي في مقالته المثيرة للإعجاب:
Ottmar Hegyi، <El Uso del alfabeto arabe por minorias musulmanas y otros aspectos de la literatura aljamiado، resultants de circunstancias historicas y sociales analogas، » paper presented at: Actas del Colaquio International sobre literature alliamiada y morisca، edited by Alvaro Galmes de Fuentes، Coleccion de literatura espanola aljamiado-morisca; 3 (Madrid: Gredos، 1978
يبحثُ في موضوع استخدام الأحرُف العربيَّة في لغاتٍ مختلفةٍ مثل الفارسيَّة والهنديَّة والتركيَّة والسانسكريتيَّة؛ ومن ثَمَّ فإنَّ السريَّة لم تكن الدافع الوحيد وَراء استِخدام هده الحروف في الكتابة.
إنَّ علينا أنْ نتذكر أنَّ كتابة نُصوصٍ بالحروف العربيَّة في شِبه الجريرة الإيبيرية كان شيئًا مألوفًا منذ العُصور الوسطى (رغم أنَّ هذا الاستخدام لم يكن على هذه الدَّرجة من التواتر).
قارِن بما كتبه:
Alois Richard Nykl >>Aljamiado Literature: El Rrekontamiento del Rrey Alisandere، » Revue hispanique، vol. 172 (1929)، pp.409-611.
[4] Leonard Patrick Harvey، <<El Mancebo de Arevalo y la literatura aijamiada، » paper presented at: Ibid.، P.22.
[5] المصدر نفسه، ص6.
[6] Louis Cardaillac، Morisques et chretiens: Un A affrontement polemique، 1492-1640،) 1977، preface de Fernand Braudel (Paris: Klincksieck
[7] المصدر نفسه:
Hegyi، <<El Uso del Alfabeto arabe por minorias musulmanas y otros aspectos de la literatura aijamiado، resultantes de circunstancias historicas y sociales analogas
[8] George Ticknor، Historia de Is literatura espanola (Madrid: Impr. de la Publicidad، 1881-1885)، vol. 4، p. 420.
[9] Julian Ribera y Tarrago and Miguel Asin Palacios، Manuscritos drabes y aliamiados de la Biblioteca de In Junta (Madrid، 1912)، p. 224.
[10] المصدر نفسه، ص 219-220.
[11] المصدر نفسه، ص225.
[12] Harvey، <<El Mancebo de Arevalo y la literatura aljamiada<<.
Leonard Patrick Harvey: >> Un manuscrito وقارن :aljamiado en la Universidad de Cambridge، >> Al-Andalus، vol. 23 (1958)، pp. 49-74; <Castilian Mancebo as a Calque of Arabic `Abd. or How El Mancebo de Arevalo Got His Name، >> Modern Philology، vol 65..1967، pp. 130- 132، and >>Yuse Banegas: Un moro noble en Granada bajo los reyes catolicos، << Al-Andalus، vol. 21 (1956)، pp. 302-297.
انظر أيضًا:
maria Teresa Narvaez، <En Defensa del Mancebo de Arevalo، » (M. A. Thesis University of Puerto Rico)، and aLa "Tafsira" del Mancebo de Arevalo: Edicion y estudio del Texto، >> (Unpublished Doctoral Dissertation، Rio Piedras، Puerto Rico، 1988.
[13] المخطوط، الورقة 225.
[14] قارن:
Harvey، <<El Mancebo de Arevalo y la literatura aljamiada، p. 300.
[15] Harvey، >>Yuse Banegas: Un moro noble en Granada bajo los reyes catolicos، » pp. 300-302.
[16] المعنى الذي نستخلصه من النص هنا هو أن على الرجال أنْ "يشمروا عن سواعدهم" إنهم يرتدون "ثيابًا طويلة"، ولكي يكونوا قادرين على الحركة بحريَّةٍ ونشاط، لكي "يترجَّلوا ويخوضوا غمار العمل" فإنَّ عليهم أن يُشمِّروا سواعدهم ويربطوها حول خُصورهم.
[17] Ribera y Tarrago and Asin Palacios، Manuscritos drabes y aljamiados de la Biblioteca de to Junta، pp. 218-219.
[18] Dario Cabanelas Rodriguez، El Morisco granadino Alonso del Castillo (Granada، 1965
وقد قام ميغيل خوسيه هاغارتي بنسخ الألواح الرصاصية ونشرها:
Miguel Jose Hagerty، ed.، Los libro، Biblioteca de visionaries، heterodoxos y marginados; 2a ser.، 8 (Madrid: Editora Nacional، °1980).
[19] Cabanclas Rodriguez، Ibid.، p. 200.
[20] Jose Godoy y Alcantara، Historia critica de los falsos cronicones (Madrid: Impr. de M. Rivadenevra، 1868
[21] انظر:
Harvey، <<El Mancebo de Arevalo y la literatura aljamiada، » p.14
[22] El Manuscrito miscelkneo 774 de la BibliotecaÒ Nacional de Paris، edicion، estudio y glosario por Mercedes Sanchez Alvarez، Coleccion de literatura espanola aljamiado-morisca 5Madrid: Gredos، °1982)، p. 252
[23] المخطوط، الورقة 294ظ، المصدر نفسه، ص246.
[24] المخطوط، الورقة 300ظ، المصدر نفسه، ص248- 249.
[25] المخطوط، الورقتان 290 ظ - 291و، المصدر نفسه، ص 244.
[26] المخطوط، الورقة 291ظ، المصدر نفسه، ص 244.
[27] المخطوط، الورقتان 291ظ-292و، المصدر نفسه، ص244-245.
[28] المخطوط، الورقتان 283ظ- 284و، المصدر نفسه، ص 241.
[29] المخطوط، الورقتان 285ظ- 286و، المصدر نفسه، ص 242.
[30] المخطوط، الورقتان 38ظ-39و، المصدر نفسه، ص 154، يعرضُ علينا باسكوال غايانغوس نسخةً إنكليزيَّة من هذا النصِّ التي تتضمَّن بعض الاختلافات المهمَّة.
Pascual de Gayangos y Arce، ed and tr.، The History of the Mohammedan Dynasties in Spain، 2 vols. (London: Printed for the Oriental Translation Fund of Great Britain and Ireland، 1843-1840.
قارن:
Luce Lopez-Baralt and Awilda Irizarry <Dos Itinerarios moriscos secretos del siglo XVI 774.El ms 774 Paris y el ms. T-16RAH، » in: Homenaje a Alvaro Galmes de Fuentes، 3 vols) Madrid: Editorial Gredos، 1985- [19871)، pp. 582-547.
[31] قارن:
Luce Lopez-Baralt، <La Angustia secreta del exilic: El Testimonio de un morisco de Tunez، >، Hispanic Review، vol. 50 (1987)، pp. 57-41.
[32] إنَّ شجبَه لمحاكم التفتيش - منظورًا إليه لأوَّل مرَّة من وجهة نظر واحدٍ من ضحايا هذه المؤسسة - هو وثيقةٌ شديدة الأهميَّة بالنسبة لتاريخ الأفكار في إسبانيا.
أخيرًا فإنَّ لدينا صوتًا من أصوات المضطهَدين يتحدَّث باسمهم عن وضعهم التاريخي الخاص، وفيما يلي فقرةٌ من شهادة هذا المنفي:
"لنشكُر الله الرحيم لأنَّه أبعَدَ عنَّا هؤلاء الهراطقة المسيحيين... لقد أُجبِرنا على التظاهُر بأنَّنا نفعلُ ما يشاؤون؛ لأنَّنا لو لم نفعلْ فلسوف نُؤخَذ إلى محاكم التفتيش حيث كُنَّا، ولتمسُّكنا بالحقيقة سنُحرَم من الحياة ومن أملاكنا وأطفالنا، فجأةً سنجدُ أنفسنا نغيبُ في ظلام السِّجن المظلم، مثلُه مثل مَقاصد القائمين على محاكم التفتيش؛ حيث كُنَّا سنترُك عددًا من السنين هناك إلى أنْ تُؤخَذ أملاكنا كلها.. وإلى أنْ يؤخذ أبناؤنا إنْ كانوا صغارًا، ويربوا في أحضان [المسيحيين] ويجبرون على أنْ يصبحوا هراطقة مثلَهم، وإذا كانوا كبارًا ناضجين فسوف يحاولون الهرب.
إضافةً إلى هذا كله فإنَّ القائمين على محاكم التفتيش كانوا يفرضون على أملاكنا الضرائب والمكوس لكي يقضُوا على شعبنا، بعضهم قال: إنَّه يجب أن يُقضى علينا جميعًا بالموت؛ بعضهم قال: إنَّنا يجب أن نُخصى، آخرون قالوا: إنَّ عليهم أن يضعوا جمرةً من نارٍ على ذلك الموضع من أجسامنا؛ لكيلا نُنجب بعد ذلك أبدًا... ولهذا فإنَّنا نُصلِّي لربنا وإلهنا طوال الليل والنهار أنْ يُنجينا من هذه المحن والأخطار، ونحن نرغَبُ في الذهاب إلى ديار الإسلام ولو كانت أراضي بلقعًا جرداء.
MS S-2 BRAH، fols (11).
[33] إنَّ وصف مسلمي الأندلس لاستقبالهم كمهاحرين في تونس شديد الأهميَّة على صعيد التصوير الأدبي كما هو على الصعيد التاريخي:
"لقد استُقبلنا في ديار الإسلام من قِبَلِ ملك تونس عثمان داي (Usmanday)، وقد كان رجلاً عنيفًا قاسيًا، ولكنَّه كان معنا مثل الحمَل الوديع، وقد استَقبَلنا أيضًا أبو غيث القشاش (Citibulgaiz) بتقواه وورعه كما استقبلنا المسلون بإسلامهم؛ جميعهم حاولوا مُساعَدتنا وعامَلونا بحبٍّ ومُودَّة، وقد ألغى عثمان داي الضريبة التي كانت مفروضةً على كلِّ سفينةٍ آتية، التي كانت تبلغ مائة إسكودو (escudo)؛ لكي يُشجِّعنا على المجيء.. فوق ذلك كله سمح لنا أنْ نختار المكان الذي نودُّ العيش فيه، وهؤلاء الذين كان عليهم أنْ يذهبوا إلى منطقة المهديَّة توجهوا إلى هناك خلافًا لمشيئتهم، ومع ذلك فقد ساعدهم بإعطائهم قمحًا وشعيرًا وبنادق... وقد علمت من صديقٍ مُقرَّب إليه أنَّه عندما سقَط صريعَ المرض قال: "حالما أبرأ من مرضي سوف نذهب أنا وإياك معًا إلى جميع تلك الأماكن ونرى حاجاتهم ونقطع تلك المناطق لهم، "... أمَّا أبو غيث القشاش فقد ساعدنا هو أيضًا بالغذاء، وأخذنا إلى زوايا المدينة [الملاجئ]، خُصوصًا إلى زاوية سيدي الزليخي (Citi al Zulaychi) التي كان يلجأ إليها عددٌ كبير من النساء والأطفال الفقراء، وكما يفعل الأطفال في العادة؛ إذ يتغوَّطون دون أنْ يعرفوا المكان الذي يفعلونها فيه، فقد ملؤوا أرضَ الزاوية كلها بالبراز حتى إنَّ الوكيل القائم على أمر المكان أبلغ أبا غيث القشاش أنَّ الزاوية قد تحوَّلت إلى كومة من الروث، وقد ردَّ عليه أبو غيث القشاش قائلاً: "دعهم يفعلون ما يشاؤون ودعهم يتغوَّطون في المكان الذي يريدون؛ لأنَّ المكان الذي يعيشون فيه لو كان يقدر على الكلام لقال: "لينزل هؤلاء الناس الذين بارَكَهُم الله، هؤلاء المسلمون المؤمنون والإخوة الأعزَّاء، على الرحب والسعة في هذا المكان السعيد كل مَن يحبهم مؤمن حقيقي، وكل مَن يزدريهم ويحتقرهم منافق" (13-12MS S-2 BRAH، fols).
[34] MS S-2 BRAH، fol. 96 v.
رابط الموضوع: الأدب الألخميائي (الأدب الإسباني المكتوب بحروف عربية) - روافد - موقع حضارة الكلمة - شبكة الألوكة