عفيـف البهنـسي
والهاجس الدمشقي
تنادت في عام 1977 م كوكبة من اصحاب الفكر والمعرفة لتأسيس جمعية اصدقاء دمشق، وكان في مقدمتهم :
الدكتورة نجاح العطار والدكتور عفيف البهنسي والاستاذ عبد الله الخاني والاستاذ زهير كتبي والاستاذ هشام الساطي والاستاذ عبد القادر الريحاوي والمهندس وليد السيروان والاستاذ بشير زهدي وسواه ممن رحلوا الى عالم الخلود...
وقد استمر الدكتور البهنسي عضوا في مجلس ادارة الجمعية منذ عام 1977 ولغاية 1994 ، ثم عين عضوا لمجلس الادارة لعامي 2007 و2008 حيث تم انتخابه رئيساً للجمعية.
وكان من اهم اهداف الجمعية مؤازرة السلطات الاثرية والبلدية والوقفية والسياحية في حماية دمشق المدينة والغوطة وبردى وقاسيون والمواقع التاريخية فيها وآثارها، والمحافظة على طابعها والعمل على تجميلها وتبني البحوث والدراسات التي تفيد في احياء مدينة دمشق وتحقيق تاريخها اوالتعريف بها وتخليد اعلامها وبناء اضرحة العظماء المدفونين فيها (كما ورد في النظام الداخلي للجمعية).
وقد اضفى الدكتور البهنسي بشخصيته العلمية والفنية على جمعية اصدقاء دمشق بهاء نهل اقباسه من ممارسته للتصوير والنحت والتنقيب عن الفنون الجميلة منذ خمسينيات القرن العشرين.
بعدما نال درجة الدكتوراه عن بحثه (اثر العرب في الفن الاوروبي المعاصر) من جامعة السوربون في باريس 1964، وتجددت اعماله الفنية في النحت في متحف دمشق والساحات العامة منها: الجاحظ ، الفارابي، ابن النفيس، الكندي وصنف معجماً خاصاً بالمصطلحات الفنية صدر عن مجمع اللغة العربية بدمشق .
حضر خلال عمله التدريسي في جامعة دمشق العديد من المؤتمرات الاقليمية والدولية المتصلة بالاجناس الادبية والاثارية والفنية اهلته لان يصبح علماً علمياً في المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم(اليونسكو) ومقرها باريس باعتباره خبيراً فيها وعضوا في مجلس ادارة مركز الابحاث للتاريخ والدراسات (ارسيكا) التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي ومقره استانبول .
اذاق البهنسي طلابه طعم ثمار الفن الناضج على معالم طريق الفن العربي ودربهم على ان حالة التذوق تتولد في الحياة المتجددة الموارة في النسيج المعماري لدمشق منذ العهود قبل الاسلامية ومنها الرومانية والبيزنطية. وتعد دمشق احدى المدن العشرة الاكثر اهمية في العالم الروماني ، ولعل اقدم ما تعرفه من تاريخ العمارة الرومانية في دمشق هو معبد جوبيتر وكنيسة حنانيا التي لجأ اليها القديس بولس بعد فراره من مطاردة اليهود له، واجزاء السور تخترقه سبعة ابواب لكل باب اسم بحسب الكواكب السبعة.. واطلق على ابوابها فيما بعد اسماء كيسان والباب الشرقي للمدينة والصغير والفرج والفراديس، وتوما والسلام، وقوس النصر، وهذه تقدم نماذج راقية في العصر الروماني. وتم الكشف في العصر البيزنطي في منطقة الحريقة على بقايا قصر ذي ارضية فسيفسائية ورخامية ملونة. وابتدأت منذ الفتح الاسلامي عام 636 م سلسلة من المنشآت مرت بثلاث مراحل عليها بصمات العهد السلجوقي والمملوكي والعثماني .
ويشكل فن الزخرفة المعمارية الداخلية والخارجية فيه وجهاً من وجوه العمارة الدمشقية المتنوعة الاشكال والموحدة الهوية والشخصية وليكون لجمالياته الابداعية في خصائصه الجوانية اصالة تطرد العمارة الداخلية ( البهنسي 2002 ص227-229 عمران الفيحاء).
تابع البهنسي كتابة اوراقه في التاريخ لعمران دمشق واوابدها وقصورها ومعابدها وبيوتها من حيث انتهى جده الحسن بن احمد المهلبي البهنسي ( توفي 380هـ 990م) الذي الف كتاباً جغرافياً عن مدينة دمشق اهداه الى الخليفة القاضي العزيز بالله، وفيه: «اما دمشق فانها مدينة عادية أزلية وهي مدينة الشام العظمى وقصبة الجند، وقالوا: «هي ارم ذات العماد وهي من احسن البلاد وأجلّها موقعاً سهلة جبلية، وفي شمالها جبل عظيم هو جبل قاسيون».
وقال : «الغوطة ثلاثون ميلا وعرضها خمسة عشر ميلاً ولا تكاد الشمس ان تصل الى ارضها من كثرة الشجر، والمياه تخترق جميع هذه الغوطة فإنها مقسومة للمياه متوزعة للشرب» ( البهنسي 2002 ص71).
وبعد ان يورد الدكتور البهنسي وصفا لدمشق القديمة ومعالمها في الربوة وقاسيون وقبور الانبياء والصحابة والصالحين ودور الشفاء والتعليم من خلال مشاهدات الرحالة والجغرافيين ومنهم ابن جبير وابن بطوطة يعطف متعطراً بأخلاق الدمشقيين وآدابهم وعاداتهم ، فأهل دمشق ( احسن الناس خَلقاً وخُلقا وزياً، واميلهم الى اللهو واللعب)، ويضيف ابن جبير : «ومن عجب حال الصغير عندهم والكبير انهم يمشون وايديهم الى الخلف قابضين بالواحدة على الاخرى، وأهل التمييز يمشون الى البساتين، ولهم فيها قصور ومواضع طيبة، واما سائر الناس فإلى الميدان الاخضر» (البهنسي 2002 ص85).
«وبعد ان اصبحت دمشق عاصمة الدولة الاموية هفت لها قلوب الخلفاء لكونها جنة الدنيا كما ان ارضها مملوءة بشجر السرو والبنفسج والورود والخضار والثمار الطيبة المذاق.. وليس للزهر بألوانه المختلفة جمال على وجه الارض كما هو عليه بدمشق».. (البهنسي 2002 ص 33-34 عمران الفيحاء).
«انقسمت دمشق بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918 الى مدينة قديمة ضمن الاسوار ومدينة حديثة تزداد التماماً وانتظاماً خارج الاسوار ويبلغ التناقض حده بين قسمي المدينة في ايامنا هذه».. ( البهنسي 2002 ص35) ويثبت البهنسي خطط دمشق الهندسية العمرانية ومواقع احيائها وتطور شخصيتها ويسترسل في شرح مخططات ابنية دمشق العريقة ويبين مواضع شبكات الطرق وتوزيع المياه على بيوتها وبساتينها ومساجدها ومدارسها ونواعيرها وحماماتها وخاناتها وطواحينها، واذ جاء ذكر النواعير في دمشق فلأنها ليست مقصورة على مدينة حماة فحسب.
وللتدليل على ذلك اثبت البهنسي صورة ضوئية للناعورة التي تغذي جامع محيي الدين بن عربي من نهر يزيد (البهنسي 2002 ص35) ويوازن البهنسي بين البيت الدمشقي الاصيل والبيت الدخيل الذي بتنا نأوي اليه بعد الحرب العالمية الثانية... البيت الغربي المستورد الذي لا يحترم عاداتنا ولا يقدر تقاليدنا ولا ينسجم مع مناخ بلادنا ولا يشكل مرحلة من مراحل فن العمارة التقليدي الاصيل ، ويسمي البهنسي شقق البناء الحديث بالمعلبات الطابقية (البهنسي 2002 ص 237).
عدا ان البيوت في دمشق القديمة اضحت موئلاً للغرباء واصحاب الصناعات والحرف والمستودعات التي شوه شاغلوها الابنية واعتدوا على الزخارف الداخلية الرائعة على واجهاتها وجدرانها.
وفي ختام الحديث عن العمارة الحديثة خارج السور يلفت انتباه المطل على دمشق من قاسيون بناء صرح الشهيد المشيد عام 1993 الذي يعد من اكثر الصروح ارتباطاً بالفن الاسلامي فهو مؤلف من القبة والقوس وكلاهما من اسس العمارة الاسلامية ولقد اراد الاستاذ الدكتور عفيف البهنسي الذي ساهم في تصميم هذا الصرح والاشراف على انشائه ان يعبر بالقبة عن العناية السماوية التي تحنو على الشهيد وترعاه الى جانب القوس رمز النصر.
كما ساهم الاستاذ البهنسي في الاشراف على بناء بانوراما حرب تشرين التحريرية الذي جاء آية معمارية تعبر عن الاصالة العربية الاسلامية بثوب عمراني معاصر استلهم الخصائص المعمارية الدمشقية وهذا ما استجاب له مجموعة المعماريين الاجانب الذين صمموا بناء فندق الشيراتون في دمشق .
ان ازدياد عدد السكان في مدينة دمشق ادى الى تراجع الخدمات وتزايد الاستجرار الكهربائي والانفاق المائي وضعف مرافق الصرف الصحي وضيق طرق المواصلات نتيجة ضغط المركبات وازدياد عددها بحيث باتت المدينة قاصرة عن استيعاب هذه الزيادة المطردة وتواجه دمشق من آثار هذه المعطيات مشكلات التلوث المتعددة الاشكال خاصة الكيميائية منها ومتبقيات معامل دبغ الجلود التي تطرح في المجاري القديمة المستخدمة للري مما يزيد في انتشار الاوبئة وتلويث مزارع الغوطة وثمارها ونباتاتها (البهنسي 2002 ص 267/268).
ويضاف الى ذلك تهديد الطابع التاريخي لمدينة دمشق نتيجة خطط وقرارات غير مدروسة يتم الاعتذار من نتائجها بعد فوات الأوان، نتيجة عدم المهارة والخبرة ونقص الدراسات احياناً ونتيجة برامج وخطط يمكن ان يقال في مسائلها ان فيها وجهات نظر تستحق التحقق والدراسة والمساءلة، ويطرح الاستاذ البهنسي رؤاه الاصلاحية التي كتب عنها في (الفن الحديث بين الهوية والتبعية) وعن (خطاب الاصالة في الفن والعمارة) وحتى عن ( الحداثة الى ما بعد الحداثة ) وهو الذي تابع اعمال وتوصيات مؤتمر اسطنبول عن الحفاظ على التراث المعماري والاسلامي، وكذلك مؤتمر المدينة المنورة عن العلاقة بين التراث الحضاري الاسلامي ونمو المدينة العربية، ومما يرتئيه البهنسي من خطط وحلول لازبة الوجوب لمواجهة تحديات القرن الجديد في دمشق ضرورة حل مسألة نمو الصناعة في المدينة التي تتقدم فيها على حساب النمو المجتمعي، واهمية توزيع الفعاليات المعاشية والادارية في انحاء المدينة حسب الحاجة والاختصاص الوظيفي الخاص والعام للمؤسسات الرسمية للدولة المرتبطة حيوياً بالمتطلبات التجارية والمالية والصناعية والزراعية والدبلوماسية.
ويسهم هذا التطوير الاداري الانمائي في تخفيض التضخم السكاني ومن تركزه في المدينة ويرفع من مستوى الريف على اصعدة متعددة للحد من تزييف المدينة ومن الهجرة العشوائية اليها ويحد من اتساع مناطق المخالفات السكنية التي كادت ان توازي مساحة المدينة الاصلية من وراء السور، ويضيف الاستاذ البهنسي لحل مشكلة المواصلات المتفاقمة اهمية التخطيط الواعي المستوعب لخطوط النقل الداخلي ، وتأمين مبارك شاقولية للمركبات وانشاء الجسور والعقد الطرقية العملية دون الاضطرار لاختراق مراكز المدينة والاهتمام بالتخلص من النفايات البشرية والكيمياوية من المنازل والمصانع والمشافي التي تتجاوز بامكاناتها شبكة مجاري دمشق القديمة التي يصب بعضها في فروع نهر بردى.
ويبقى من الانسان الباحث الاستاذ الدكتور عفيف البهنسي انه يحاول المساعدة على الحفاظ على تحديد جينات الشخصية الدمشقية في اشكالها المختلفة ، وفي العمارة القديمة والحديثة، وتجاوز جناية التبعية الغربية في نظام الاسرة التي تحول بعضها بفعل الوضع الاقتصادي العشوائي الى الاستهلاك دون الانتاج الايجابي، خاصة في الريف، والاتجاه الى الربح والتجارة دون العلم ومتابعته، والى الرفاهية الرخيصة دون الجد والمسؤولية ، وتظل دمشق هاجس الدمشقي الدكتور عفيف البهنسي وهو الذي ساهم فعلياً مع جمعية اصدقاء دمشق في الدعوة المستمرة لتطوير مدينة دمشق العريقة وحمايتها من عوادي الزمن والبشر.
نزار نسيب القباني
موقع الجمعيه للتواصل:
http://www.friendsofdamascus.org/