الأَطْــــلال
إبراهيم ناجي - مصر
هذه قصة حب عاثر: التقيا و تحابا ثم انتهت القصة بأنها صارت أطلال جسد, وصار هو أطلال روح, و هذه الملحمة تسجل وقائعها كما حدثت
يا فؤادي رحم الله الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
اسقني و اشرب على أطلالهِ
و اروِ عني طالما الدمعُ روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً
و حديثاً من أحاديثِ الجوى
و بساطاً من ندامى حلُمٍ
هم توارَوا أبدا, و هْوَ انطوى
يا رياحاً ليس يهدأ عصفها
نضُبَ الزيت و مصباحي انطفا
و أنا أقتاتُ من وهمٍ عفا
و أفي العمر لناسٍ ما وفى
كم تقلَّبتُ على خنجرِهِ
لا الهوى مالَ, و لا الجفنُ غفى
و إذا القلبُ على غفرانِهِ
كلما غار بهِ النصلُ عفا
يا غراماً كان مني في دمي
يشبهُ الموتَ أو في طعمِهِ
ما قضينا ساعةً من عمرِهِ
و قضينا العمرَ في مأتمِهِ
ما انتزاعي دمعةً من عينِهِ
و اغتصابي بسمةً من فمِهِ
ليت شِعري أين منهُ مهربي
أين يمضي هاربٌ من دمِهِ
لستُ أنساك و قد أغريتني
بفمٍ عذب المناداةِ رقيق
و يدٍ تمتد نحوي كيدٍ
من خلال الموج مُدَّتْ لغريق
آه...يا قِبلةَ أقدامي إذا
شكَتِ الأقدامُ أشواكَ الطريق
و بريقاً يظمأُ الساري لهُ
أين في عينيكَ ذيَّاكَ البريق؟
لستُ أنساكَ و قد أغريتني
بالذرى الشُمِّ فأدمنتُ الطموح
أنتَ روحٌ في سمائي و أنا
لكَ أعلو فكأني محضُ روح
يالها من قممٍ كنا بها
نتلاقى و بسرَّيْنا نبوح
أنتِ حسنٌ في ضحاهُ لم يزَل
و أنا عنديَ أحزانُ الطَفَل
و بقايا الظلِّ من ركبٍ رحل
و خيوطُ النورِ من نجم أَفَل
ألمحُ الدنيا بعينيْ سئِم
و أرى حولىَ أشباحَ الملل
راقصاتٍ فوق أشلاءِ الهوى
مُعْوِلاتٍ فوق أجداثِ الأمل
ذهبَ العمر هباء فاذهبي
أثبتَ الحبُّ عليها, و محا
انظري ضحكي و رقصي فرحا
و أنا أحمل قلباً ذُبحا
و يراني الناس روحاً طائرا
و الجوى يطحنني طحنَ الرحى
كنت تمثال خيالي فهوى
المقادير أرادتْ لا يدي
يا حياةَ اليائسِ المُنفردِ
يا يباباً ما بهِ من أحدِ
يا قفاراً لافحاتٍ ما بها
من نجيٍّ يا سكونَ الأبدِ
أين من عيني حبيبٌ ساحرٌ
فيهِ نبلٌ و جلالٌ و حياء
واثقُ الخطوةِ يمشي ملكا
ظالمُ الحسنِ شهيُّ الكبرياء
عبقُ السحرِ كأنفاس الربى
ساهمُ الطرفِ كأحلامِ المساء
أين مني مجلسٌ أنت بهِ
فتنةٌ تمَّتْ سناء و سنى
و أنا حبٌّ و قلبٌ و دمٌ
و فَراشٌ حائرٌ منك دنا
و من الشوقِ رسولٌ بيننا
و نديمٌ قدَّمَ الكأسَ لنا
و سقانا فانتفضنا لحظةً
لغبارٍ آدميٍّ مسَّنا
يالَمنفيَّيْنِ ضلا في الوعور
دميا بالشوكِ فيها و الصخور
كلما تقسو الليالي عرفا
روعةَ الآلامِ في المنفَى الطَهور
يقبسانِ النورَ من روحَيْهما
كلما قد ضنَّتِ الدنيا بنور
أنت قد صيَّرت أمري عجبا
كثرت حوليَ أطيارُ الرُبى
فإذا قلتُ لقلبي ساعةً
قم نُغرِّد لسوى ليلى أبى
حُجُبٌ تأبى لعيني مأربا
غيرَ عينيك و لا مطلبا
أنت مَن أسدلها, لا تدَّعي
أنني أسدلتُ هذي الحُجُبا
يالَها من خطةٍ عمياء لو
أنني أُبصرُ شيئاً لم أُطعها
و ليَ الويلُ إذا لبَّيْتُها
و ليَ الويلُ إذا لم أتَّبِعْها
قد حنت رأسي, و لو كلُّ القوى
تشتري عزةَ نفسي لم أبعْها
يا حبيباً زرتُ يوماً أيكَهُ
طائرَ الشوقِ أُغنِّي ألمي
و حنيني لك يكوي أعظمي
و الثواني جمراتٌ في دمي
و أنا مُرتقبٌ في موضعي
مُرهفُ السمعِ لوقعِ القَدَمِ
قدم تخطو و قلبي مُشبهٌ
موجةً تخطو إلى شاطئها
أيها الظالمُ _باللهِ_ إلى كم
أسفح الدمع على موطئها
رحمةٌ أنت فهل من رحمةٍ
لغريبِ الروحِ أو ظامئِها
يا شفاء الروح, روحي تشتكي
ظلمَ آسيها إلى بارئِها
أعطني حريتي, أطلق يديّ
إنني أعطيتُ ما استبقيتُ شيّ
آه من قيدِك أدمى معصمي
لِمَ أُبقيهِ و ما أبقى عليّ؟
ما احتفاظي بعهودٍ لم تصنها
و إِلامَ الأسرُ و الدنيا لديّ؟
ها أنا جفَّت دموعي فاعفُ عنها
إنها قبلك لم تُبذلْ لحيّ
و هبِ الطائرَ عن عشِّك طارا
جفَّتِ الغدران و الثلج أغارا
هذه الدنيا قلوبٌ جمَدَتْ
خبتِ الشعلةُ و الجمرُ توارى
و إذا ما قبَسُ القلبِ غدا
من رمادٍ لا تسلْهُ كيف صارا
لا تسلْ و اذكر عذابَ المصطلي
و هْوَ يُذكيهِ فلا يقبسُ نارا
لا رعى الله مساءً قاسيا
قد أراني كلَّ أحلامي سُدى
ليت شِعري أي أحداثٍ جرَت
أنزلَتْ روحَك سجنا موصدا
صدئتْ روحُك في عَيهبها
و كذا الأرواحُ يعلوها الصدا
قد رأيتُ الكون قبرا ضيقا
خيّم اليأس عليهِ و السكوت
و رأتْ عيني أكاذيبَ الهوى
واهياتٍ كخيوط العنكبوتك
كنت ترثي لى و تدري ألمي
لو رثى للدمعِ تمثالٌ صموت
عند أقدامك دنيا تنتهي
و على بابك آمالٌ تموت
كنت تدعوني طفلاً كلما
ثار حبي و تندَّت مُقَلي
و لك الحق فقد عاش الهوى
فيَّ طفلاً و نما لم يعقِلِ
و رأى الطعنةَ إذ صوَّبْتَها
فمشت مجنونةً للمقتلِ
رمت الطفل فأدمَتْ قلبهُ
و أصابت كبرياءَ الرجلِ
قلتُ للنفسِ و قد جزنا الوصيدا
عجِّلي لا ينفع الحزمُ وئيدا
يتمنَّى لي وفائي عودةً
و الهوى المذبوحُ يأبى أن يعودا
ليَ نحو اللهب الذاكي بهِ
لفتةُ العودِ إذا صار وقودا
لستُ أنسى أبداً
ساعةً في العُمُرِ
تحت ريحٍ صفَقَتْ
لارتقاصِ المطرِ
نوَّحتْ للذِكَرِ
و شكَتْ للقمرِ
و إذا ما طرِبَتْ
عربدتْ في الشجرِ
هاكَ ما قد صبَّت الريحُ
بأذنِ الشاعرِ
و هْيَ تُغري القلبَ إغراءَ
النصيحِ الفاجرِ
أيها الشاعرُ تغفو
تذكر العهد و تصحو
و إذا ما التأمَ جرحٌ
جدَّ بالتذكار جرحُ
فتعلَّمْ كيف تنسى
و تعلَّمْ كيف تمحو
أوَ كلُّ الحب في رأيكَ
غفرانٌ و صفح
هاكَ فانظر عدد الرملِ
قلوباً و نساء
فتخيَّر ما تشاء
ذهبَ العمر هباء
أيها الريحُ. أجل, لكنما
هي حبي و تَعِلاتي و يأسي
هي في الغيب لقلبي خُلِقتْ
أشرقَتْ لي قبل أن تشرقَ شمسي
و على موعدِها أطبقتُ عيني
و على تذكارها وسَّدتُ رأسي
جنَّتِ الريحُ و نادتهُ
شياطينُ الظلام
أختاماً, كيف يحلو
لكَ في البدءِ الختام
يا جريحاً أسلمَ الجُرحَ
حبيباً نكأه
هو لا يبكي إذا
الناعي بهذا نبَّأه
أيها الجبار هل تُصرعُ
من أجل امرأة
يالَها من صيحةٍ ما بعثَتْ
عنده غيرَ أليمِ الذكَرِ
أرَّقتْ في جنبهِ فاستيقظتْ
كبقايا خنجرٍ منكسرِ
لمع النهر و ناداهُ لهُ
فمضى مُنحدراً للنهرِ
ناضب الزاد و ما من سفرٍ
دون زادٍ غير هذا السفرِ
يا حبيبي كلُّ شيء بقضاء
ما بأيدينا خُلِقنا تعساء
ربما تجمعُنا أقدارُنا
ذات يومٍ بعدما عزَّ اللقاء
فإذا أنكر خلٌّ خلَّهُ
و تلاقينا لقاءَ الغرباء
و مضى كلٌّ إلى غايتِهِ
لا تقل شيئاً! و قل لي الحظ شاء
يا مُغنِّي الخلد ضيَّعتَ العُمُر
في أناشيد تُغنَّى للبشر
ليس في الأحياءِ مَن يسمعُنا
ما لنا لسنا نُغَنِّي للحجر
للجماراتِ التي ليست تعي
و الرميماتِ البوالي في الحُفَر
غنِّها سوف تراها انتفضَتْ
ترحمُ الشادي, و تبكي للوتر
رُبَّ تمثالِ جمالٍ و سنا
لاح لي و العيشُ شجوٌ و ظُلَم
ارتمى اللحنُ عليهِ جاثيا
ليس يدري أنه حسنٌ أصم
هدأ الليل و لا قلب لهُ
أيها الساهر يدري حيرتَك
أيها الشاعر خذ قيثارتَك
غنِّ أشجانَكَ و اسكبْ دمعتَك
رُبَّ لحنٍ رقص النجمُ لهُ
و غزا السحْبَ و بالنجمِ فتك
غنِّهِ حتى نرى ستر الدجى
طلع الفجرُ عليهِ فانهتك
و إذا ما زهراتٌ ذعرتْ
و رأيْتَ الرعبَ يغشى قلبها
فترفَّقْ و اتئدْ و اعزفْ لها
من رقيقِ اللحنِ و امسحْ رعبها
ربَّما نامت على مهدِ الأسى
و بكتْ مستصرخاتٍ ربَّها
أيها الشاعرُ كم من زهرةٍ
عوقبَتْ لم تدرِ يوماً ذنبَها