عشاق الكتب
-----------------
محمد عيد الخربوطلي
===========
===
مقال صغير كنت قد نشرته من أكثر من عشر سنوات
--------------------
من المعروف أن الكتاب أفضل ما أبدعه الإنسان، وهو وسيلة تعامل وتخاطب بين الشعوب، وقد عرف عن الأقدمين حبهم للكتاب فجمعوه واعتنوا به، وخزنوه في مكاتب عامة وخاصة, سواء كتب على الطين أو الحجر أو البردي أو الرق أو الورق.
وقد كشفت الحفريات في العراق وفي غيرها من بلدان الحضارات القديمة عن خزائن ترتقي إلى عصور بعيدة العهد ، وفي إبلا عثر على /16/ ألف رقيم مسماري يشكل أقدم وأضخم مكتبة وثائقية في تاريخ البشرية تعتبر موسوعات كاملة من أبواب المعرفة, ويعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وبمرور السنين كثرت الكتب في المعابد والمدارس ودور الملوك والأمراء وأعلام الناس فصارت المكتبات تزخر بنفائس التآليف من مختلف العلوم الآداب والفنون لأن الكتاب له قيمته وأهميته باعتباره القناة الوحيدة لنقل العلم والمعرفة، والفنون والثقافة بين الشعوب، وثقافة الكتاب باقية، ومهما أخرج لنا العلم الحديث من اختراعات واكتشافات، سيبقى للكتاب مكانته وللقلم إبداعه، وأينما يكون العلم لا بد أن يكون الكتاب موجوداً محترماً ومقدراً ، فمن دون الكتاب أو الكلمة أو الحرف لا وجود للحياة، ففي البدء كانت الكلمة، وواقعنا الذي نعيشه يؤكد أن الحرف مازال سيد الكلمة، وأن الكلمة المكتوبة والمطبوعة مازالت تحتل مكان الصدارة في حياتنا.
والكلام على المكتبات في العصور المختلفة أمر يطول شرحه، ولكن أتكلم عن – عشاق الكتب- فقد اهتم الكثير بجمع الكتب من ملوك وأمراء ووزراء وعلماء وأدباء ،و أولعوا في جمعها واحترازها، ولهم في ذلك قصص وأخبار غريبة.
فقد كان الخلفاء في بغداد والقاهرة وقرطبة يفاخرون بجمع الكتب ، ويعد الحكم المستنصر الخليفة في الأندلس من أكبر عشاق الكتب ، فكان يبعث رجالاً إلى جميع بلاد المشرق ليشتروا له الكتب عند أول ظهورها، وكان فهرس كتبه أكثر من أربعين مجلداً.
وفي مصر عرف الخليفة العزيز بولعه في جمع الكتب فكان في مكتبته الكتب النادرة ، فقد ذكر عنده كتاب – العين- للخليل بن أحمد الفراهيدي ، فأخرج لهم من مكتبته نيفاً وثلاثين نسخة كاملة منه، ومنها نسخة بخط المؤلف، وحمل إليه رجل نسخة من تاريخ الطبري، اشتراها بمائة دينار، فأخرج لهم أكثر من عشرين نسخة من تاريخ الطبري إحداها بخط المؤلف، حتى قيل إن مكتبته حوت بين جنباتها وعلى رفوفها أكثر من مليون ونصف المليون مجلد من الكتب.
ومن عشاق الكتب الجاحظ ويعد من أكبر عشاق الكتب المولعين بها، وقد جمع مكتبة عامر بالكتب النادرة النفيسة ، وقال بعض المؤرخين أن كتبه أدت إلى موته، فقد كان من عادته أن يصفّ كتبه فوق بعضها محيطة به فسقطت عليه فقتلته.
ومن عشاق الكتب الفتح بن خاقان وزير المتوكل ، فقد أغرم بجمعها فصار عنده مكتبة عامرة جليلة القدر في سامراء.
وكان أبو المطرف قاضي قرطبة من عشاق الكتب ، فقد جمع منها في كافة العلوم ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس ،وكان له ستة وراقين ينسخون له دائماً وكان إذا علم بكتاب حسن عند أحد من الناس طلبه ليشتريه منه وبالغ في ثمنه.
ومن طريف ما يحكى عن بعض عشاق الكتب أن السجستاني من شدة عشقه للكتب كان يلبس ثوباً له كم عريض وكم ضيق ! فقيل له لم ذلك؟ قال: الواسع للكتب والآخر لا أحتاج إليه.
وبلغ من شدة عشق ابن لهيعة للكتب أنه عندما احترقت مكتبته في مصر سنة 169هـ اغتم ومرض ومات بسبب ذلك، وجاء في كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني أن الأديب الكاتب أحمد بن عباس، كان كاتبا عند زهير العامري صاحب المرية قتله صاحب غرناطة باديس بن حبوس 427هـ، 1036م ، وكان جماعاً للكتب حتى صار عنده ما لم يكن عند ملك، قال وراقه أنه أحصاها قبل مقتله بسنة فبلغت المجلدات أربعمائة ألف، أما الدفاتر المحزومة فلم يقف على عددها لكثرتها ، وفي محنته كان حريصاً قبل كل شيء على كتبه، وطلب من قاتله أن يعتني بكتبه، وبلغ عشق الجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري للكتاب أنه كان يمسكه في سباني الشرب وهي مناديل من رفيع الكتان إكراماً لها وصيانة.
وكان بعضهم لا يبيع كتاباً من مكتبته إلا لشيء عظيم فيخرجونه بشق الأنفس وروحهم معلقة فيه.
فقد ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان أن أبا الحسن الفالي الأديب كان عنده نسخة من كتاب-الجمهرة- لابن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً ، وتصفحها فإذا بها أبياتاً بخط بائعها تقول:
أنست بها عشرين حولا وبعتها
وما كان ظني أنني سأبيعها
ولكن لضعف وافتقار وصبية
فقلت ولم أملك سوابق عبرتي
وقد تخرج الحاجات ياأم مالك
لقد طال وجدي بعدها و حنيني.
ولو خلدتني في السجون ديوني.
صغار عليهم تستحيل شؤوني.
مقالة مكوي الفؤاد حزين.
كرائم من ربٍّ بهنَّ ضنين.
فأرجع له النسخة وترك له الدنانير.
وهذا أبو أيوب الشاذكوني يفدي كتبه بنفسه لأنها كانت عنده أغلى من كل شيء ، كان في طريقه لأصبهان ، فنـزل المطر ,ومعه كتب، فلم يجد سقفاً يحمي نفسه وكتبه من البلل فانكب على كتب يحميها وعرض نفسه للبرد والمطر, ورحم الله ابن الحداد الوادي آشي عندما قال في حسنات الكتاب معبراً عن حبه وتعلقه فيه:
ذهب الناس فانفرادي أنيسي
صاحب قد أمنت منه ملالا ً
ليس في نوعه بحي و لكن
و كتابي محدثي و جليسي
و اختلالا ً و كل خلق بئيس
يلتقي الحي منه بالرموس
إنه الكتاب خير جليس في أي زمان ومكان.ونعم الذخيرة والعدة، والبستان الذي يجلو العقل ويشحذ الذهن ويحي القلب ويقوي القريحة ويبعث نتائج العقول ويمتع في الخلوة ويؤنس في الوحشة ويضحك بنوادره ويعطي ولا يأخذ.