حركة التنوير اليهودية ( الهسكلاه )
( إن الكتاب المقدس ليس من صنع الله، بل هو وثيقة من صنع الانسان )...
مؤتمر بتسبرج
(( اليهودية ليست ( دينا ) مرسلا من عند الله ))
موسى مندلسون
شلومو ساند ينسف ركائز الحركة الصهيونية فيقول:
- الطرد الروماني لليهود لم يحدث ليعودوا الى فلسطين. واليهود الذين عاشوا خارج فلسطين ضمن الامبرطورية يناهز أربعة ملاين يهودي.
- الدين اليهودي لم يكن تبشيريا بل حصريا على معتنقيه بداية.
- اليهودي في العالم مرتبط باليهودية كدين وليس كقوم.
- امبرطورية الخزر اعتنقت اليهودية وليس لها علاقة بفلسطين التي اخترعت الصهيونية خصوصيتها.
- حوض البحر الأبيض المتوسط هو أهم وأكثف جغرافيا لانتشار اليهودية، مما ينفي«النقاء القومي للعرق اليهودي» كما تزعم الأطروحة الصهيونية المعروفة.
- لماذا يتم ترحيل التوراة من رف الدراسات الدينية إلى رف الدراسات التاريخية ويدرس في الكليات والجامعات والمدارس العلمانية.
الهسكلاه هي الحركة العقلانية المستنيرة لدى اليهود، و( الهسكلاة ) كلمة عبرية تعني التنوير، وقد أطلقت الكلمة على الحركة التي ظهرت بين يهود أوروبا في منتصف القرن الثامن عشر ( حوالي عام 1750 ) واستمرت قوية حتى العام 1880 ، والتي كانت تنادي اليهود أن يحاولوا الحصول على حقوقهم المدنية الكاملة عن طريق الاندماج في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، وأن يكون ولائهم الأول والأخير للبلاد التي ينتمون إليها، وليس ( لقوميتهم الدينية ) التي لا تستند لسند عقلي وموضوعي.وكان دعاة حركة التنوير اليهودية يرون أن هذا ممكن إذا ما تمكن اليهود من اكتساب مقومات الحضارة الغربية العلمانية، واذا ما قاموا بفصل الدين اليهودي عما يسمى ( بالقومية اليهودية )، حتى يتلاءموا مع الدولة العلمانية القومية في أوروبا. وقد بدات حركة التنوير اليهودية في ألمانيا، حيث نشأت طبقة رأسمالية تجارية بين اليهود أثناء حكم فردريك الثاني ( 1740-1786 ) ومنها انتشرت الى جاليشا والنمسا وروسياوبولندا. ومع هذا فقد ظلت حركة التنوير اليهودية حركة ثقافية ألمانية، وكان لها اثر بين يهود فرنسا الذين درسوا أعمال المفكرين مثل ديدرو ورسو ولوك وجوته وشلنج وأعمال بعض الوضعيين الروس.وكان دعاة التنوير بين اليهود يتصورون بأنهم أختطوا طريقا وسط بين الانصهار الكامل والانفصال الكامل. وكانت قضية التعليم هي القضية الاساسية بسبب اغراق الجماعات اليهودية في الرجعية والتخلف.ويروي احد تواريخ الجيتو أن يهوديا في القرن التاسع عشر سمع أن ابنه قد ذهب الى برلين لدراسة الطب، فخلع نعليه وجلس على أرض منزله وأقام شعائر الحداد لمدة سبعة أيام ( لموت ) ابنه. وفي أواخر القرن التاسع عشر كان الفيلسوف الماركسي اسحق دويتشر يهرب من المنزل ليدرس في المدرسة البولندية، وحين علم أبوه بذلك هاج وماج ثم سمح له بالاستذكار لمدة ساعتين فقط، على أن ينفق بقية وقته في الدراسات التلمودية والدينية، لأن التلمود طبقا للاعتقاد السائد كان هو الكتاب الوحيد الجدير بالدراسة، أما الدراسة العلمية العلمانية فلا بد أن تبقى ثانوية، وأن توظف في خدمة الدراسة الدينية.موسى مندلسون ( 1729-1786 ) الفيلسوف اليهودي الالماني فيلسوف التنوير اليهودي بالدرجة الاولى... فقد حاول أن يحطم ( الجيتو العقلي الداخلي ) الذي انشأه اليهود داخل أنفسهم لموازنة الجيتو الخارجي الذي كانوا يعيشون فيه، وقد بذل أقصى جهده ليبين علاقة الدين بالعقل، ورفض أن يعترف بأي جانب من اليهودية يتنافى مع العقل، بل ذهب الى حد الايمان بأن اليهودية ليست ( دينا ) مرسلا من عند الله، وانما هي مجموعة من القوانين الاخلاقيةالمنزلة، وأن الله عندما تحدث الى موسى في سيناء لم يذكر له أي عقائد، بل ذكر طريقة للسلوك يتبعها الأفراد في حياتهم الشخصية. ولقد انتقد مندلسون سيطرة الحاخامات على الديانة اليهودية وعلى اليهود .... وقد انشأ مدرسة في برلين للاطفال اليهود، وطالب أن يمنح كل طالب حرية العقيدة ليقرر ما يشاء وما يمليه عليه تصةره الاخلاقي.وعلى أثر أفكار مندلسون قام الاصلاحيون بعقد مؤتمر عرف بمؤتمر بتسبرغ الاصلاحي( 1885 ) من قراراته:( أن الكتاب المقدس ليس من صنع الله، بل هو وثيقة من صنع الانسان ) أي أنه نتاج وعي الانسان التاريخي وليس مطلقا خالصا قد ينوء الانسان بحمله.أما هولد هايم يعتقد أيضا أن الدين أداة ابتدعها الانسان من أجل تطوير المجتمع البشري، وكأي أداة أخرى، لا بد أن يواكب التطور وأن يعدل من آونة لأخرى، وتقاليد اليهودية ولاهوتها كانا ملائمين للماضي، ولكنهما الآن فقدا صلتهما بالواقع، ولا بد من تطويرها؛ إن عقل الانسان هو الذي يجب أن يحكم وليس الطقوس والتقاليد الدينية الساكنة )
أما كبار الفكر الاصلاحي اليهودي مثل فرايد لندر( 1756-1834 وأبراهام جايجر( 1830-1874 )، فقد قاما بالغاء الصلوات التي لها طابع قومي يهودي، وجعلوا لغة الصلاة هي الالمانية لا العبيرية، وأدخلوا الموسيقا والاناشيد الجماعية، كما سمحوا باختلاط الجنسين في الصلوات.كما قام بعض الاصلاحيين ببناء بيت أطلقوا عليه اسم (( الهيكل )) وهي المرة الاولى التي يستخدم فيها هذا الاسم، لأنه كان لا يطلق الا على (( الهيكل )) الموجود في القدس. في محاولة لتعميق ولاء اليهودي للوطن الذي يعيش فيه.أما على أساس فكري فقد أعاد الاصلاحيون تفسير اليهودية على أساس عقلي ... وعدلوا بعض الافكار الرئيسية فنادى أبراهام جايجر بحذف جميع الاشارات الى خصوصية الشعب اليهودي من كل طقوس الدين وأخلاقه وعقيدته وأدبه، مطالبا بالتخلي عن فكرة الشعب المختار كلية، وهي الفكرة التي عمقت من عزلة اليهود.والاهم في البرنامج الاصلاحي اليهودي المبدا الخامس الذي أعلنه مؤتمر بتسبورج:(( نحن نرى في العصر الحديث، عصر حضارة العقل والقلب الجامعة، اقترابا لتحقيق أمل يسرائيل العظيم لأجل اقامة مملكة الحقيقة والعدالة والسلام بين جميع البشر. نحن لا نعتبر أنفسنا أمة بعد اليوم، بل جماعة دينية، ولذا فنحن لا نتوقع عودة فلسطين، أو عبادة قربانية في ظل أبناء هارون، ولا استرجاعا لأي من القوانين المتعلقة بالدولة اليهودية ))الايديلوجية الصهيونية/دراسة في علم اجتماع المعرفة / الدكتور عبد الوهاب المسيريالايديلوجية الصهيونية/دراسة في علم اجتماع المعرفة / الدكتور عبد الوهاب المسيري
من ص 79 – 85 من سلسلة عالم المعرفة 60في نفس السياق:أما القنبلة الفكرية الجديدة للفكر التنويري اليهودي، والتي هي امتدادا لفكر موسى مندلسون، والجديرة بالاهتمام، هي التي سحب صاعقها شلومو ساند المؤرخ الإسرائيلي الذي قدم كتابه «اختراع الشعب اليهودي» (The Invention of the Jewish People) مؤخراً في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. والذي اشتغل على كتابه الجديد أكثر من عشر سنوات مدفوعاً بتساؤلاته العلمية والأكاديمية حول عدد من المسلمات «التاريخية» المؤسسة ليس فقط للمشروع السياسي للحركة الصهيونية، بل والتي أصبحت بديهيات «علمية» و «موضوعية» في الثقافة السائدة في إسرائيل وفي الغرب أيضاً.يقول ساند أنه تساءل دائماً لماذا تحتوي الجامعات الإسرائيلية على أقسام منفصلة لتدريس التاريخ في شكل عام، ثم تاريخ الشرق الأوسط، و «التاريخ اليهودي»، وكأن هذا الأخير منفصل عن بقية التواريخ ويمتاز باستثنائية منفردة. ولماذا يتم ترحيل التوراة، وهي كتاب ديني مقدس، من رف الدراسات الدينية إلى رف الدراسات التاريخية وتصبح بقدرة قادر كتاباً تاريخياً يدرس في الكليات والجامعات والمدارس العلمانية. وهكذا تصبح المادة التاريخية التي من المفروض أن تخضع للبحث والتمحيص العلمي مادة مقدسة ولا مجال لنقضها أو نقاشها، وهي التي يجب أن تُدقق عبر مناهج التحليل والخطاب وتتم تنقية الوقائع التاريخية والحقيقية فيها من الخرافات والأساطير.
الأطروحة الأساسية لهذا الكتاب هي أنه لا وجود لقومية يهودية نقية أو شعب يهودي واحد يعود في أصوله الإثنية والبيولوجية إلى جذر منفرد كما يزعم الفكر الصهيوني.هناك الدين اليهودي وأتباعه ينتسبون إلى قوميات وإثنيات وجغرافيات متنوعة ومتباعدة، ولا يربطهم سوى الانتساب إلى هذا الدين، كما هي حال المسيحيين أو المسلمين أو غيرهم في التاريخ الماضي والحاضر. والمشروع الصهيوني الذي تطورت بذوره في القرن التاسع عشر متأثراً بالقومية الألمانية وبزوغ وتجذر عصر القوميات في أوروبا قام عبر استنساخه التجربة الأوروبية بخلق واختراع قومية يهودية ليست موجودة من ناحية تاريخية وعلمية.
الاختراع الصهيوني لفكرة الشعب اليهودي قام على ركنين أساسيين، ضمن أركان أخرى، ينتميان إلى التاريخ التوراتي غير الممحص، وكلاهما يتعرضان إلى تفكيك وهدم في كتاب ساند.
الأول هو فكرة طرد الرومان لليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل، وهي التي أسست لأطروحة «الشتات اليهودي» الذي انتشر في أصقاع الأرض، وتطورت في ثقافة ذلك الشتات نوستالجيا «العودة إلى أرض الميعاد».
والركن الثاني هو أن الدين اليهودي لم يكن ديناً تبشيرياً، بل ظل محصوراً بالإثنية التي حملته واعتنقته في بداياته، بما يعني أن الشتات الذي رحل إلى مناطق مختلفة من العالم وبقي على قيد الحياة يعود في جذوره الإثنية والقومية إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطُردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثرت في نقاء العرق اليهودي.
ساند يثبت أن كلاً من هذين الركنين لا يصمد أمام البحث العلمي والتاريخي، وأنهما مجرد تفاسير تلمودية لاحقة لخلق استثنائية يهودية قومية، شيدت على أساسها الحركة الصهيونية مقولاتها المعروفة حول عودة اليهود إلى «وطنهم الأصلي».
وهكذا فإن «الطرد الروماني لليهود» لم يحدث.
هذا ما يثبته ساند عبر البحث والتحليل في كل مصادر هذه الرواية التاريخية. إلى ذلك لم تكن فلسطين هي المكان الوحيد الذي عاش فيه اليهود في الفترة الزمنية التي يُنسب إليها حدوث الطرد. وبحسب ساند فإن اليهود الذين كانوا يعيشون في بلاد فارس والعراق ومصر والمناطق المجاورة تجاوزوا الأربعة ملايين، وبطبيعة الحال كانوا أكثر بكثير من يهود فلسطين، بما يعني أن خصوصية المكان، أي فلسطين، تم اختراعها في مراحل لاحقة لتتناسب مع الأساطير التي تأسست.
معنى ذلك أن نظرية «شتات الجنس اليهودي» ليس لها جذر تاريخي، وأن أي وجود يهودي في العالم مرتبط باليهودية كدين وليس كقوم.
وهذا يُفسره أكثر تفكيك الركن الثاني لأطروحة وجود شعب يهودي نقي ويعود لعرق موحد. فهنا ينقض ساند فكرة أن اليهودية كانت على الدوام ديناً حصرياً على القبائل التي اعتنقتها في بدايات الدعوة الموسوية، واستمرت كذلك إلى يومنا هذا. حصرية الدين اليهودي ونفي أي نزعة تبشيرية فيه، كما هو الحال في المسيحية والإسلام اللذين أنطلقا لإقناع القبائل والشعوب أينما كانت للدخول فيهما، هو تركيب مسيس لاحق لخلق تاريخ موهوم يخدم مشروعاً أيديولوجياً محدداً ولا علاقة له بالواقعة التاريخية.يسوق ساند إثباتات تاريخية قوية تدلل أن اليهودية لم تختلف عن بقية الأديان التوحيدية (وغير التوحيدية) الأخرى لجهة النزعة القوية الى التبشير وإقناع أفراد وقبائل وشعوب أخرى بالدين الجديد. وقد انتشرت اليهودية بقوة خلال قرون عدة، وبقيت تتمدد هنا وتنحسر هناك بحسب الظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية، لكنها حافظت دوماً على نزعتها التبشيرية والإستقطابية. وكان حوض البحر الأبيض المتوسط هو أهم وأكثف جغرافيا لانتشار اليهودية، التي اعتنقتها قبائل عربية ورومانية وبربرية وحميرية ولم يعد هناك أي بقية لـ «النقاء القومي للعرق اليهودي» كما تزعم الأطروحة الصهيونية المعروفة. ويتوقف ساند بإسهاب عند إمبراطورية الخزر على ضفاف بحر قزوين في القرن الثامن الميلادي وكيف اعتنقت الدولة الدين اليهودي كديانة رسمية، وذلك حتى تحافظ على نفسها من الذوبان في الإمبراطورية الإسلامية أو الرومانية. ومثل يهود الخزر المصدر الأساسي ليهود القارة الأوروبية وبخاصة في الشرق منها، وهم لا يمتون بصلة إلى فلسطين أو إلى أي إثنية لها علاقة بالمنطقة. ويسخر ساند إلى درجة الاشمئزاز من بعض التوجهات البحثية في إسرائيل والتي تحاول أن تثبت الأصل الجيني لكل يهود العالم، بالاعتماد على آخر اكتشافات العلوم البيولوجية والـ DNA.
ما يريد تأكيده ساند في أطروحته، وهو ما لم يقبله الغاضبون من أنصار إسرائيل الذي صرخوا في وجهه في جامعة لندن، أن تركيب قومية إثنية واضحة المعالم على الدين اليهودي، تنسج على منوال القوميات الأوروبية، كان مشروعاً سياسياً وأيديولوجيا وأطروحاته يجب أن ترى من منظار الأيديولوجيا وليس التاريخ.لا ينتهي ساند في آخر كتابه إلى تبني أطروحة تنسجم مع ما جاء فيه من تفكيك للمقولات الصهيونية، فهو يقول، أنه غير طوباوي ويؤمن بأن الحل الأفضل للصراع يقوم على أساس الدولتين، على رغم احتوائه على ظلم تاريخي للفلسطينيين. يقول إن حل الدولة الواحدة مريح ضميرياً وأخلاقياً لكنه ليس عملياً وصعب التطبيق.
من مقال ل د.خالد الحروب أكاديمي فلسطيني - جامعة كامبردج ... عن صحيفة القدس.
اعداد أبو زيد حموضة
فلسطين نابلس
25/11/2009