سيمفونية الكتاب
ما أكثر ما عرضت لعلاقة الشعر بالموسيقى حتى قلت للموسيقيين: "لولا الغناء لم يكن الشعر، ولولا المغني لم يكن الشاعر:
http://mogasaqr.com/?p=2801"، عنوان مقال جعلته المحور الذي يدور بهذه العلاقة وتدور به، ثم اتخذته لهم وحدهم مدخلا إلى دراسة علم العروض، ثم جعلته لغيرهم من طلاب علم العروض مثلما جعلته لهم.
ولقد اشتغلت قديما بنقد قضية التأثير والتأثر من داخل الشعر العربي ومن خارجه؛ فأما القضية من داخله فمن حيث يؤثر عروضه في لغته ولغته في عروضه، وأما القضية من خارجه فمن حيث تؤثر الموسيقى في نظامه ونظامه في الموسيقى؛ وفي هذا النقد من دقة الملاحظة وسعة الإحاطة، ما لا ينقضي منه عجب المُتعجِّلين!
ثم رأيت الاشتغال بالإنصات إلى صوت الطبيعة الإنسانية أهم وأجدى من الاشتغال بالتفتيش عن أدلة الريادة والفرح بقَصَب السبق؛ فاطرحت عني نقد قضية التأثير والتأثير إلى نقد ظاهرة الحِراك الحَيويّ العامّ؛ عسى أن يكون في هذا النقدمن رَجاحة المُساكنة وطول التأمُّل، ما لا ينقضي منه عجب المُتأنِّين!
ومن مظاهر ظاهرة الحِراك الحَيويّ العربي العامّ، تطور المعزوفة الموسيقية والقصيدة الشعرية جميعا معا: فأما المعزوفة فتطورت من الدَّوْرة المفردة المتكررة، إلى النَّوْبة المركبة المحددة، ثم السِّيمْفونية المطلقة المتكاملة- وأما القصيدة فتطورت من العمودية المتعددة المتشابهة، إلى الموشحة المركبة المحددة، ثم الحُرَّة المطلقة المتكاملة، من غير أن يعني ذلك أن تَتَماحَى الأطوار؛ إذ لا يفتأ بعضها يعاصر بعضا، معاصرة لا تنفي تطوره عنه، ولكنها تثبت اختلاف الأذواق الفنية!
تستولي على أسماعنا المعزوفة السِّيمفونيَّة والقصيدة الحُرَّة كلتاهما، مدة مديدة، تختلف في كل منهما حركاتها وتأتلف وتتدافع وتتكامل من غير أن يعوق بعضها بعضا فيتعثر انطلاقها وتحتبس أصواتها. وهو شأو فني بطين، لم تبلغه المعزوفة حتى استهلكت الموسيقيين النَّوْبةُ والدَّوْرةُ، ولا القصيدة حتى استهلكت الشعراءَ المُوشَّحةُ والعَموديَّةُ!
وإذا جاز لي أن أترك للموسيقيّين العرب تحديد أصحاب المعزوفات السيمفونية، وجب عليَّ أن أدعي لمحمود درويش (1941-2008)، توفيقه بكتابه "جدارية محمود درويش"، إلى نظم القصيدة العربية الحرة التي تتبوَّأ من الشعر ما تتبوؤه المعزوفة السيمفونية من الموسيقى!