منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    الربيع العربي، هل هو “مشعلُ ثورة” أم “حقنة هيروين”؟

    قد نمر بجدول ولا نسمع صوتا لخرير مياهه.
    قد تكون حجرتنا ملأى بالحشرات الليلية دون أن نحسَّ بوجودها.
    قد يمر بمحاذاتنا ونحن نيام جرذ كبير يبحث عن قوته, ونبقى مع ذلك ننعم بمتعة الاستغراق في النوم.
    ولكن ماذا يحدث لو وضعنا مكبرا للصوت فوق ماء الجدول أو في الغرفة الملأى بالحشرات، أو في عنق الجرذ وهو يقترب منا؟!
    ستنقلب الصورة رأسا على عقب، وسوف نرى كل شيء بصورة عكسية. سيتحول الجدول الوادع في أذاننا التي كانت غافلة عنه، إلى سيل هادر يروِّعنا في كل لحظة بصوت كأنه الفيضان يدفع بالماء نحونا لإغراقنا.
    وسنعيش بين الحشرات في حجرة نومنا معركة لها أول وليس لها آخر, اخفض صوت فيها لا يقل عن هدير طائرة مقاتلة في حالة إغارة مخترقة حاجز الصوت.
    أما الجرذ فحدث عنه ولا حرج, فمع كل شبر يقتربه منا, سيتبادر إلى أذهاننا ونحن نستيقظ فزعين أن جيشا عرمرما أصبح قاب قوسين أو أدنى من عقر حرماتنا الليلية.
    وهكذا، فبمكبر الصوت الذي ليس من شأنه أن يغيِّرَ الحقيقةَ بقدر ما من شأنه تزويرَها وتلفيقَها فقط, أصبح محيطنا الذي لم يكن يثير لدينا أيَّ فضول ناهيك عن الفزع والخوف, يبعث القلق والرعب في نفوسنا بعد أن نقلنا هذا المكبر إلى أجواء حرب مروِّعة.
    إن الصورة المضَلِّلَة التي نقلها لنا مكبِّر الصوت في المثال أعلاه, شبيهة تماما بالصورة المضَلِّلَة التي تُمَرَّرُ إلينا حول واقع التغيُّرات التي تشهدها المنطقة العربية منذ قرابة العامين.
    إن مرور الجرذ بجانبنا ونحن نيام قد يمثل نوعا من مشكلة, ولكنها ليست مشكلة كتلك التي صورها مكبِّر الصوت.
    كما أن وجود الحشرات في حجرة نومنا قد يمثل نوعا من مشكلة أيضا, ولكنها في كل الأحوال ليست معركة كما أوحى لنا بها مكبر الصوت اللعين.
    و"الربيع العربي" أسباباً وشكلاً وسيرورةً ونتائج – وبعيدا عن الدلالات الانطباعية في هذا المصطلح محل الخلاف – يشير إلى أن هنالك ظاهرةً ما تتشكَّلُ محاطةً ومحاصرةً بكل العناصر الطبيعية التي ترافق مثيلاتها في كل مكان في العالم, مع بعض الخصوصية للحالة العربية تُنْتِجها الهجمة "الإمبريالية – الصهيونية – الوظيفية" على الوطن العربي منذ أكثر من قرن. ولكنها – أي ظاهرة "الربيع العربي" – في كلِّ الأحوال ليست بالصورة التي ينقلها لنا مكبِّر الصوت السياسي الذي تستخدمه ليل نهار أبواق الدعاية الإعلامية هنا وهناك، في هذا الخندق أو في ذاك.
    في "البكائيات" التي يزخر بها الإعلام العربي منذ نهاية عام 2010، ومن جميع أفراد "جوقتي البكاَّئين" الذين يستكثرون إراقة دم هنا، ويستسهلونه هناك، لمجرد أنه يراق هنا في ساحات وخدمةً لأجندات يقبلون بها، فيما هو يراق هناك في ساحات وخدمةً لأجندات لا تروق لهم، نستطيع أن نتلمَّسَ خطَّين فكريين سياسيين متناقضين، يمثلان المحورين الرئيسين اللذين تقوم عليهما تلك "البكائيات"، مفاد الأول أن ما أطلِقَ عليه "الربيع العربي" ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ، ونقلة نوعية في بُنْيَة العالم كلِّه، وليس في بُنية "الوطن العربي" وحده، ومفاد الثاني على النقيض تماما، حيث ليست هناك لا ثورات عربية ولا ربيع عربي، بل هناك حالة من "الفوضى" الهوجاء، تتحرك بلا رأس، وغير قائمة لا على فكر ولا على فلسفة تؤسِّس لها وتقودها وتوجهها، لأن الساحات العربية تخلو من مفكري وفلاسفة الثورة أصلا.
    سنتجاوز مناقشة "البكاَّئين" في الجوقة الأولى التي ترى في ظاهرة "الربيع العربي" بدايةً للتاريخ والمجد الجديدين، لأنها تبكي دون أن تؤسِّسَ لبكائياتها أرضا فلسفية صلبة تقيم عليها بنيتَها الفكرية السياسية، فتظهرُ بكائياتُها بسبب ذلك مرتبكةً مضطربة ممعنة في الانفعالية وردات الفعل والعاطفة، عندما تكتفي بالدم المراق في الأزقَّة والحواري والطرقات، وبالوجوه الجديدة المندفعة والمتحمِّسة، وبإذلال الطغاة السابقين، "هربا" و"سجنا" و"قتلا" و"عزلا"، وبما تطلق عليه "الخروج من القمقم"، و"كسر حواجز الخوف".. إلخ، أدلة على كلِّ ما لم تستطع فهمَه أو إثباتَه أو حسنَ قراءته. ونعكف على مناقشة الجوقة الثانية التي ترى في الظاهرة نفسِها "خريفا عربيا" ينبئ بشتاء "سايكسبيكوي" جديد.
    وإننا إذ نعكف على مناقشة هذه الجوقة، فلأنها حاولت أن تؤسِّسَ لرؤيتها سياسيا وأحيانا فلسفيا، وإن يكن ببعض الأوهام والأساطير والخِدع التي لم تعد تنطلي على أحد، حتى وهي تُستخدم في المشاهد السينمائية المحبوكة والمُتقنة.
    وفي هذا السياق نتساءل.. هل أن الإكثار من الجُمَل والعبارات التي تجلدُ الحالةَ العربية التي يطُلقَ عليها الكثيرون اسم "الخواء والفوضوية"، بسوط "الافتقار إلى الفلاسفة والمفكرين"، و"غياب الفلسفة الثورية"، و"فقر المكتبة الثورية بالمؤلفات التأسيسية للفكر الثوري"، والتساؤل عن الرموز الثورية"، و"إيراد الأمثلة الثورية العالمية في سياق المقارنات، من خلال قراءتها قراءةً مجتزأة لإثبات وجهة نظر محددة".. إلخ.. نقول.. هل أن الإكثار من ذلك، يصنع حجَّةً، أو يقيم دليلا من أيِّ نوع؟!
    فكما أن الصراخ في وجه النظام المستبد والأشداقُ تتطاير زبدا، لا يصنعُ ثائرا، إذا لم تكن هناك مقدمة تجعل من ذلك الصراخ قنبلة موجهة تحقق هدفا معلنا وواضحا لا لبس فيه، بدل أن تجعل منه بالونَ تنفيسٍ للاحتقان وتدميرٍ للمحيط، فكذلك القول بالافتقار إلى الفلسفة، وإلى المفكرين، وإلى المقدمات المؤدية إلى الثورة، لا يقيم دليلا بذاته على ذاته، إذا افتقر إلى العلمية والوقائعية والموضوعية المطلوبة لتخليق الحُجَّة، ولتجسيد الدليل.
    فإذا كان من يحاول الطيران بلا أجنحة أو ذيل بمواصفات معينة غوغائيا، لأنه سيسقط حتما ويتهشم، مادام لم يتسلح بما يلزم لمقاومة الجاذبية، فإنه ليس أكثر غوغائية ممن يقول بأن سبب سقوط الأجسام من الأعلى إلى الأسفل، ليس قانون الجاذبية، بل هو أن الجِنِّي المارد "شمروخ" ملك الجان الأحمر، يقف ليذودَ عن قصره المقام في السماء.
    إن الوحيد الذي يحق له وصف الأول بالغوغائية، هو من يملك قراءةً في السبب الحقيقي لسبب سقوطه برؤية علمية تجريبية، وإلا فإنه والآخر في الغوغائية سواء، لأن كلَّ واحدٍ منهما ينتج حالةً فكرية خاطئة ومنحرفة، فالأول لم يعرف أن هناك قانونا يجب أن يخضع له هو قانون الجاذبية، والثاني عزى الظاهرة إلى أسطورة لا علاقة لها بالقانون الموضوعي الذي هو قانون الجاذبية.
    فلنستمع إلى قول من يقول..
    "واليوم يحاول الكثيرون تسويق الربيع العربي على أنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب، برغم أن هذا الربيع لا يعدو في أعلى مراتب التوصيف، أن يكون تمردا اجتماعيا متشظيا قائما على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهورٍ تائه؟! لقد غاب عنا في هذه الثورة العربية "المترامية الأطراف" من شمال إفريقيا إلى اليمن السعيد وإلى سوريا شيئان مهمان، هما فلاسفة الثورة الكبار ومفكروها، غابت كذلك "فلسفة الثورة، لتكون النتيجة أن اللهيب الذي نراه اليوم لم يوقده فلاسفة ولا عمالقة ولا قامات ولا هامات ولا فكر، إن الثورات العربية العابرة للقرات من تونس إلى سوريا مرورا بمصر واليمن قد أقفرت من أيِّ مرجعية فكرية تستند عليها الجماهير، وتضبط سديمية هذه الجماهير وغوغائيتها". "من مقال للإعلامي العربي "غسان بن جدو، بعنوان الربيع العربي الخاوي والفوضوية"، على الرابط التالي: "http://www.amgadalarab.com/?todo=vie...32&id=00014619
    إن الخلطَ بين دور كلٍّ من الفيلسوف" و"المفكر" و"السياسي" و"الثائر"، يصيبنا بحالة فريدة من عمى الألوان المعرفي عندما نحاول التصدي لفهم ظاهرة مجتمعية مفعمة بالسيرورة الحركية، مثلما هي ظاهرة "الثورة"، إذا لم نتحرَّرَ منه، أي من هذا الخلط، قبل التصدي لمحاولة الفهم تلك، وسيزداد تأثير "عمى الألوان المعرفي" هذا على محاولتنا المعرفية، إذا لم نعرف بالضبط أين يقف كلُّ واحد من هؤلاء الأربعة وأين يبدأ الآخر، في مسيرة "التخليق المعرفي" و"التخليق الحركي" لتلك الظاهرة، وفي التعاطي مع مُكَوِّنات تلك المسيرة.
    فـ "الفيلسوف" بما هو فيلسوف لا "يصنعُ ثورة"، بل هو "يفسِّر العالم"، فهو إذن حالة عالمية كونية تتجاوز في مُخرجاتها العقلية والنفسية والروحية، حدودَ المُكَوِّن القومي أو الوطني لشخصِ الفيلسوف. فلا يوجد فيلسوف يوناني تفلسف يونانيا ولليونانيين، ولا يوجد فيلسوف روماني تفلسف رومانيا وللرومان تحديدا، كما أنه لا يوجد فيلسوف فرنسي تفلسف للفرنسيين، وآخر بريطاني تفلسف للبريطانيين، وآخر عربي تفلسف للعرب، وآخر صيني، وآخر ياباني.. إلخ. الفيلسوف بمقتضى المصطلح، وبطبيعة المُخرج المعرفي الذي ينبثق عن الأداء المعرفي "فلسفة أو تفلسف"، إنساني وعالمي وكوني بطبعه. وفي هذا السياق فالفلاسفة يقارنون من حيث مُخْرَجِهم المعرفي بـ "الرسل" الذين يحملون رسالات عالمية أكبر من الحدود الإقليمية والقومية والوطنية لهم ولأقوامهم، بالمعنى العرقي أو الاثني للأقوام.
    و"المفكر" الذي يلي الفيلسوف في المكانة المعرفية، لا يفسِّر العالم، وإنما يتحرك في دائرة معرفية محكومة بفلسفة معينة يؤمن بها ويعتبرها مرجعيتَه والأصلَ الذي يتدثَّر به ويرتكز إليه في فهم وتفسير واقعِه الموضوعي المحدود. وهو إذ يفعل ذلك، فإنما يحاول قراءةَ واقعه الموضوعي المحكوم بمعطيات زمانية ومكانية محددة، وفق رؤيةٍ فلسفية معينة موجودة أصلا وقائمة بالفعل، ربما منذ زمن بعيد. فبقدر ما إنه لا يوجد فيلسوف يرتبط التعريف به كفيلسوف ببلده القومي، إلا من باب معرفة أصله فقط، استكمالا لسيرته الذاتية في مُكونها الشخصي، لأن الفيلسوف يرتبط في الأصل بفلسفته وبمضمونها الكوني، فيقال "فيلسوف مادي"، "فيلسوف ميتافيزيقي"، "فيلسوف وضعي"، "فيلسوف مثالي".. إلخ، عبر نسبته إلى مضمون فلسفته، وإلى طريقتها في تفسير العالم، بقدر ما إنه لا يوجد مفكر لا يرتبط ببلده القومي، لأنه في الأساس نتاجٌ خالص لواقع بلده وظروفها وإمكاناتها ومشكلاتها وقضاياها.. إلخ.
    ولأن الفلسفة نظام معرفي شامل يُفسِّر العالم، فقد كان من الطبيعي أن تنضوي تحت المدرسة الفلسفية الواحدة، العديد من المدارس الفكرية، باختلاف البيئات الزمانية المكانية التي تحاول تجسيد معطيات تلك الفلسفة. أي أن هناك عددا من المدارس الفكرية المنبثقة عن فلسفة معينة، بقدر نماذج تطبيق تلك الفلسفة وتجسيدها على أرض الواقع زمانا ومكانا.. هذا من جهة.
    أما من جهة أخرى، فلكل فلسفة مردودها الفكري لا على الزمان والمكان والبيئات الموضوعية المتباينة فقط، بل على مجالات الفعل الإنساني والسيرورة المجتمعية. أي إنه بقدر ما أن هنالك مدارس فكرية متعددة تنضوي تحت المدرسة الفلسفية الواحدة، تختلف من مجتمع لآخر، فإنه في المجتمع الواحد تتجلي الفلسفة المعتمدة والمتبعة، من خلال مفكرين يغطون مختلف أوجه النشاطات المجتمعية والمعرفية.. إلخ. فهناك مفكرون اقتصاديون، يقرأون الاقتصاد في ضوء الرؤية الفلسفية المعتمدة، وهناك مفكرون سياسيون، وهناك مفكرون قانونيون، وهناك مؤرخون يقرأن التاريخ وفق تلك الرؤية الفلسفية، كما أن هناك علماء نفس وعلماء اجتماع وأنثروبولوجيا.. إلخ. فالمفكرون وفق هذا التوصيف يشبهون "الأنبياء" ويكافئونهم، من حيث أن الأنبياء كانوا يًبعثون للتعامل مع واقع أقوامهم ومجتمعاتهم من زمن لآخر، في ضوء هيمنة الرؤية العامة في تفسير الوجود لرسالةٍ سابقة تحظى بالمرجعية والهيمنة المعيارية.
    أما "السياسي" فهو إنسانٌ ممعنٌ في الخصوصية الوطنية والقومية، بحيث لا ينفصل ولا بأيِّ شكل عن تلك الخصوصية. فالسياسي هو ذلك الشخص الذي يتولى العمل في مجال إدارة الدولة وفق رؤية فكرية معينة. أي أنه يُطَبِّق رؤية المفكرين السياسيين والاقتصاديين والقانونيين.. إلخ، ليجسِّدَها على شكل أداء إداري هو الأداء الإداري السياسي، لأنه يتعلق بالدولة كمعطى قانوني وسياسي.
    وأما "الثائر" فهو ذلك الشخص الذي يتمرد على الواقع الذي لا يريد أن يستجيب لرؤيته السياسية، القائمة على فكر معين، مرتكز إلى فلسفة محددة، أو على الواقع الذي لا يريد أن يعطي الفرصة لتلك الرؤية، كي تمارسَ حقها في أن تحظى بموافقة المجتمع على إدارتها للدولة بمختلف مرافقها.
    إن هذا التفريق بين كلٍّ من "الفيلسوف" و"المفكر" و"السياسي" و"الثائر"، لا ينفي التداخل أحيانا. فقد يكون الفيلسوف مفكرا، أو مفكرا وسياسيا، أو ربما مفكرا وسياسيا وثائرا. ولكن هذا لا يعني أن الحدود الفاصلة بين الأدوار المعرفية وغير المعرفية لهؤلاء قد تداخلت، وإنما يعني أن شخص الفيلسوف الفلاني، اهتم بالواقع الموضوعي، فأسقط فلسفته عليه ليصبح مفكرا، وأنه ومن باب اهتمامه وولعه بالعمل السياسي، مارس السياسة ليصبحَ ساسيا، أو لأنه متحمس ويملك قلوب المناضلين، قرر أن يصبح ثائرا عندما تطلَّبَ الأمرُ ذلك.
    بالمثل قد يكون المفكر سياسيا، وقد يكون سياسيا وثائرا. كما يمكن للسياسي أن يكون ثائرا، وأن لا يصبح سياسيا إلا من خلال الثورة. ولكن في كل تلك الحالات لا يحدث التداخل في الأدوار بين "الفلسفة" و"الفكر" و"السياسة" و"الثورة"، وإنما هو يحدث بين الأشخاص أنفسهم لأسباب تتعلق بالعمل والاهتمام والهوايات.. إلخ.
    ومن الأمثلة على هذا التداخل، نستطيع أن نسوق النماذج التالية..
    * "كارل ماركس" كان فيلسوفا ومفكرا في الوقت ذاته. فهو كان فيلسوفا ماديا لجهة "المادية الدياليكتيكية" و"المادية التاريخية" اللتين أسَّسَ لهما وطوَّرَهما، وكان مفكرا اقتصاديا لجهة "نظرية فائض القيمة" ومُخرجاتها التي أسَسَ لها في كتابه "رأس المال"، بناء على "الفلسفة الدياليكتيكية" واستنادا إلى قوانينها وقواعدها ومبادئها.
    * "فلاديمير لينين" كان مفكرا وسياسيا وثائرا. فهو مفكر أسقط كلا من "المادية الدياليكيتية" و"المادية التاريخية" على واقع روسيا القيصرية، وكان سياسيا تولى زمام الأمور في إدارة الاتحاد السوفياتي، بعد أن كان ثائرا عمل على إسقاط الحكم الإقطاعي القيصري عبر ما عرف بثورة "البلاشفة".
    * ومثل لينين كان "ماو تسي تونغ" و"هو شي مِنَّه" و"جياب" و"غاندي" كلٌّ في الواقع الموضوعي الزماني المكاني الخاص به.. إلخ.
    * "أرنيستو تشي جيفارا"، كان "ثائرا"، وعندما مارس السياسة لوقت قصير لم يتمكن من المواصلة فيها، عاد ثائرا إلى أن قضى نحبه.
    * "هواري بومدين" كان ثائرا وسياسيا اعتمد على "الفكر الاشتراكي والقومي" تحت غطاء "فلسفي ديني إسلامي".
    * "جمال عبد الناصر" كان سياسيا، جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري أطلق عليه اسم ثورة لأسبابٍ يمكن تَفَهُّمُها نسبيا، واعتمد على "الفكر الاشتراكي" تحت غطاء "فلسفي ديني إسلامي" أيضا.
    في ماذا سيفيدنا كلُّ هذا الشرح فيما نحن بصدده من مناقشةٍ من ينتقدون الربيع العربي الذي يعتبرونه مفتقرا إلى الفلاسفة والمفكرين ما يجعله أبعد ما يكون عن الثورية وأقرب ما يكون إلى الغوغائية والتيه؟!
    الثورة الفرنسية لم يفجرها ولا قادها الفلاسفة، ولا فجرها ولا قادها المفكرون، كما يحاول أفراد هذه "الشريحة" أن يُقْنِعوا الرأي العام، ومن يتصور ذلك مخطئ. لقد فجرها – أي الثورة الفرنسية – ثوارٌ وقادها سياسيون، اقتتلوا حتى النخاع، وعلى مدى عقود لم تعرف سوى الدم وانعدام الاستقرار، رغم أنها رفعت شعار الفلسفة التي سادت أوربا كلها، وهي الفلسفة "الليبرالية" بمبادئها الثلاثة "الحرية، الإخاء المساواة". لقد اقتنع سياسيون وثوار فرنسيون بهذه المبادئ الفلسفية التي لم تكن من اختراعهم، وعملوا على إنجاز ثورة فرنسية تغيِّر وجهَ فرنسا، مستغلين حيثيات الواقع الفرنسي ومعطياته وظروفه الخاصة. لم ترتبط الثورة الفرنسية بفلسفتها وبفكرها الخاصين، كما لم ترتبط الثورة الأميركية بعدها بفلسفتها وبفكرها الخاصين.
    فهل يستطيع هؤلاء، أن يُعَدِّدَوا لنا أسماء خمسة من مفكري الثورة الفرنسية وفلاسفتها الخاصين بها، خارج القائمة المكونة من "مونتيسكيو"، و"ميكافيللي"، و"جان جاك روسو"، و"فولتير"، و"آدم سميث"، و"جون لوك"، الذين هم مفكرون وفلاسفة أوربيو المنشأ، عالميو الرؤية، وإن كان بعضهم فرنسيا، مهدوا لتفسيرٍ جديد للعالم التقطه الفرنسيون بعد عشرات السنين كي يجسدوه في بلادهم على شكل ثورة، كما التقطه الإنجليز سابقا، والأميركيون وعشرات الأمم غيرهم لاحقا؟!!
    أي أن الفرنسيين تعاملوا مع فلسفة موجودة وسائدة، ومع أفكار موجودة وسائدة، اعتمد عليها غيرُهم قبلهم وبعدهم في إحداث أنماط مختلفة من التغيير، وفي تمرير أشكال مختلفة من الإصلاح. ومثلهم فعل الأميركيون، ومثلهم فعل الألمان كي يتوحدو بقيادة "بسمارك"، ومثلهم فعل الإيطاليون كي يتوحدوا بقيادة "ماتزيني". ومثلهم فعلت معظم شعوب الأرض.
    فـ "الفلسفة الليبريالية" التي قامت في أوربا عشية ظهور "عصر الصناعة" على أنقاض "عصر الإقطاع"، والتي تأسست مع ظهور "الدول القومية" قبل ذلك، بدأت في بريطانيا ثم انتقلت إلى ألمانيا ثم إلى فرنسا، وراحت تنتشر في أوربا كالسرطان، بوصفها فلسفة أخذت صفتَها الفلسفية من عالميتها القائمة على تقديم تفسير جديد للعالم، هو التفسير "القومي الليبرالي" الذي بدأ يؤسس لـ "الديمقراطية الليبرالية" ولـ "الحرية الاقتصادية" اللتين أصبحتا وحتى يومنا هذا هما "أيقونتا التغيير والتثوير" في العالم.
    وقبل أن تقوم الثورة الفرنسية، كان هناك مفكر كبير أساس هو "جان جاك روسو" أسَّس لفكرة "العقد الاجتماعي" المكملة لمعطيات الفلسفة الليبرالية. فإذا أضفنا إلى هذا الجانب من الفلسفة الليبرالية، كلاًّ من مخرجات "مونتيسكيو، وميكافيللي، لاكتملت لدينا الدائرة الفلسفية التي أسَّسَت لكلِّ التغييرات التي اجتاحت العالم على مدى قرابة ثلاثة قرون امتدت حتى يومنا هذا.
    في منتصف القرن التاسع عشر، ولأسبابٍ ليس هنا مجال التعرُّض لها، بدأت بالتشكل فلسفة جديدة تملك تفسيرا للعالم يختلف عن تفسير "الليبرالية" هي الفلسفة "الدياليكتيكية"، وتطورت وانبثقت عنها مدارس فكرية مختلفة. وعلى مدى الفترة التي امتدت من نهايات القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، ظهرت كل الثورات المجتمعية، وحركات التغيير والإصلاح المجتمعي، وحركات التحرر الوطني في العالم، مجسِّدة لهاتين الفلسفتين.
    فهل يستطيع أفراد تلك "المجموعة" أن يوردوا لنا اسما لفيلسوفٍ روسي واحدٍ فقط نضيفه إلى "كارل ماركس"، اعتمد عليه البلاشفة في ثورتهم؟!
    بل هل يستطيع أيٌّ كان أن يعطينا اسما لفيلسوف واحد من أيِّ بلد كان، كانت فلسفته التي فسَّر بها العالم مختلفة عن فلسفة "ماركس"، إذا كان البلد قد خضع للتغيير باتجاه "الشيوعية" و"الاشتراكية"، أو آخر كانت فلسفته التي فسر بها العالم مختلفة عن فلسفات "لوك"، و"روسو" و"مونتيسكيو" و"ميكافيللي".. إلخ، إذا كان بلده قد خضع لتغيير باتجاه "الليبرالية"؟!
    لا أحد يستطيع ذلك، وكل ما يمكن لأيٍّ كان أن يورده، هو قوائم مفكرين جسدوا هاتين الفلسفتين في دولهم، وطبقوها على خصوصية شعوبهم. فلينين ليس فيلسوفا، وتروتسكي ليس فيلسوفا، وماو تسي تونغ ليس فيلسوفا، وكلُّ قادة الفكر في المجتمعات الليبرالية ممن أسسوا لرؤاهم من على قاعدة "الليبرالية" الأم، ليسوا فلاسفة، بل مجرد مفكرين قادوا التغيير باتجاه اللليبرالية في بلدانهم وفي مجتمعاتهم.
    ولكن مع بدايات القرن العشرين وبسبب انهيار الدولة العثمانية، وبعد فشل مشروع "الجامعة الإسلامية" التي دعا إليها المتنورون الوحدويون العرب من أمثال "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" و"محمد رشيد رضا"، ظهرت نزعة دينية فيها نوع من "النكوصية الخطيرة"، رأت في العودة إلى الإسلام بشكل من الأشكال الرجعية، ملجأً لإنقاذ الأمة مما جرى لها، ومما سيجري لها بسبب الزحفين الشيوعي والليبرالي القادمين.
    وبعيدا عن التفاصيل، فقد أصبح في الوطن العربي بالإضافة إلى كل من "الفلسفة الليبرالية" التي دعا إليها منذ وقت مبكر مفكرون كبار من مثل "الكواكبي" و"رفاعة الطهطاوي" و"قاسم أمين" وغيرهم، و"الفلسفة الدياليكتيكية" التي تولت الدعوة إليها كافة "الأحزاب الشيوعية"، وبعدها معظم قادة حركات التحرر الوطني العربي تحت غطاء الاشتراكية، أصبح في الوطن العربي دعاة رؤية فلسفية جديدة ترتكز إلى "الرسالة الإسلامية" كمرجعية فلسفية، وفق قراءة معينة لها، لا نختلف مع أيٍّ كان في أنها كانت رجعية نكوصية أساءت للأمة وأضرت بها، بأكثر مما أساءت وأضرت الدعوات "الليبرالية" والدعوات "الاشتراكية".
    فلسفتان فقط هما "الليبرالية" و"الدياليكتيكية" مثلتا أيقونتي التغيير والتثوير في العالم على مدى المائة عام الأخيرة. وهما بالإضافة إلى "رؤية إسلامية مضطربة" غالبا، كانت وما تزال تمثل "أيقونات التغيير والتثوير في الوطن العربي ومعظم الدول الإسلامية.
    لم تكن لكل ثورة فلسفتها، ولا كان لها فلاسفتها إذن، وإنما كان لها مفكروها السياسيون والاقتصاديون والقانونيون.. إلخ، وأحيانا لم يكن لها حتى هؤلاء المفكرون، بل هناك ثورات اكتفت – لأسباب موضوعية خاصة – باقتباس أفكار جاهزة ونماذج فكرية منجزة ومجرَّبَة اقتنعت بكفايتها، ليطبقَّها سياسيون وصلوا إلى السلطة في سياق غير ثوري، أو ثوارٌ أصبحوا سياسيين.
    وفي نهاية الأمر، وبصرف النظر عن مواقفنا المبدئية من أيٍّ من الفلسفات الثلاث سالفة الذكر، والتي نختلف نحن شخصيا معها جميعها في تصورنا الذي نلجأ إليه في تفسير العالم، والذي نقيم عليه بالتالي رؤيتنا الفكرية سياسيا واقتصاديا وقانونيا ومجتمعيا.. إلخ، فقد أصبحت هذه الفلسفات الثلاث هي أرضيات الفعل المجتمعي والسياسي، وحواضن التحرك والتغيير بكل أشكاله في الوطن العربي، وهي ما تزال كذلك حتى الآن. وبالتالي فمن غير المنصف، ومن التعامي غير البريء ادعاء أن الثورات العربية الراهنة تفتقر إلى الفلسفات الحاضنة لها والمؤسسة لسيرورتها.
    ففي كل ثورة كان هناك أتباع للفلسفات الثلاث ودعاة لها، وتمَّ التوافق بين الجميع – أو ربما بين المعظم – على نموذج "دولة مدنية ديمقراطية تشاركية" تتوافق إلى حدٍّ كبير مع العديد من مخرجات "الفلسفة الليبرالية"، مع بعض الإضافات التي تمليها الخصوصية.
    فلنعلن اختلافنا مع المخرجات التي أوصلتنا إليها ثورة معينة إذا كنا مختلفين مع تلك المخرجات. ولنعلن أننا ضد أن نتراجع عن هذا الشكل من أشكال الدولة أو عن ذاك، إذا كانت لنا رؤيتنا ضمن هذه الحاضنة الفلسفية أو تلك، أو حتى لو كنا فلاسفة نمتلك حواضننا الفلسفية الجديدة. أما أن نعتبر هذا الاختلاف وعدم الرضا، أرضية لرفض الاعتراف بأن ما يحدث ثورة، على قاعدة التشكيك في الحدث، لجهة افتقاره إلى الفلسفة والفلاسفة، وإلى الفكر والمفكرين، فهذا أبعد ما يكون عن التفكير العلمي، وعن النهج الموضوعي في التعاطي مع الظواهر المجتمعية. وبالتالي فإن أكبر تزييف للوعي في التعاطي مع الحالة العربية الراهنة، هو التشكيك فيها من منطلق أنها لا تملك مفكريها وفلاسفتها، وفكرها وفلسفتها، لأن الثورات تنبثق في حاضنة فلسفات قد تكون قائمة وقد تكون جديدة، وبالتالي فهي لا تُقَيَّم من حيث وجود فلاسفتها الخاصين بها أو عدم وجودهم، بل من حيث قدرتها على إنجاز مهماتها التي انطلقت لأجل إنجازها، والتي تتمحور في الغالب الأعم حول شكل إدارة الدولة من حيث "نموذج الحكم" و"النموذج الاقتصادي".
    فالفلسفات الكبرى التي قادت الثورات العالمية وهيمنت عليها محدودة، انحصرت خلال المائة عام الماضية في الفلسفات الثلاث السابقة التي ذكرناها، وهي "الليبرالية" و"الدياليكتيكية" و"الإسلامية التقليدية السلفية"، في حين أن عشرات الثورات حصلت وحققت إنجازاتِها في قلب الحاضنتين "الليبرالية" و"الدياليكتيكية"، دون أن يتم التشكيك فيها من هذا المنطلق، وهو منطلق "الافتقار إلى الفلسفة والفلاسفة وإلى الفكر والمفكرين"، رغم أن هاتين الفلسفتين ظهرتا في أماكن أخرى وفي أزمنة متباعدة، وفي ظروف مختلفة.
    أليست ثورات شعوب أوربا الشرقية التي شهدتها مرحلة ما بعد سقوط "جدار برلين" بأكملها، بمثابة ثورات تخلَّقت في قلب الحاضنة "الليبرالية" على أنقاض الحاضنة "الشيوعية" التي كانت هي الفلسفة القائدة لتلك الشعوب على مدى عقود خلت من تاريخها؟! وهل هناك من يشكِّك في أن ما فعلته تلك الشعوب كان بمثابة ثورات؟! أليست ثورات "كوبا" و"كوريا" و"فيتنام" بل ومعظم شعوب أميركا اللاتينية، ثورات تخلقت في قلب الحاضنة "الشيوعية"؟! وهل سمعنا من يشكِّك في تلك الثورات لمجرد أنها لم تخلق لنفسها فلسفتَها الخاصة، مادامت قد تأسست بفكر مفكرين عرفوا كيف يسقطون تلك الفلسفة العالمية على الخصوصية الوطنية؟!
    فقد تنطلق ثورة ما من على أرضية فلسفية تكون هي الرائدة فيها، وقد لا يكون الأمر كذلك. فإن حصل وكانت الثورة قائمة على فلسفةٍ هي الرائدة في الاستناد إليها، كما كان حال "ثورة البلاشفة" بـ "الفلسفة الدياليكتيكية" في روسيا القيصرية في مطلع القرن العشرين، أو حال "الثورة الإيرانية" بـ "الفلسفة الإسلامية" في إيران أواخر القرن العشرين، أو كما كان حال "الثورة البريطانية" بـ "الفلسفة الليبرالية"، في بريطانيا في منتصف القرن السابع عشر، فهذا لا يعني أن على كل ثورة أن تنشئ فلسفتَها الخاصة التي ترتكز إليها.
    الثورة لا تقوم بدون مرجعية فلسفية، هذا صحيح، وإذا كانت هذه المرجعية موجودة وسائدة ومرجوعا إليها وتمثل حالة مقبولة ومتوافَق عليها، حتى لو أنها ليست من إنجاز الثائرين أنفسهم، فليس هناك سؤال مفاده "أين هي الفلسفة الخاصة التي أنجزتها الثورة، وأين هم فلاسفتها"؟! فهذا سؤال عقيم لا معنى له، وغير قائم على وعي بحقيقة السيرورات الثورية عبر التاريخ.
    في ضوء ما سبق هل يمكننا القول بأن الثورات العربية، أو أن هذه الحالة التي يطلق عليها هؤلاء حالة "الخواء والفوضى"، لم تكن مرتكزة إلى فلسفة أو فكر، ولم تعرف فلاسفة ولا مفكرين؟!!
    بكل تأكيد هذا غير صحيح على الإطلاق، فكل ثورات الربيع العربي أو حالات "الخواء والفوضى" كما يسميها هؤلاء، توافقت على حالة "مدنية ديمقراطية تشاركية"، أي أنها ارتكزت إلى فلسفة قائمة، اعتبرها البشر على مدى قرون طويلة نموذجا للدولة الطموح هي "الفلسفة الليبرالية"، مع محاولة إعطائها خصوصية محلية لا تصطدم بالموروث الثقافي صداما غير آمن أو غير مرَّحبٍ به، مادام خلق آليات التعايش وعدم التصادم هذه أمرا ممكنا لا يَمَسُّ شكلَ الدولة المتوافق عليه، وهو الشكل "المدني الديمقراطي التشاركي" القائم على مبدأ المواطنة للجميع.
    إذن فقد سقط التشكيك في الثورات بدعوى افتقارها إلى رؤيتها الفلسفية الخاصة بها، وفلاسفتها الخاصين بها، في ضوء التوضيح السابق لعلاقة الثورة بالفلسفة وبالفلاسفة، وهو التوضيح الذي لا ينزع عن الثورة صفة الثورة ومكونات الثورة لمجرد أنها لم تمتلك فلسفتَها الخاصة التي أنتجتها هي بالذات، مادامت في النهاية ليست عملا فوضويا قائما على التَّنَكُّر لكل الفلسفات الموجودة، بل هي عمل مرتكز إلى فلسفة معينة تم اختيارها بكل الوضوح والعلنية والشفافية والتوافقية، حتى لو انبثقت الخلافات لاحقا بين صناع الثورة أنفسهم لسبب أو لآخر.
    ولكننا نجد أنفسنا مدفوعين في هذا السياق إلى التأكيد على أن الاعتراف بظاهرة "الربيع العربي" كظاهرة ثورية ترتكز من الناحية الفلسفية إلى التفاعل أو إلى التجاذب بين الفلسفات الثلاث التي أشرنا إليها في هذه المقدمة، وهي "الليبرالية"، و"الاشتراكية"، و"الإسلام التقليدي السلفي"، لا يعني أننا نبدي اطمئنانَنا الكامل، وموافقتَنا الضمنية والتامة، على أننا بصدد ظاهرة مكتملة ومتكاملة، ولا تعتريها المثالب والثغرات التي من الممكن أن تنتكسَ بها إلى عواقب وخيمة، قد تجعل من كلِّ ما نراه يحدث أمامنا حتى الآن، مجرد مقدمات لثورة عربية قادمة أكثر جذرية، ما تزال قيد التشَكُّل.
    فنحن لم نتمكن من قراءة الحدث العربي الراهن بمعزلٍ عن إرهاصات التغيُّر العميقة التي تعتري العالم، وعلى رأسها تلك التي تشهدها القارة العجوز "أوربا" ذاتُها، منذ انفجار الأزمة المالية العالمية صيف عام 2008، وتلك التي تسبَّبَت في انهيار منظومة الكتلة الشيوعية بزعامة الاتحاد السوفياتي منذ عقدين، وتلك التي أفرزتها التغيُّرات التي راحت تجتاح منظومة النماذج "الإسلامية التقليدية السلفية" ممثلة في "إيران" و"باكستان" و"أفغانستان" و"السعودية"، بظهور نموذجين إسلاميين آخرين، أسقطا مشروعية تلك النماذج التقليدية، وإن لم يؤسِّسا لنموذج إسلامي جديد ومختلف فلسفيا، وغير متناغم مع النموذج الليبرالي الغربي، هما "النموذج الماليزي"، و"النموذج التركي". كما أننا – وهذا هو الأهم – لم نستطع قراءة ما يحدث بمعزلٍ عن الحالة "الإمبريالية – الصهيونية – الوظيفية"، كرأس حربة تستهدف الأمة، وبالتالي كعدو مؤكَّد لها، لا يصح أن تتشكَّل مكونات أيِّ ثورة عربية بعيدا عن أخذ معاداته الحقيقية هذه بعين الاعتبار.
    نعم، نحن لم نتمكن من قراءة الحدث العربي الراهن بمعزلٍ عن تلك الإرهاصات التي راح يشهدها العالم، والتي تشير بمجملها على نحو يكاد يكون أكيدا إلى بدء تخلُّق أجِنَّة فلسفةٍ إنسانية عالمية جديدة تعمل على إعادة تفسير العالم على أنقاض الفلسفات الثلاث السابقة التي أثبتت فشلَها في قيادة العالم وإخراجه من أزماته على مدى المائة عامٍ الأخيرة، التي لا يمكن فصل مآسي البشرية خلالها، عن معاول هدمِ مارستها ثلاثة قرون من الفعل الأوربي الاستعماري من خلال الحاضنة الأم والأساس للاستعمار والاستغلال وللصهيونية وللإمبريالية، ألا وهي "الليبرالية"، سواء ما كان منها سياسيا "الديمقراطية الليبرالية"، أو اقتصاديا "الليبرالية الاقتصادية/الاقتصاد الحر/اقتصاد السوق".
    إن هناك متلازمة أساسية من متلازمات الحياة المجتمعية المستقرة، ألا وهي متلازمة "الحرية" و"العدالة"، والتي بدون تجسيدها عبر متلازمة تحكم العلاقة بين كلٍّ من "السلطة" و"الثروة"، فإن السيرورة المجتمعية تنزلق دوما إلى تخليق الثورات الباحثة عن آلياتِ تجسيدها، أي تجسيد تلك المتلازمة.
    إننا نرى في "الليبرالية" – في ضوء ذلك – فلسفةً أسقطت "العدالة" لحساب ما أوهمت العالم بأنه "حرية"، فكات "حرية" مجزوءة، ونرى في "الشيوعية" فلسفة أسقطت "الحرية" لحساب ما أوهمت العالم بأنه "عدالة"، فكانت "عدالة" مجزوءة، ونرى في "الإسلام التقليدي السلفي" الذي يجسِّده الإسلام السياسي المعاصر بمختلف فصائله وبُناه، فلسفةً حاولت الجمع بينهما بشكلٍ فجٍّ لم يُقِمْ عملية الجمع تلك على قراءةٍ فلسفية ذات تأصيل عقلي متماسك، ما جعله يقدم للعالم وللشعوب المسلمة "حرية" و"عدالة" مجزوءتين مُبْتَسَرَتَيْن، أكثر تشوُّها مما قدمته "الليبرالية" و"الشيوعية" مجتمعتين
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  2. #2
    تحيه طيبه مع التقدير ..أستاذ أسمامه عكنان
    الموضوع والنص الذي تقدمتم به أستاذ كبير وعميق شمل دراسات عدّه سنتابع معكم الموضوع لنضع الردّ المناسب
    تقبلوا تقديري وأحترامي
    فقط أسمحوا لنا كبدايه مادام ربيع عربيا عليه أن يأخذ سمته وصفته من عمق الأرض ومن أصحاب التجربه الغير مستخلصه بعد,
    والتي أخذت أسمها نسبها لونها من الخارج !! ومازال أصحاب الشأن يلوكون أوراق الخريف .....والريح تعصف من كل جانب ..
    ليس بدعا أن يكتب الشعر حرّ** قد أرته الأيام نار لظاها
    وأطاحت به صريع الأماني**يمضغ العود كي يبل صداه
    شاعر عارك الحياة بعزم ** كي ينال العلا فنال رداها
    ****
    قد أذاع الأثير آهات نفس ** داميات مجرحات الهموم
    لم يكن طبعها نسيما صبوحا**أنما شواظ قلب كليم
    قد شدى باسما بوجه المآسي **ذائدا عن حياضه كالغريمِ
    لم تمت جذوة الحياة بنفس**كمنت ذاتها بسر عظيمِ

    يعقوب الحمداني

المواضيع المتشابهه

  1. عبء النجاح:من الفتوحات الإسلامية إلى الربيع العربي
    بواسطة د. حازم خيري في المنتدى فرسان الأبحاث الفكرية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-29-2012, 10:52 AM
  2. 4 حزيران وزمن الربيع العربي؟!
    بواسطة مصطفى إنشاصي في المنتدى فرسان الأبحاث الفكرية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-18-2012, 08:49 AM
  3. الربيع العربي
    بواسطة فتحية الحمد في المنتدى فرسان الخواطر
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-21-2012, 09:56 AM
  4. مشاعل الربيع العربي ..
    بواسطة ليلى البلوشي في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-02-2012, 06:56 PM
  5. الربيع العربي بأعين البعض
    بواسطة برهان إبراهيم كريم في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-28-2011, 03:47 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •