تصريح بلفور (2/11/1917) :
لم تثن الردود الفاترة التي واجه الأمريكان بها زعماء الصهاينة، لم تثنهم عن مواصلة ضغوطهم، فبعد أن يئسوا من استصدار تصريح لصالحهم من قبل الأمريكان، وبعد عودة (بلفور) من أمريكا، عاود الصهاينة حثهم الحكومة البريطانية حول إصدار تصريح يتبنى مطالبهم. وبناء على طلب (بلفور) قدم إليه اللورد (روتشيلد)، بالنيابة عن المجموعة الصهيونية في 18/7/1917 مشروع قرار بهذا الصدد لعرضه على الحكومة البريطانية.
كان من أبرز مطالب الصهاينة في مسودة المشروع، هو أن تعلن بريطانيا قبولها (( مبدأ الاعتراف بفلسطين وطنا قوميا للشعب اليهودي، وحق هذا الشعب في بناء حياته القومية في البلد، ثم منح القومية اليهودية حق الحكم الذاتي في فلسطين، وحرية هجرة اليهود إليها، وإقامة شركة استيطان يهودية قومية لإعادة تأسيس البلد وتطويرها اقتصاديا...))
معارضات يهودية بريطانية
على عكس التعاطف اليهودي الأمريكي المتقدم نوعا، مع المشروع الصهيوني، واجه الصهاينة صعوبات هامة من قِبل يهود بريطانيا الذين استنكروا أن يكون اليهود (قومية) بل دين، وكان على رأس هؤلاء (أدوين مونتاغيو وزير الدولة البريطاني لشئون الهند).
كما أعلن تحفظه على هذا المشروع كل من (دافيد الكسندر : رئيس لجنة المبعوثين اليهودية الإنجليزية) و (كلود مونتفيوري رئيس الجمعية الإنجليزية اليهودية)، حيث أصدرا بيانا (أنهما كانا قد تعاونا مع البرنامج الصهيوني "ثقافيا" لكنهما لا يستطيعان الاستمرار في هذا التعاون بسبب (الأهداف السياسية) التي يسعى إليها الصهاينة، كما استنكرا في بيانهما إعطاء صفة القومية لليهود.
صيغة وعد بلفور
لم تثن الاحتجاجات الحكومة البريطانية على إقرارها موقفها النهائي في اجتماعها يوم 31/10/1917، لتعلنه على شكل رسالة بناء على نصيحة (حاييم وايزمان) في 2/11/1917:ـ
(الى اللورد روتشيلد: يسرني كثيرا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك، أنها تنظر بعين الرضا والارتياح الى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. وأنها ستبذل خير مساعيها لتيسير الوصول الى هذه الغاية. على أن يُفهم بجلاء أنه لن يُسمح بإجراء ما، من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية التي تقيم في فلسطين، أو تمس الحقوق والمزايا التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى)
مراوغة وغموض في النص
كانت المراوغة والغموض في هذا النص الذي يُعتبر أول لبنة في مأساة فلسطين، على مرأى ومسمع من المتبجحين بحقوق الإنسان والمتشدقين بالتحضر والنبالة..
طوائف غير يهودية! كانت هذه هي الإشارة لعرب فلسطين الذين كانوا يشكلون وقت صدور الوعد المشئوم 90% من سكان فلسطين، في حين كان اليهود وغير العرب بمجموعهم يساوون 10%!
ثم ماذا كانت تعني بريطانيا بالنسبة لفلسطين حتى تعطيها لغير سكانها؟ ومن فوضها بالحديث باسم سكانها؟ وحتى أنها لم تكلف نفسها حتى بعد الانتداب أن تبلغ السكان الأصليين لفلسطين بما تنوي فعله، كذب، وخداع، ونوايا استعمارية بعيدة المدى..
يفسر البعض أن بريطانيا قد كافأت (حاييم وايزمان) مكتشف مادة (الأسيتون) التي أعانت بريطانيا في حربها أو حروبها! فأعطته فلسطين! (عذرٌ أقبح من ذنب).
إن الدافع السابق ـ رغم حقارته ـ ليس هو وراء ما وعدته بريطانيا لليهود (الصهاينة)، بل أن الدافع الرئيسي وراء ذلك الوعد، هو ما اتفقت عليه الدول الاستعمارية السبع كمنطلقات نظرية في تعاملها مع تركة الدولة العثمانية، وكان ذلك في نهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بعد أن جردت (ابراهيم باشا ابن محمد علي) من قدرته، إثر انتصاراته المتتالية. وكانت فكرة انتهاء الخلافة الجامعة لسكان هذه المنطقة ـ ولو اسميا ـ والتي ستنتهي بانتهاء الدولة العثمانية لن يقوم لها قائمة بعد ذلك، إذا ما أحكمت الخطة الإمبريالية. وعليه فإن فكرة القومية العربية التي تحاذت مع أفول الدولة العثمانية، ستكون هي الأخرى مصدرا لقلق المخططين الاستعماريين.
لقد فهم الصهاينة مرامي المشاريع الإمبريالية، فطافوا على كل الدول الاستعمارية ليعرضوا خدماتهم عليها في تعطيل المشروعين الإسلامي والقومي. وإلا ما هو سر سكوت كل الدول الاستعمارية على وعد بلفور، وما سر هرولتهم للاعتراف بالكيان الصهيوني فور إعلانه؟