دستويفسكي بعيون النقّاد
عاش فيودور دستويفسكي حياة حافلة بالأحداث والانفعالات والتجارب. والكثيرون ينظرون إليه ككاتب جادّ فحسب، تماما كما يظهر في بورتريه فاسيلي بيروف. ومع ذلك، فإن هذا البورتريه الجميل والمعبّر لا يقدّم سوى جانب يسير من شخصيّة هذا الكاتب الكبير.
كان دستويفسكي، وما يزال، كاتبا مثيرا للجدل، كما هو شأن كلّ الكتّاب العظام. والغريب انه لم يتمتّع بالكثير من مديح النقّاد وإشاداتهم أثناء حياته. كما لم تنشر الصحف مراجعات نقدية لرواياته إلا بالكاد.
وبعض من انتقدوا كتاباته، عابوا عليها افتقارها للأساليب الجمالية. وكان ردّ دستويفسكي انه كثيرا ما كان يكتب على عجل وأنه يفتقر للوقت الكافي لتجويد أسلوبه في الكتابة. وقد استغلّت أجيال من النقّاد هذه الجزئية للنيل من الكاتب ولإثبات تقييمهم السلبي لفنّه. وبنظر هؤلاء أن كتابات دستويفسكي ليست فوق مستوى النقد، وأنه كان يهتمّ بالنواحي الفلسفية والسيكولوجية على حساب الشكل والجودة الفنّية.
من الناحية البنيوية، نظر بعض النقّاد إلى حبكات رواياته على أنها فوضوية وغير منظّمة، بينما وجدها آخرون مرعبة وتهدف للتأثير الرخيص. وهناك من الكتّاب من وجدوا تحليلات دستويفسكي السيكولوجية مفرطة وشخصيّاته غير واقعية، بل وأحيانا مفتعلة.
غير أن النقد الأكثر حدّة كان موجّها إلى براعته الفنّية. قيل مثلا أن أسلوبه مسهب ومكرّر وغامض ومصطنع ووجداني أكثر من اللازم ويعوزه الصقل.
وهناك من ذهبوا إلى أن أعمال دستويفسكي تتضمّن عيوبا أخلاقية فادحة. كما أن فيها تشاؤما وهيستيريا وقدرا غير قليل من الطبيعة المهووسة. وأخذ عليه آخرون افتتانه بأكثر حالات الإنسان تطرّفا. كما عابوا عليه التملّق والنفاق اللذين أظهرهما عندما قدّم المسيحية الأرثوذكسية في رواياته بصورة وردية.
كانت حياة دستويفسكي مليئة بالخيبات والآلام والهزائم. فقد تحمّل ديون شقيقه المتوفّى ولجأ إلى القمار كمخرج من مشاكله المالية. كان أباً لثلاثة أطفال، ابنتان وولد. إحدى الابنتين توفّيت وهي صغيرة. والأخرى أصيبت بانهيار عصبيّ لم تُشفَ منه أبدا. بينما توفّي ولده الوحيد بالحمّى.
دستويفسكي نفسه كان يعاني من نوبات الصرع المستمرّة التي أفسدت حياته. وقد كتب عنها كثيرا في أعماله. ووالده كان رجلا فاسقا وقاسيا. وقد قُتل الأب في النهاية على أيدي بعض خدمه الذين كان يسيء معاملتهم.
في سنّ التاسعة والعشرين، وكان دستويفسكي وقتها مسجونا بسبب تورّطه في أنشطة ثورية، صدر عليه حكم بالإعدام. وبينما كان هو واثنان من رفاقه يقفون أمام فرقة الإعدام ظهر فجأة من بين الحشد رجل ليعلن أن القيصر قرّر العفو عن المجموعة. وبعد إعلان العفو أصيب اثنان منهم بالجنون، بينما خرج دستويفسكي ليبدأ حكما مخفّفا بالسجن والأشغال الشاقّة لمدّة أربع سنوات في سيبيريا.
زواج دستويفسكي لم يكن سعيدا. وقد وصف علاقته بزوجته آنذاك بقوله: كنّا تعيسين معا. لكن لم نستطع أن نتوقّف عن حبّ بعضنا البعض. وكلّما ازدادت تعاستنا كلّما أصبح كلّ منّا أكثر ارتباطا بالآخر".
من المآخذ الأخرى على دستويفسكي انه كان يشوّه الواقع بتناوله كلّ ما هو استثنائي وشاذّ ومتناقض في رواياته. كما يعاب على رواياته كثرة الشخصيات الثانوية والحبكات الجانبية والحوارات الفلسفية والصور المتكرّرة والاقتباسات المباشرة والاستطراد الذي لا لزوم له وغير ذلك من النقائص التي تحدّثت عنها أجيال من دارسي الأدب.
احد النقّاد شبّه دستويفسكي ذات مرّة بأنه كالقنفذ لأن فنّه يتناول قضيّة واحدة، ولم يكن ثعلبا يمتلك عدّة كاملة من الألاعيب والحيَل.
الذين يقدّرون موهبة دستويفسكي وصفوه بأنه أكثر الأدباء الروس أصالة، بينما وصفه آخرون ببطل المضطهدين. كما حظيت أعماله بثناء نخبة مثقّفي القرن العشرين مثل هيرمان هيسه وتوماس مان وفرانز كافكا ومارسيل بروست واندريه جيد وغيرهم...
https://lh5.googleusercontent.com/-77y6cmKlJ78/T7f-prvTT5I/AAAAAAAAGqQ/kJq-dmE8ptk/s510/dostoyevsky_house.jpg
نصوص دستويفسكي تتضمّن مستويات دلالية عديدة. كما أن مستوى سرده، المتعدّد الوجوه هو الآخر، دائما ما يترافق مع حديثه عن الأخلاق أو السياسة. في "الإخوة كارامازوف" مثلا، يتناول إشكالية تناقض العدالة البشرية مع العدالة الإلهية. وفي "الممسوسون"، يخبّئ رسالة رمزية على هيئة نبوءة بحدوث ثورة في روسيا. وفي "الجريمة والعقاب"، يثير فكرة القيامة بطريقة ميتافيزيقية.
الروائي التشيكي الأصل ميلان كونديرا اتهم ذات مرّة أفكار دستويفسكي بأنها كانت احد العوامل التي أسهمت في وقوع الغزو السوفياتي لبلاده عام 1968م في أعقاب ما عُرف بربيع براغ. وقد اتهم كونديرا الروس، ودستويفسكي على وجه الخصوص، بالعيش في القرون الوسطى وبتغليب المشاعر على العقل. يقول: لا يمكن أن يعيش الإنسان بلا مشاعر. لكن في اللحظة التي تتحوّل فيها المشاعر إلى قيم ومعايير للحقيقة وتبريرات للسلوك فإنها تصبح مخيفة. وعندما تحلّ المشاعر محلّ التفكير العقلاني فإنها تصبح أساسا للتعصّب وغياب الفهم. ويضيف كونديرا: إن ما أزعجني في دستويفسكي هو أجواء رواياته التي يتحوّل فيها كلّ شيء إلى مشاعر، ولا تلبث المشاعر أن تُرفع إلى مستوى القيم والحقائق".
كان دستويفسكي بارعا في لعب دور محامي الشيطان. ورواياته تتضمّن، برأي مخالفيه، فلسفات ومنظومات قيم عدائية. كما انه يقدّم شخصيّاته السلبية والشرّيرة بتعاطف مساوٍ لتعاطفه مع أبطاله المأساويين. وهناك من يعيب عليه تقديمه للبشر في حالات متطرّفة وبصفات مرعبة ووسط أجواء تتّسم بالتآمر والقتل والانتحار.
بعض النقّاد لا ينفون وجود نماذج دستويفسكي المأساوية من قدّيسين ومتعصّبين وقتلة في الحياة. غير أنهم يرون أن الحالات الإنسانية المتطرّفة، وإن كانت موجودة في الحياة الواقعية، تُعتبر نادرة واستثنائية. وجلّ ما في الأمر أن دستويفسكي كان يغضّ الطرف عن أشياء قد تبدو لغيره أكثر أهمّية، من قبيل الزواج والجري وراء لقمة العيش والاعتناء بالأسرة.. إلى آخره.
والذين يرون بأن شخصيّاته مصطنعة أو مفتعلة يتجاهلون حقيقة أن دستويفسكي كان يبني شخصيّاته كي تعكس أفكارا ومواقف معيّنة. وكلّ شخصيّة تستمدّ وجودها من الأفكار والتصوّرات التي تعبّر عنها.
وإحدى أشدّ التهم ضررا هي أن جميع شخصيّات دستويفسكي تتحدّث مثل المؤلّف. كان من عادة دستويفسكي أن يتيح لبعض شخصيّاته التعبير عن أفكار تبدو اكبر من مستواها الفكري أو الثقافي. لكن يمكن تبرير هذه الممارسة بالقول إن روايات دستويفسكي ليست عن الأخلاق أو عن الواقع الاجتماعي في المقام الأوّل، بل عن الأفكار بقدر ما هي عن الناس.
كانت هناك حرب ضارية ما بين المؤمن والمتشكّك داخل دستويفسكي استمرّت طوال حياته. وفكرته الغريبة عن وجودٍ من دون الله جعلت منه احد روّاد الوجودية. وهو لم يكن يتساءل ما إذا كان هناك إله من عدمه، بل ما الذي يعنيه الوجود، سواءً بخالق أو بدونه، بالنسبة للإنسان الحديث. يقول مثلا: الوجودية لا تحاول أن تنفي وجود الله. إنها تعلن انه حتى لو كان الله موجودا، فإن ذلك لا يغيّر من واقع الحال شيئا".
آراء دستويفسكي السياسية والاجتماعية كانت، غالبا، متطرّفة. كان، مثلا، يعتقد أن أوربّا الغربية على وشك الانهيار، وأن روسيا والكنيسة الارثوذكسية "التي لا يعيش المسيح خارجها" سيؤسّسان مملكة الربّ على الأرض".
ومما يؤخذ على دستويفسكي أيضا رفضه للعقلانية الأخلاقية والذي يتردّد صداه في العديد من رواياته. فهو يرى أن النعمة التي تصيب الفئات التي تقف مع الله، كالقدّيسين والبسطاء والخاطئين الصغار، ليست بسبب أعمالهم الصالحة أو ثمرة لكفاحهم، وإنما هي، وبشكل مطلق، بسبب قبولهم الذي لا نقاش فيه لأبوّة الله.
غير أن هناك من يرى أن فلسفة دستويفسكي الدينية تتناغم مع المعتقدات الأرثوذكسية التي كانت سائدة في عصره، بل وحتى مع بعض أفكار المثالية الرومانسية. ويرى هؤلاء أن رفض مثل هذه الأفكار اليوم لا يجب أن يمنعنا من تقدير عبقرية الرجل والإقرار بمكانته الكبيرة...
https://lh3.googleusercontent.com/-IuaW-JEyMdc/T7f-pc9SEMI/AAAAAAAAGqM/86PmdzrIBCo/s400/dostoyevsky_family.jpg
الروائي فلاديمير نابوكوف وصف دستويفسكي ذات مرّة بأنه "كاتب يتمرّغ في وحل مغامرات مأساوية تحطّ بالكرامة الإنسانية". يقول في معرض حديثه عن رواية دستويفسكي "رسائل من العالم السفلي"، إن هدف الكاتب من هذه الرواية هو إظهار أن كلّ إنسان هو مجرّد زبالة، وأنه لن يصبح في أيّ وقت إنسانا جيّدا ما لم يقتنع بالفعل انه زبالة. في هذه الرواية يأخذ دستويفسكي بطله إلى أدنى درجات الانحطاط والحقارة، فقط كي يقوده بعد ذلك إلى الإيمان والخلاص".
من وجهة نظر مسيحية بحتة، ليس هناك ثمّة حرج في هذا. ولكن من الصعب بالنسبة للقارئ الذي لا يشارك دستويفسكي قناعاته المسيحية أن يرى الأمر بهذه الطريقة.
قد لا تكون الكلمة الأخيرة عن دستويفسكي، النبيّ والمفكّر الديني، قد قيلت حتى الآن. لقد كان تحليله للعقلية التي تسبّبت في الثورة الروسية صحيحا وعميقا. لكنّه كان مخطئا في افتراضه أن الروحانية الروسية ستنتصر على ما اسماه "شياطين العدمية والنزعة الإنسانية الملحدة".
منذ بداية خمسينات القرن ما قبل الماضي، كان دستويفسكي يتمتّع بسمعة طيّبة باعتباره ضليعا في علم النفس. غير أن بعض تنظيراته السيكولوجية في ذلك الحين بدت لبعض الناس مفرطة وشاطحة. وكان هذا الانتقاد يُسمع بشكل متكرّر. وقد قيل إن شخصيّاته الممزّقة والسقيمة والهشّة لم تكن تمثل المجتمع الروسي، بل كانت "مجرّد إسقاطات لعقل كاتب مريض".
لكنْ ممّا لا شكّ فيه أن دستويفسكي كان يتمتّع بفهم عميق للبشر عندما يقعون تحت ظروف الضغط الكبير الناجم عن المعاناة والإحباط والرفض واليأس. كان يدرك، ربّما أفضل من معظم الناس، طبيعة الحالات النفسية التي يفرزها الفقر والإذلال والاستياء والغيرة والسخرية والقسوة وفقدان الكرامة.
هل كانت وجهة نظرة عن الرجال والنساء الروس في عصره متوازنة؟ هذه مسألة مختلفة. ومع ذلك، فالتفوّق في علم النفس ليس معيارا صالحا لقياس عظمة دستويفسكي. هو نفسه كان يتحدّث باستخفاف عن "علمية" النظريات السيكولوجية.
بعض النقّاد يتهمّون دستويفسكي بأنه كان يخلق قصصه السيكولوجية في فراغ ويتجاهل منحها خلفية طبيعية واجتماعية. لكنّ هذه التهمة تبدو بلا أساس. فالقارئ المدقّق سيكتشف أن كلّ مشهد في رواية من رواياته يُقدّم بتفاصيل وفيرة ومختارة بعناية. وهذه التفاصيل تقوم بوظيفة المكان الذي تجري عليه الأحداث.
وهناك من يشير إلى أن التفاصيل الدنيوية، كالملابس والطعام والشراب والأرض والمدينة، مفقودة من روايات دستويفسكي. وهذا ببساطة غير صحيح أيضا. فهناك مادّة وفيرة بما يكفي لكتابة دراسة متكاملة عن الطعام والشراب في "الإخوة كارامازوف"، أو عن تضاريس وطبيعة سانت بطرسبيرج في "الجريمة والعقاب".
على المستوى الشخصي، يمكن القول إن شخصيّة دستويفسكي نفسها تحمل سمات وخصائص بعض أبطاله. قال عنه احد أصدقائه مرّة: لا أعتبر دستويفسكي إنسانا طيّبا أو سعيدا. لقد كان شرّيرا وحسودا قضى حياته كلّها منفعلا ومتوتّرا". والكاتب تورغينيف وصف دستويفسكي بأنه أكثر المسيحيين الذين قابلهم في حياته ميلاً للشرّ".
غير أن آنا غريغورييفنا زوجة دستويفسكي الثانية ترسم له صورة مغايرة عندما تقدّمه في مذكّراتها بصورة الزوج الرقيق والأب الحنون والإنسان المتفهّم والعطوف.
وعلى الرغم من كلّ هذه التناقضات والمفارقات في شخصيّته، إلا أن عبقرية دستويفسكي تشعّ من ثنايا أعماله. ويندر أن استطاع كاتب تصوير شخصيّاته بمثل العمق والفكر اللذين كان دستويفسكي يرسم بهما أبطاله. والحقيقة أن كثيرا من النقد السلبي الموجّه له كان باعثه في الأساس خلاف النقّاد مع مواقف دستويفسكي السياسية والاجتماعية والإيديولوجية....
@روائع الفن التشكيل
"مــحــمــد زيــــدان"