«المرأة المعوقة» مسألة معقدة للغاية، فالمرأة في شكل عام ما زالت تواجه الكثير من المشكلات والمعوقات في مختلف نواحي الحياة لمجرد أنها أنثى، فما بالك لو كانت تعاني إعاقة ما تمنعها من ممارسة حياتها في شكل طبيعي والانضمام إلى زمرة المجاهدات الباحثات عن فرص عمل، وتعليم وحياة كريمة. بل أحياناً تمنعها من مجرد العيش كإنسان كامل الكرامة وليس بالضرورة الأهلية.
نموذجان التقتهما «الحياة»، يمثل كل منهما قطاعاً عريضاً من النساء المعوقات شبه المنسيات في مصر، هدى وصفية، كلتاهما في منتصف الثلاثينات من العمر، وكلتاهما مصابة بإعاقة جسدية، ولكل منهما تجربة تعكس حياة المرأة المعوقة.
هدى خريجة كلية الآداب - قسم اللغة الإنكليزية، تتميز منذ صغرها بذكاء حاد وميول فنية قوية، تنتمي إلى أسرة ميسورة الحال، ولها شقيقة واحدة، تصغرها بأربعة أعوام. أصيبت هدى بشلل الأطفال وهي في الرابعة من عمرها، ما سبب لها إعاقة، ولذلك فهي تحتاج إلى مقعد متحرك أو إلى مساعدة من شخص إلى جانب الاتكاء على عكازها.
وعلى رغم تأكيدها «المزمن» أنها تعيش حياة شبه طبيعية لا ينقصها شيء، لوالدتها رأي آخر، تقول: «على رغم أن ابنتي نالت تعليماً أكاديمياً جيداً، إضافة إلى تعلمها العزف على البيانو وحصولها على شهادة في مجال علوم الكومبيوتر وهوايتها الفنية من رسم وتطريز وغيرهما، كان حصولها على فرصة عمل تناسب طموحها أمراً شبه مستحيل. فعملت هدى بعد تخرجها في شركة أجنبية متخصصة في البرمجيات في مصر، ولاقت ترحيباً شديداً من الإدارة التي تحرص على تعيين نسبة من المعوقين بين موظفيها، إلا أنها اضطرت إلى تقديم استقالتها بعد أقل من عام واحد. وعلى رغم التقدم الكبير الذي أحرزته في عملها، كانت رحلة الذهاب إلى عملها والعودة مسلسلاً يومياً من العذاب البدني والنفسي لها. إذ كانت تضطر إلى الانتظار على باب العمارة حتى وقوف سيارة أجرة تقلها إلى مقر عملها. وكانت فترة الانتظار تطول أحياناً نصف ساعة أو أكثر. وكان هذا المشهد يتكرر في رحلة العودة. والمشكلة الأكبر هي أن المكان لم يكن مهيأً للتعامل مع الموظفين من أصحاب الإعاقات، وهو ما كان يعني استدعاء شخصين من العاملين في الأمن ليساعداها على صعود الدرج الذي يؤدي إلى المصعد، وهو ما كان يسبب لها حرجاً بالغاً».
وتستطرد الأم شارحة رحلة هدى مع العمل: «تركت هدى العمل، وتوسط والدها لدى معارفه وعُيّنت في وظيفة حكومية في إحدى المصالح القريبة من البيت حيث أصطحبها صباحاً إلى هناك وأنتظرها لنعود معاً بعد الظهر».
لكن المشكلات لم تقف عند حدود العمل، فهدى كانت ارتبطت عاطفياً بجار لها، لكنه حين فاتح والدته برغبته في الارتباط بهدى هاجت وماجت واستخدمت كل أساليبها في الإقناع تارة والتهديد تارة أخرى لمنع هذا الارتباط غير المتكافئ لمجرد أنّ هدى معوقة في حركتها.
نظرة الشفقة
المشكلة الرئيسة من وجهة نظر هدى هي في العقلية المحيطة بها، تقول: «لا يوجد شيء واحد مهيأ للتعامل مع المعوقين. الأرصفة في الشوارع يزيد ارتفاعها على المتعارف عليه، ما يجعل صعودها بالنسبة إلي أمراً مستحيلاً. أما عبور الشوارع فأمر شبه مستحيل، إشـارات المرور هيكلية، وحتى لو توقفت السيارات عند الإشارة الحمراء، هناك من ينبري من بين الصفوف لينطلق بسيارته. وغالبية البنايات، سواء السكنية أم الشركات والمصالح أم حتى المدارس والجامعات خالية من المنحنيات لمستخدمي المقاعد المتحركة. أما الأفراد أنفسهم، فإما يتعاملون مع المعوق باعتباره شيئاً معطلاً للحركة أو ينظرون إليه نظرة شفقة، وكلاهما يجرحني».
الإعاقة... الفضيحة
وإذا كان سبب جروح هدى النفسية مفهوماً ويمكن حصره، فإن جروح صفية لا تعد ولا تحصى. ولدت صفية وهي تعاني تشوهات في أطرافها، ما ألزمها البيت وأعاقها عن الحركة. وعلى رغم أنها لا تعاني أي إعاقات ذهنية، لم يفكر والداها في موضوع التعليم من الأصل. فقد سلما أمرهما لله، ولم يعرضاها حتى على طبيب. وكيف يفعلان ذلك وهما لا يملكان قوت يومهما، وعليهما الإنفاق على خمسة أبناء غير صفية؟
وكان والدها لا يخرجها من البيت إلا ليلاً، وذلك خوفاً من نظرات الجيران، حتى أنه قطع كل صلاته وعلاقاته بمن حوله حتى لا يضطر لاستقبال أحد في البيت فيكتشف «الفضيحة» الملقاة في الغرفة الداخلية.
وتتذكر صفية كيف كان والدها يحملها مرة في الأسبوع إلى خارج البيت وهي في الـ 16 من عمرها لتستنشق الهواء بعد منتصف الليل ثم يعود بها مسرعاً قبل أن يراها أحد.
وحالياً توفي والدا صفية، وتزوج أشقاؤها وانطلق كل منهم في حال سبيله، وتعيش هي وحيدة في بيت والديها وتعتمد على مساعدات أهل الخير. وهناك جمعية خيرية ترسل لها مبلغاً مالياً كل شهر، وأبناء الجيران يتناوبون على شراء حاجاتها من السوق. لكن صفية بدأت تصاب بأمراض أخرى مثل الروماتيزم بحكم حياتها على الأرض صيفاً وشتاءً، ووعدتها الجمعية بتدبير مقعد متحرك لها، لكنها تسكن في الطابق الرابع، والعمارة لا يوجد فيها مصعد. وليت الوضع يقتصر على ذلك، إذ تعرضت صفية أكثر من مرة لمحاولات اعتداء من رجال يعرفون أنها معوقة وتسكن وحدها، ولكن «ربنا كان بيستر في كل مرة».
مأساة بلا نهاية
يستمر مسلسل مأساة صفية وغيرها من الملايين من أصحاب الإعاقات، لا سيما النساء اللواتي يكن أكثر عرضة للمعاناة والتعرض للاعتداءات التي تصل إلى الاغتصاب. هذا إضافة إلى القائمة الطويلة من المشكلات التي تبدأ بندرة الفرص المتاحة لهن ليعشن حياة طبيعية وتنتهي بنظرة المجتمع.
المشكلة كبيرة، حتى أن الإحصاءات الدقيقة لأعداد المعاقين في مصر ليست متوافرة وهو ما يعرقل علاج مشاكلهم. فالأعداد التي تشير إليها الجمعيات تتراوح بين سبعة وعشرة ملايين شخص. وتشير بيانات رسمية إلى أن عدد المعوقين بلغ مليوني شخص في عام 1996، لكن خبراء يؤكدون أن العدد لا يقل عن 7.5 مليون شخص أي نحو 11 في المئة من السكان.
التقرير الوطني الذي أعدته رئيس وحدة الإحصاءات في الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الدكتورة بثينة الديب يسهم في تفسير الكثير من مظاهر المواربة والتخبئة التي تحيط بقضية الإعاقة في مصر. فما زالت إعاقة فرد من أفراد الأسرة مصدراً للخجل والخوف من نظرة المجتمع، لا سيما إذا كان المعوق أنثى، وتزيد حدة مثل تلك المعتقدات كلما تدنى المستوى التعليمي للأسرة.
والملاحظ فشل الإعلام المصري عموماً في شرح معنى الإعاقة ونوعية الخدمات المقدمة من الدولة أو الجهات غير الحكومية.
ويشار إلى أن نسب الإعاقة الرسمية لا تشمل المصابين بأمراض نفسية، وصعوبات التعلم، وأمراض مثل الصرع وغيرها. أضف إلى ذلك أن كثيرين يمتنعون عن الإفصاح لمندوبي الإحصاء عن وجود معوق من أفراد العائلة، وهو ما يعني أن الإحصاءات الموجودة غير دقيقة وأقل بكثير من الواقع.
وعلى رغم أن مثل تلك القضايا والمشكلات تحتاج إلى ما هو أكثر من النظريات والمؤتمرات التي عادة ما تحال نتائجها على التقاعد في الأدراج، انطلقت بارقة أمل من القاهرة، وتحديداً من مقر جامعة الدول العربية التي استضافت المؤتمر الإقليمي الأول للملتقى العربي للمرأة المعوقة، وذلك بالتعاون مع المنظمة العربية للمعوقين.
المطلوب حالياً العمل الفعلي وليس النظري من أجل توفير حياة مناسبة لكل معوق ومعوقة وليس الشفقة، مع الأخذ في الاعتبار أن المرأة المعوقة منسية تماماً.
منقول