قصة قصيرة بعنوان:أكلَّما اشتهيتَ اشتريتَ يا صديقي (!!)
كانا يتجولان في شوارع المدينة في ليلة شديدة الحرارة بعد أن حنَّ "زيدٌ" لذكرياتٍ مضت، فدعا صديقَه "عمروا" لجولةٍ ليلية من جولاتِ أيام الصِّبا (!!)بعد ساعاتٍ من التجوال المُتْعِب، وقُرْبَ محلٍّ لبيع المرطِّبات والعصائر، طلب "عمرو" عصيرَ برتقال وسأل صديقَه "زيدا" عما يريد أن يشرب (!!)قال زيد: "لا أريد أن أشربَ شيئا" (!!)استغرب "عمرو" وسأله: "ولكنك تبدو ظمآنا، فلماذا لا تريد أن تشربَ شيئا" (؟!)أجاب زيد: "لأنني أرغب في أن أشرب" (!!)أذهله الرد، والتبسَ عليه الأمر، وظن أنه لم يسمع جيدا أو أنه ربما لم يفهم (!!)حدث نفسه للحظة: "لا يريد لأنه يرغب، لا يريد أن يشرب لأنه يرغب في أن يشرب، ما هذا الهوس، كأني لم أفهم" (؟!)لكنه بعد أن تيقَّن من أنه فهم ما قاله زيد، ومن أن أذنَه لم تخطئ السمعَ، علَّقَ قائلا: "ألا تريد أن تشرب لأنك ترغب في أن تشرب، ما معنى هذا الهراء" (!!)أجابه بمنتهى الهدوء وهو يبتسم: "أتمَرَّن على الحرية" (!!)حدَّق فيه "عمرو" لحظة ثم أشاح بوجهه عنه بدون أيِّ تعليق، بعد أن شعر وكأن صديقَه يهذي ربما بسبب حرارة الجو، ثم شرب هو عصير البرتقال وواصلا تجوالَهما (!!)بعد قرابة ساعتين أخريين توقفا أمام مطعمٍ وقد شعر "عمرو" بالجوع، فقال لصديقه: "أريد أن أشتريَ بضعة ساندوتشات، ماذا تريد أن تأكل، أم أختار أنا فأشتري لك مثلما سأشتري لنفسي" (؟!)قال زيد بهدوئه المعتاد: "لا داعي، فأنا لا أريد أن آكل شيئا" (!!)مستغربا: "ولكني أجزم بأنك جائع أكثر مني، فنحن معا منذ الصباح، وكانت آخر وجبة تناولناها قبل عشر ساعات طبقا صغيرا من الحُمُّص" (!!)هازا رأسه بالإيجاب: "أعرف ذلك، ولهذا السبب لا أريد أن آكل" (!!)وهو يهز رأسه دلالة عدم الفهم: "ماذا تقصد" (؟!)أجاب وهو ينظر إليه: "لا أريد أن آكل لأنني أرغب في الأكل" (!!)بانفعالٍ نَزِقٍ: "عدنا إلى الهرطقة، يا رجل كيف تفعل عكس ما ترغب فيه دون أن تكون مضطرا لذلك، وتدعي أنك تتمَرَّن على هذا الهراء ..." (!!)قاطعه بابتسامة هادئة وهو يقول: "تقصد التمرين على الحرية" (!!)وهو يكاد يصرخ في الشارع: "يا أخي فلقتنا بالتمرين على الحرية، أنا من يمارسها الآن ولستَ أنت، لأني أفعل ما أرغب فيه، بينما أنت لا تفعل ما ترغب فيه" (!!)نظر إليه صاحبه مبتسما دون أن يعلِّق، تركه "عمرو" وذهب ليشتري الساندويتشات، وانشغل بتناولها أثناء استمرارهما في جولتهما الليلية في شوارع المدينة (!!)بعد حوالي ساعة أخرى من المشي وقد قارب الليل على الانتصاف، وبدت علامات التعب والإرهاق على الاثنين، "عمرو" يلمحُ مقعدا قريبا فارغا، فيَهِمُّ بالتوجه نحوه وهو يقول لزيد: "تعال لنستريحَ قليلا، أشعر بتعب شديد، يا رجل هلكنا من كثر المشي، يعني هل كان يجب أن ينزلَ عليك وحي الذكريات هذه الليلة وبهذه الطريقة المتعبة" (!!)يتجهان نحو المقعد، "عمرو" يجلس، و"زيد" يبقى واقفا (!!)نظر إليه عمرو باندهاش، ثم وهو يشير إليه بيده: "إجلس، ارتح أنت متعب أكثر مني" (!!)هز زيد رأسه بعدم الرغبة وقال بصوت هادئ: "لا أريد أن أجلس" (!!)فعلق عمرو ساخرا: "أهه، مؤكد إذن أنك ترغب في الجلوس لأنك متعب، لكنك تتمرن على الحرية فلا تريد أن تجلس كي لا تستجيب لرغبتك في الجلوس، أليس كذلك" (؟!)وهو ينظر إليه باستهجانٍ ساخر: "هذا صحيح، كيف عرفت ذلك دون أن أخبرك" (؟!)وهو ينهض ضجِرا منفعلا: "يا أخي فَلَقْتَنا بالتمرُّن على الحرية (!!)لا تشرب وأنت عطشان مع أنك ترغب في الشرب لأنك تتمرن على الحرية.. لا تأكل وأنت جوعان مع أنك ترغب في الأكل لأنك تتمرن على الحرية.. لا تجلس وأنت تعبان مع أنك ترغب في الجلوس لأنك تتمرن على الحرية.. دَخْلَك، وهل أنا كنت أتمرن على العبودية والاسترقاق عندما شربت وأكلت وجلست وأنا أرغب في ذلك" (؟!)وهو يمطُّ شفتيه وبمنتهى الهدوء ودون أن يجلس: "لا، أنا لم أقل لك أنك كنت تتمرن على العبودية والاسترقاق" (!!)وهو يزداد ضجرا: "ولماذا أقرفتني بفعلِ كلِّ ما هو ضد رغبتك وأنت تهرطِقُ أمامي بتمارين الحرية هذه، مادمتَ لست أكثر حرية مني" (؟!)دون أن يلتفت إليه: "أين المشكلة، أنت كنت تمارس الحرية، وأنا كنت أتمرَّن عليها، أنت مارستها بدون تدريب، أما أنا فأحببت أن أتدرب عليها قبل أن أمارسَها" (!!)يستوقفه بعنف وهو يقول: "ولكنها متاحة لك وبإمكانك ممارستها بدون تمارين، إنها سهلة، أسهل مما تتوقع، أرغب في أن آكل، أشتري طعاما، وآكل.. أرغب في أن أشرب، أشتري عصيرا، وأشرب.. أرغب في أن أجلس، أبحث عن مقعد، ثم أجلس.. هكذا بكل بساطة، أنا لم أتمرن على ذلك كي أفعله أمامك اليوم، ولا كنت بحاجة لأن أتمرن عليه في يوم من الأيام، فهل أنت تحتاج لكل هذه التمارين المؤلمة كي تمارس حريتك التي تراها في ألاَّ تأكل وألاَّ تشرب وألاَّ ترتاح رغم رغبتك في كلِّ ذلك" (؟!)توجه إليه كمن ينوي الشرح وقال: "يا عمرو يا صديقي، أنت كنت تمارس حريةً أتيحَتْ لك، وما يدرينا ماذا كنتَ ستفعل لو لم تتح لك هذه الحرية، هل كنت ستمارس حريتك في تلبية رغباتك، هل أنت متأكد من ذلك، هل تستطيع أن تجزم" (؟!)قَطَّبَ "عمرو" جبينه ومطَّ شفتيه كأنه سمعَ وسيسمعُ أمرا فيه وجاهة تستحق الانتباه، ثم بشيء من الاهتمام بعد لحظة صمت، حكَّ خلالها رأسه: أهه، "أكمل، ربما، يبدو لي، كأن عندك ما تقوله" (!!)واصل زيد: "ليست الحرية في أن نمارسَ ما نرغب فيه عندما يكون متاحا لإرادتنا أن تفعل ذلك، هذه ليست حرية، هذه ممارسة قد يفعلها العبد الذي يأكل عندما يسمح له سيده بالأكل، ويرتاح عندما يسمح له سيده بالراحة، وينام عندما يسمح له سيده بالنوم، فهل ممارسته لرغباته تلك جعلته حرا، وهل كانت كافية لقياس مدى حريته، أم أنه مارسها فأكل وشرب ونام وجلس وارتاح، بل وتزوج أيضا وهو عبد، لمجرد أن سيده أتاح له فرصة ممارستها" (؟!)بدون تعليق يشير إليه ييده ليكمل (!!)زيد: "الحرية يا صديقي هي أن لا تفعل عندما يكون في مقدورك أن تفعل، كي تفعلَ عندما تكون ممنوعا من الفعل، وبدون اختبار نفسِك في الأولى، فلن تضمن نفسك في الثانية" (!!)ثم بعد لحظة صمت أخرى:الحرية هي ذلك الجسر الواصل بين الرغبة والإرادة، الرغبة لا نملك قرارتنا بشأنها، أما الإرادة فإننا نملك بشأنها كلَّ قرارتنا، الحرية إذن هي أن تفعلَ ما لا ترغب فيه نفسُك، عندما يريد ذلك عقلُك، كي لا تقف نفسُك حجرَ عثرةٍ في طريق عقلِك، إذا مُنِعَ من أن يفعلَ ما يريده، الحرية هي ألا تشتري كلَّما تشتهي إلا بعد تأَكُّدِكَ من أنك تستطيع ألا تشتري ما تشتهي، وأنا كنت أُدَرِّبُ نفسي على قبول قراراتِ عقلي المعارضة لرغباتِها بألا أشتري ما أشتهي" (!!)