دعوة للخلاص من نسيان الإنسان فـي أدبيـات الجماعـات الإسلاميـة
بقلم: الشيخ الدكتور. عبد الجبار الرفاعي
أن يقدم شخص شهادة عن نفسه فإنها بالضرورة تكون متحيزة، فما من كائن الاّ وهو عاشق لنفسه، لذلك ينزع كل منا لتنزيه الذات، ويعمل على رسم صورة زاهية مشرقة لها، من أجل أن ترمقه العيون بكثافة، ويُحدث ضجيجا من حوله يشبع غروره ونرجسيته. أحاول أن أتحدث بشئ من الحياد، ربما المتعذر، وأسعى لأن أكون أشدَّ جرأة في الإعتراف والبوح أمامكم، بالرغم من أني جئتكم من محيط يتغلب فيه التكتم والإضراب عن الإعتراف والكشف عن الحياة والتفكير الشخصي. فقلما كتب شخص في عالمي الذي عشت وتعلمت فيه سيرة ذاتية تبوح باعترافات وأسرار خاصة، أو تتحرر من التبجيل والتمجيد والثناء.
أمضيت أكثر من نصف حياتي في الحوزة العلمية في النجف ثم قم. مكثت فيها منذ 1978 حتى اليوم، تلميذا ثم مدرسا ومؤلفا. مسيرة حياتي تحركت عبر محطات ثلاث حتى اليوم: القرية، الحركة الاسلامية، الحوزة العلمية.كل واحدة من هذه المحطات أنفقت فيها عدة سنوات، ففي 1-7-1954 ولدت في قرية آل حواس، التي ترتبط إداريا بقضاء الرفاعي، في محافظة ذي قار من العراق، حسبما يفيد سجل النفوس المدون عام 1957، وهو تاريخ لا يمكنني التحقق منه وتوكيده، ذلك إن أهل الريف يومذاك لم يدركوا الكتابة، وكانوا يعيشون المرحلة الشفاهية، وعادة ما يعتمدون على تقويم محلي وعائلي وشخصي، تتحدد السنوات فيه طبقا لما يحدث فيها من فيضانات، أو أمراض وبائية، أو مجاعات، أو نكبات عائلية، أو زراعة وحصاد محاصيل، أو إنتاج حيواني غير طبيعي، أو حوادث شخصية، وفي مثل هذا التقويم يتركز الإهتمام على السنوات ومواسم الزراعة، فيما يتقلص رصد الأشهر فضلا عن الأيام، إلاّ في حالات إستثنائية. والدتي تقول أن سنة ولادتي هي: "موحان الثاني"، وموحان تسمية شائعة لفيضان نهر دجلة، وتبعا له الغراف المتفرع عن النهر، الذي يسقي سهول الحضارة السومرية. الفيضان الأول وقع عام 1948 ، والثاني 1954 كما تشير الى ذلك تواريخ فيضانات دجلة. أما يوم ولادتي فهو 1 يوليو "تموز". اليوم الأول من يوليو "تموز" أشترك فيه مع كافة العراقيين من جيلي والأجيال الماضية، ممن يجهل آباؤهم تواريخ ولادتهم، ويبدو إن الجهات المسؤولة عن تنظيم الإحصاء السكاني إقترحت اليوم الأول لمنتصف السنة، كموعد شامل لكافة المواليد المجهولة. وهذا ما حرمني معرفة برجي الخاص، وتفاؤلي أو تشاؤمي، مما يتوقعه قراء الطالع من المنجمين.
منتصف القرن الماضي كان العيش في قريتنا بالغ القسوة، كل شئ في حياتنا بدائي، الإملاق متاعنا، يتكرر طعامنا، الذي يفتقر الى أي شئ سوى خبز القمح وأحيانا الشعير، تبتكر أمي كزميلاتها من نساء القرية بعض الأكلات في فترات متباعدة، لو توفرت لديها بعض مكوناتها، مثل "الحميض" وهو قليل من الرز الردئ مطبوخ باللبن، المشتقة تسميته من حموضته، يصيبني الغثيان حين أضطر لتناوله، مع عدم توفر أي غذاء سواه، أو "البحت" وهو الرز مطبوخ بالحليب، الذي كنت أترقبه فترات الربيع، حيثما تلد الأغنام والأبقار، فيتوفر الحليب. كذلك في فصل الربيع تضاف الى طعامنا "التولة" "الخباز" وهي نبات بري مسلوقا.
نبدأ يومنا بإستيقاظ أمي فجرا، وهي تتلو ترنيمتها اليومية "اللهم صلي على محمد وآل محمد، أصبحنا وأصبح الملك لله، سبحان الله، لا اله الا الله، الحمد لله رب العالمين..."، كنت منذ طفولتي أغفو بجوارها، وأستفيق على نغم تهليلها وتسبيحها وتمجيدها. إستلهمت دروسي الروحية منها، لم تكن كلمات، بل هي ضوء وصور وحقائق، تتحسسها مشاعري، تشع على فؤادي، وتهيمن على وجداني، أحيانا ينتابني شئ من الدهشة، أمام المشهد الذي ترسمه كلماتها. انها ليست كلمات يابسة متخشبة، وانما هي شموع تخلع على قلبي إنشراحا وإبتسامة.
ظلت التجربة الدينية لإمي منبعا لا ينضب يستقي منه تديني. هي من غرست المنحى الميتافيزيقي في حياتي، والى نمط تدينها، الفطري العفوي الشفيف، يعود الفضل في رسوخ إيماني وتجذره، ومقاومته لأية مجادلات، أو مناقشات، أو إشكالات، أو قراءات تشكيكية. إيماني مطمئن في فؤادي، في فضاء محصن منيع، بعيد عن شطحات عقلي، ومشاكساته، واستفهاماته اللاهوتية، القلقة والحائرة. فشل عقلي في أن يطيح بإيماني، أو يقوضه، أو يزلزله. مازالت أطياف كلمات أمي حاضرة لحظة إستيقاظي، بالرغم من مضي أكثر من خمسين عاما.
أمضيت طفولتي في القرية، وفي قرية مجاورة أكملت الابتدائية، كنت وأبناء جيلي من الفتيان محظوظين، بتأسيس مدرسة إبتدائية في العام الدراسي 1959/1960 في قرية تقع على بعد 5 كم، شمال شرق قريتنا، سجّلني أهلي في الصف الأول الإبتدائي، مع الدفعة الجديدة، مطلع العام الدراسي الثاني لإفتتاح المدرسة. "المتنبي" إسم مدرستي، هذا الإسم محفور عميق في ذاكرتي، لولا "المتنبي" مكثت راعيا ثم فلاحا أميا، وجنديا في حروب صدام المزمنة لاحقا. "المتنبي" أول اسم للمشاهير أسمع به، بعد أسماء الشخصيات المقدسة للأنبياء والائمة والأولياء ومراجع الدين، لا سيما السيد أبوالحسن الاصفهاني "المرجع الشيعي الأعلى في النجف، توفي عام 1946 "، الذي ظل أبي يتحدث عنه حتى آخر يوم من حياته، بإعتباره مرجعا عظيما "إهتزت الأرض لحظة وفاته"، حسب إعتقاد الناس في قريتنا. مالبث "المتنبي" يعني لي أكثر من كونه "حكيم الشعراء وشاعر الحكماء". إنه صديق فتوتي ، ما زالت لإسمه نكهة وحساسية بالغة في وجداني، فحين يرد اسمه في كتاب، أو يذكره أحد أشعر بقرابة وعلاقة حميمية خاصة تربطني معه، انها بمثابة علاقتي بأهلي.
"مدرسة المتنبي" نقلتني الى سياق آخر في الحياة، حين أتاحت لي نافذة صغيرة جدا، لكنها مضيئة، تريني أفقا أوسع وأشمل وأغنى من أفق مجتمعي الريفي ومفهوماته عن الكون والحياة.
عشت طفولتي وفتوتي في القرية، ثم تنقلت منذ شبابي في مدن وبلدان عديدة، انخرطت في التعليم الحديث، الإبتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة، وانتقلت الى الحوزة العلمية في النجف ثم قم. إنتميت لحزب الدعوة الإسلامية في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، في ظروف هي الأشرس والأعنف في ملاحقة البعث الصدامي للدعاة، ونهضت بمسؤولية الحزب في مدينة الرفاعي وقتئذ، وابتعدت عن التنظيم في منتصف الثمانينات "1985"، بعد أن بدأت أدلجة الدين والتراث تضمحل في وعيي، من دون الدخول في صراع أو انشقاق، وبالتدريج نأيت عن العمل السياسي، وانصرفت للمشاغل الفكرية. أمضيت 35 عاما في الحوزة العلمية، تلمذت على يد علماء وفقهاء معروفين، وتلمّذ على يدي المئات من طلاب الحوزة العلمية. وبموازاة ذلك واصلت تعليمي الأكاديمي، حتى ناقشت الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية سنة 2005.
امتدت صداقاتي مع مختلف الناس، كان وما زال هاجسي في بناء العلاقة التقارب في المشاعر، واحترام الخصوصية، من دون اشتراط وحدة الرؤية الكونية، أو المعتقد، فالعدالة "بمفهومها الفقهي" ليست شرطا في صداقاتي، كذلك التدين ليس شرطا، وربما انجذبت لمن يختلف معي أشد من سواه، ذلك انه طالما استفز عقلي، وحرضني على التفكير، وإعادة النظر في بداهاتي وجزمياتي ومسلماتي. الكتب التي تغويني وأستمتع بمطالعتها من ذلك النوع الذي يحدث مفرقعات وانفجارات في ذهني، أشد الكتب إغواء أشد الكتب إثارة. هكذا كنت مع نيتشه الذي قرأته متأخرا، لا سيما كتابه الرؤيوي "هكذا تكلم زرادشت" الذي وصفه ب "إنجيل خامس".
لا يتسع الوقت للتحدث بإسهاب عن تجربتي في الحركة الاسلامية، وهي تجربة بالغة الأهمية أضافت لحياتي الكثير، وأغنتها بنمط آخر من العلاقات الإجتماعية، وتفكير وفهم مختلف لرسالة الدين ووظيفته في الحياة، لا يتطابق مع مضمون الدين الذي ارتضعته من أمي، وبيئتي الريفية الإيمانية الفطرية البسيطة. انه فهم تعبوي ايديولوجي، يطغى فيه الخطاب النضالي المناهض للظلم والإستبداد السياسي، وصوت العاطفة والمشاعر على الروح. تدربت على العمل السياسي السري، والترويض على الطاعة والإنقياد والولاء، والتعاطي مع الأدبيات الحزبية كنصوص جزمية يقينية، لا يمكن التفكير بنقدها فضلا عن نقضها ورفضها.
الحوزة العلمية هي المحطة الثالثة، أعتز بهذه التجربة التي بدأت عام 1978 ومازالت متواصلة، على مدى خمسة وثلاثين عاما. اكتشفت في الحوزة العلمية مسالك التراث ودروبه الوعرة، وتذوقت فيها لذة النصوص الفلسفية والعرفانية وغيرها. نتعلم في الحوزة مفاتيح المعارف التراثية، في مراحل ثلاث هي: المقدمات، السطوح، والبحث الخارج. تستوعب هذه المراحل دراسة النحو والصرف والبلاغة، والفقه والأصول وعلوم الحديث والتفسير، والمنطق، والفلسفة، والعرفان، وعلم الكلام. ندرس كلاسيكيات النصوص، ونتمرن سنوات طويلة على تفسيرها، وتفكيك ألغازها، وضمائرها، ونغور في ما تحيل اليه من مضمرات ومعان حافة يتسع لها فضاؤها الدلالي. وعادة ما نعود الى الحواشي والتعليقات والشروح، كيما نفهمها.
أغنت الحوزة حياتي بتجارب عميقة مركبة متميزة، في مجتمع لا يشبه عوالمي الأخرى في القرية والعمل الحزبي السري. دراستي في الحوزة أضاءت آفاق رؤيتي للماضي والحاضر والمستقبل. لو لم أمض كل هذه السنوات في سياق تلك التجارب لا يمكن ان أتحرر ــــ ان تحررت بالفعل ــــــ من سطوة التراث وسلطته وقيوده، ومقاومته لأي فعل للتغيير.
مشكلة عالمنا ان من يتشبثون بالماضي لم يجوبوا أنفاق التراث ومسالكه الوعرة. رؤيتهم صاغتها أدبيات تبجيلية رومانسية، لا تقول معنى، بقدر ما تنشد شعرا يطرب له الحالمون بعالم متخيل سعيد، و"جيل قرآني فريد".
خلاصي من سطوة التراث ليس بمعنى الخروج على الدين، أو الخروج من الدين، أو التحلل من التدين، والتبجح الزائف بما يجرح الضمير الديني للناس، مثلما يفعل بعض المتنطعين المراهقين. تعلمت من التراث والواقع ان الدين أبدي في الحياة البشرية. الإنسان كائن متدين، وان اختلفت تجليات التدين ، وتباينت التعبيرات الدينية في حياته، تبعا للزمان والمكان والثقافة، وتنوع البشر واختلافهم. الحياة لا تطاق من دون خبرات وتجارب دينية، ذلك ان نزعة التدين كما أعيشها تمثل لدي ظمأً انطولوجيا لا يُروى، الاّ من خلال التواصل مع المطلق.
الايمان، الأخلاق، والنزعة الإنسانية ثوابت محورية في شخصيتي. تفكيري بل كل شئ يخضع للتحول والتغيير في حياتي، ذلك ان عقلي لا يكف عن التساؤل والمراجعة، لكن ضميري الديني يتمثل في هذه العناصر الثلاثة المتضامنة، انطفاء أيّ منها يعني انطفاءها بتمامها. في حياتي لا إيمان بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا إنسانية. لا أزعم أن لا إنسانية وأخلاق خارج إطار الإيمان، فقد عشت مع أخلاقيين وإنسانيين مثاليين، خارج إطار الأديان، لكن في شخصيتي: الإيمان، الأخلاق، والإنسانية كل مترابط، الأخلاق والإنسانية في حياتي هما الإيمان، والإيمان كذلك هو الأخلاق والإنسانية.
كلما اتسعت خبرتي بالنصوص أشرق إيماني، وتنامى حسي الأخلاقي، وتعمقت نزعتي الإنسانية. وبالرغم من إحترامي لكافة أصحاب التجارب الدينية، غير أني لا أتذوق حلاوة الإيمان، ولا تضئ التجربة الدينية روحي، من دون التمسك بتقليد طقوسي مستمد من الشريعة. الصلاة والطقوس التي أؤديها هي معراج وصالي مع الحق، وهي جسر عبوري اليه في مدارج التسامي والصعود. وحسب تعبير المتصوفة والعرفاء: الشريعة توصلنا الى الطريقة، والطريقة تقودنا الى الحقيقة، فحين نتخلى عن الشريعة لا ننال الطريقة، وبالتالي لا ننتذوق الحقيقة.
الدين الذي أعتنقه هو الإسلام الرحماني الانساني، الدين فيه هو الحب والحب هو الدين. "المحبة أصل الموجودات" [1] كما يقول إبن عربي. ويكتب أبو العلا عفيفي شارحا مفهوم المحبة لدى صاحب الفصوص: "الحب موجود على الدوام متبادل بين الحق والخلق. والشوق والحنين واللقاء موجود على الدوام أيضا، لأن الحق دائم الظهور في صور الخلق، يدفعه الى ذلك الحب الكامن فيه نحو ذلك الظهور. والخلق دائم الفناء، يدفعه الى ذلك الحب الكامن فيه نحو التحلل من الصور والرجوع الى الأصل" [2].
عقيدتي أن الشفقة والعطف على الناس تتقدم على الغيرة على الله، يكتب محيي الدين:"أعلم إن الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة على الله. أراد داود بنيان بيت المقدس فبناه مرارا، فكلما فرغ منه تهدم، فشكا الى الله، فأوحى الله اليه: إن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء، فقال داود: يارب، ألم يكن ذلك في سبيلك؟ فقال: بلى، ولكنهم أليسوا عبادي؟ والغرض من هذه الحكاية مراعاة النشأة الإنسانية، وإن إقامتها أولى من هدمها"[3].
يتساءل بعض الزملاء: كيف تسنى لك المحافظة على تدينك، وتنمية ايمانك على الدوام، مع انك تطرح أسئلة لاهوتية مشاكسة، وتمارس نمطا من التفكير الديني الحر، العابر للطوائف والتعصبات المذهبية؟
مسار القلب لديّ لا يتطابق مع مسار العقل، أي إن وجهته بموازاة العقل، إن كان للعقل وجهة أو مسار. قلق عقلي واستفهاماته المتواصلة لم يزعزع إيماني، أو يطيح بتديني، أو يهزم أخلاقي، ويبدد نزعتي الإنسانية. إيماني حقيقة أنطولوجية لا أستطيع الإطاحة بها، حتى لو قررت التخلي عنها. إنها نحو من الإشراق الروحي الذي لا يمكنني توصيفه بوضوح، لأنه مما يوجد، لا مما يُدرك، وكما نصطلح في المنطق هو نوع من الحضور الوجودي الذي يتوطن القلب، وليس نوعا من العلم والتصور والفهم المرتسم في الذهن. إنه نمط من المحبة أو العشق الذي يغرق فيه قلبي. هل يستطيع العاشق توصيف حالته بدقة لنا؟ وهل بوسعه التخلص من الوجد والهيام، لو قدّم له عقله عشرات الحجج على خطأ عشقه وعيوب معشوقه؟ وحسب كيركيغارد فأن الإيمان لا يفوق العقل فقط بل يختلف عنه، لأنه "حقيقة أنفسية" وليست آفاقية. لو كان الإيمان أمرا عقليا يتصدع وينهار بالتساؤلات الحائرة، والأفكار القلقة. الإيمان كما أعيشه جذوة مشتعلة لا تنطفئ، بصيرة باطنية، نور يضئ روحي. هو حقيقة باطنية لا تشع الاّ في القلوب التي تسكنها. من يفتقدها لا يكتشف اشعاعها.
تتلخص اهتماماتي في هذه المرحلة من حياتي بـ "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين"، لكن قد يقال: وهل هناك "إنسانية في الدين" كيما ينبغي أن نبادر إلى "إنقاذها"؟ ولعل من يضيف الى ذلك فيقول: إن وظيفتنا هي إنقاذ الإنسانية "من" الدين، وليست إنقاذ الإنسانية المزعومة "في" الدين؟
مهمتي تتمحور حول التدليل على: أن الدين ظل على الدوام أحد أهم منابع إلهام قيم المحبة والتراحم والتعاطف والشفقة واحترام كرامة الكائن البشري. مع أني أعترف بما تنوء به مجتمعاتنا من خطابات عاصفة، ومفاهيم مشوهة، تثير التعصبات والكراهيات والدعوة لقتل الآخر والنزاعات المسلحة، وما يستتبعها من انقسامات وحروب مزمنة، تغذِّيها على الدوام الجماعات الدينية السلفية. وان هناك نماذج متنوعة لذلك، مما تبثُّه الفضائيات والمواقع والصحف الإلكترونية والمنابر، وأدبيات السلفية الجهادية وغيرها من تلك الجماعات، وعدوانها الواسع على السلم الأهلي، ودعواتها التحريضية لتفتيت مجتمعاتنا.
لا أريد التغاضي عن ذلك، ولا التقليل من أهميته، ولا الدعوة إلى تجاهله. بل إنني احتج على كل هذا الواقع المأساوي للدين، وانقد كل هذا الزيف المهول الذي يوضع من قبل أطياف من الإسلاميين على اسمه.
لا يمكن تجاهل أثر تلك الخطابات في تلويث المجال الإجتماعي العام، وتهشيم مرتكزات العيش المشترك في مجتمعاتنا، مثلما لا يصح إنكار الحضور الكثيف والفاعل والمؤثر لها، ودورها في تفشي أنماط همجية متوحشة من العنف الديني. وقد تكرس أثر هذه الجماعات، وأتيحت لها فرصة تاريخية هامة في الاستيلاء على المجال العام، بعد هيمنة الإسلام السياسي على السلطة، الذي انتهت إليه ثورات الربيع العربي في بعض البلدان، واحتكارهم لتمثيل المجتمعات، واختزالهم التنوع الأثني والديني والمذهبي بأيديولوجياتهم الخاصة، وتوظيفهم الديمقراطية والانتخابات كسلّم يستخدم لمرة واحدة، حتى إذا تحقق الغرض منه طرح جانبا! من دون وعي لفلسفة الديمقراطية، ومضمونها الحقيقي من الحريات والحقوق والتداول السلمي للسلطة. مضافا إلى تفجر الطائفية، وكافة التعصبات الموروثة بصورة لم يسبق لها مثيل في شرق المتوسط، بنحو أضحى الاحتماء بأمراء الطوائف الوسيلة الوحيدة في بعض البلدان لضمان الحياة، في مجتمعات تقوضت فيها واضمحلت معظم بنى الدولة الحديثة.
في مثل هذه المناخات يبدو الحديث عن "النزعة الإنسانية في الدين"، كمن يحكي لنا عن ماض مضى ولن يستعاد، أو من يحلم بعالم رومانسي مثالي، لا صلة له بمجتمعاتنا اليوم.
لا أدافع عن فشل الإسلاميين في إدارة السلطة، كما لا أتجاهل ما يبدو من حقيقة أن السلطة قد تكون مقبرتهم، بسبب عجزهم وقصورهم في إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة، وافتقار الكثير من المسؤولين، إلى أي تكوين أكاديمي أو معرفي أو فكري، يؤهلهم لإعداد نظم وبرامج وخطط اقتصادية وإدارية وتربوية وعلمية وثقافية معاصرة، فضلا عن عدم توفرهم على تدريبٍ وخبرة عملية في إدارة الدولة وبناء مؤسسات السلطة. إنهم يفكرون في مرحلة ما قبل الدولة، لذلك يحرصون على استدعاء القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العتيقة، ويغرقون في كهوف الماضي، ويفرطون في إستهلاك التاريخ، وكأنهم لا يعيشون في عالمنا إلا بأبدانهم، في حين تلبث عقولهم وأرواحهم مع الموتى.
دعوتي الى "انقاذ النزعة الإنسانية في الدين"، تعنى بناء فهم آخر للدين، وتأويل مختلف للنصوص الدينية، عبر قراءة شاملة لهذه النصوص، تستلهم نظامها الرمزي، وما تختزنه من معان ومداليل، لا تبوح بها إلاّ من خلال عبور المنظومة المغلقة للفهم التقليدي لها، وتوظيف منهجيات ومفاهيم وأدوات ومعطيات المعرفة البشرية والعلوم الإنسانية الراهنة، لتفسيرها في ضوء متطلبات العصر ورهاناته. انه تفسير لا يختزل الدين في المدونة الفقهية فقط، ولا يقوم بترحيله من حقله المعنوي القيمي الأخلاقي إلى حقل آخر، يتغلب فيه القانون على الروح، ويصبح الدين أيديولوجية سياسية صراعية، أيديولوجيا تهدر طاقاته الرمزية والجمالية والروحية والمعنوية.
يسعى هذا التفسير إلى اكتشاف وظيفة الدين الأصلية في إنتاج معنى لحياة الإنسان. وهي وظيفة عجزت معظم الجماعات الإسلامية اليوم عن إدراكها، وأغرقت أنفسها والمجتمعات في نزاعات ومعارك يتجلى فيها كل شيء، سوى الأخلاق وقيم التراحم والمحبة في الدين.
أعني بـ"الإنسانية في الدين": الخلاص والتحرر من "نسيان الإنسان" في أدبيات الجماعات الاسلامية، والاعتراف ببشريته ومكانته في الأرض، وتصحيح نمط علاقته بربه، وتحويلها من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، الى علاقة تتكلم لغة المحبة، وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل.
أعني بـ"الإنسانية في الدين": عدم التنكيل بالجسد، والتضحية بمتطلباته الضرورية وحاجاته الغريزية، لحساب الأيديولوجيا، والفهم المبسط للتربية الروحية، الذي يفضي الى تجاهل طبيعة جسد الإنسان وقمعقه وتعذيبه، بمحاربة الغرائز والعمل على اجتثاثها.
أعني بـ"الإنسانية في الدين": الدعوة للسلام واحترام كرامة الكائن البشري، وإشاعة السلام بين المجتمعات البشرية، عبر دراسة الأديان ومقارنتها، والغوص في أعماقها لاكتشاف جوهرها المشترك، ومنابع السلام الكامنة في نصوصها وتراثاتها الدينية. والحوار بين الخبراء والمختصين فيها، خارج إطار المجاملات وعبارات التبجيل والعلاقات العامة. اذ "لاسلام بين الشعوب ما لم يكن هناك سلام بين الأديان. ليس هناك سلام بين الأديان بدون حوار بينها. ولن يكون هناك حوار بينها بدون وجود نظام أخلاقي كوني، ولن يستمر الكون بدون نظام أخلاقي كوني يدعمه المتدينون وغير المتدينين على حد سواء". حسب تعبير اللاهوتي الألماني هانز كونغ.
أعني بـ"الإنسانية في الدين": استلهام الميراث المعنوي العميق، واستدعاء التجارب الروحية التطهيرية التنزيهية السامية في التاريخ، وبناء إلهيات عقلانية مستنيرة، تحررنا من التفسيرات التعسفية القمعية للنصوص. وتحديث الإلهيات يتطلب الخروج من السياقات الكلاسيكية للتفكير الديني، وعدم التوقف عن طرح تساؤلات بديلة، والتوكؤ على منهجيات ومفاهيم، مستوحاة من المكاسب الجديدة لفلسفة الدين وعلوم التأويل وفتوحات المعارف البشرية، تفضي إلى التحرر من الصورة النمطية للإله، التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي لترسيخ صورة رحمانية للإله، تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية، وأسمائه الحسنى، ورحمته التي وسعت كل شئ. ف"لن ينقذنا الاّ إله". حسب تعبير هايدغر.
أعني بـ"الإنسانية في الدين": إنجاز مصالحة بين المتدين ومحيطه والعصر الذي يعيش فيه، والإصغاء لإيقاع الحياة المتسارعة التغيير، ووتيرة العلوم والتكنولوجيا التي لا تكف عن مفاجأتنا كل يوم بجديد، تتبدل معه صورة العالم، وتختلف تبعاً لها أساليب تعاطينا مع الواقع، وتتيح لنا وسائل تكنولوجيا المعلومات والنانو والهندسة الجينية مغامرات وعي، توقظ عقولنا وتخرجها من الحالة السكونية، وتقدم لنا سلسلة معطيات ومعارف وأدوات، تصوغ لنا تصورات وإدراكات وأفكارا، تتبدل معها رؤيتنا للكون والحياة.
لا تعد دعوتي لـ" انقاذ النزعة الإنسانية في الدين" بأجوبة، وإنما يهمني طرح الأسئلة، وأحرص على تنمية روح التفكير النقدي، الذي يفضي بدوره، وبنحو متواصل، للتساؤل المستمر، وتدريب التفكير على عدم الكف عن التحري وفحص المسلمات. ولا يتجاوز ذلك إلا بمقترحات وافتراضات وآراء، يعرضها للنقاش والحوار والتفكير. إنه محاولة للتفكير خارج الأسيجة التقليدية، ودعوة لمغادرة القطعيات واليقينيات والجزميات، وتكرار المكررات وشروح الشروح التي شوهت التفكير الديني وكبلته.
[1]- كلمة تحرير العدد الجديد 53\54 لمجلة قضايا اسلامية معاصرة... وهي في الأصل شهادة في حفل تكريم "الحركة الثقافية- أنطلياس" بلبنان، 3-3-2013، للدكتور عبدالجبار الرفاعي. والذي منح فيه درع الحركة الثقافية الذهبي، لمنجزه المعرفي في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وجهوده في تحديث التفكير الديني في الإسلام، وإشاعة ثقافة العيش سويا في فضاء التنوع والإختلاف.