الوليد بن يزيد الخليفة الأموى الشاعر
د. إبراهيم عوض
قليل الشِّعْر قصيره حسبما وصل إلينا. وقد يكون ضاع من شعره الكثير مع الزمن وعداوة الأمويين والعباسيين له. وهو شعر يتوزعه فى الأساس الغزل ووصف الخمر والصيد، ويتسم بالرقة والسلاسة والانسيابية، لكنه ليس بالقوة التى نجدها عند جميل مثلا أو قيس أو عمر أو العرجىّ. إلا أننا لا نوافق د. طه حسين على أنه أقرب إلى الرداءة اللفظية منه إلى الجودة كما كتب فى دراسته عنه بـ«حديث الأربعاء». ويصعب تماما أن نوافقه على أنه كان يقول الشعر وهو سكران، إذ كيف يكون الإنسان سكران لا يعقل ما يصنع أو يقول ثم ينظم شعرا، فضلا عن أن يكون شعرا جميلا رقيقا كشعر الوليد؟ هذا ما لا أفهمه. بل إنه ليكاد يقول إنه نَظْمٌ لا شعر. وهذه قسوة غير مبررة فى الحكم على هذا الشعر الرقيق الجميل.
وكانت للوليد ابنة عم تدعى: سلمى، وكانت أختا لزوجته، فوقع فى عشقها منذ أول مرة وقع عليها بصره، ولم يستطع عليها صبرا، مما دفعه إلى تطليق زوجته كى يحل له تزوجها، لكن الظروف لم تساعده على ذلك إلا بعد اللتيا والتى وبعدما صار خليفة. ومن شعره يصف حرمانه منها وتدلهه فى هواها:
يا سُلَيْمَى يا سُلَيْمى
كُنْتِ لِلقَلْبِ عَذَابا
يا سُلَيْمَى ابْنَةَ عَمِّي
بَرَدَ اللَّيْلُ وَطابا
أَيُّمَا واشٍ وَشَى بي
فَامْلَئِي فاهُ تُرابا
ريقُها في الصُبْحِ مِسْكٌ
باشَرَ العَذْبَ الرُّضَابا
ومن شعره فيها أيضا:
شاعَ شِعْرِي في سُلَيْمى وَظَهَرْ
وَرَوَاهُ كُلُّ بادٍ وَحَضَرْ
وَتَهادَتْهُ العَذارَى بَينَها
وَتَغَنَّيْنَ بِهِ حَتّى انتَشَرْ
قُلْتُ قَوْلاً لِسُلَيمى مُعْجِبًا
مِثْلَ ما قالَ جَمِيلٌ وَعُمَر:
لو رَأَيْنا لِسُلَيْمَى أَثَرًا
لَسَجَدْنا أَلفَ أَلفٍ لِلأَثَرْ
وَاتَّخَذْناها إِمامًا مُرْتَضًى
وَلَكانَت حَجَّنا وَالـمُعْتَمَرْ
إِنَّما بِنتُ سَعيدٍ قَمَرٌ
هَل حَرِجْنا إِن سَجَدْنا لِلقَمَرْ؟
وقال يخاطبها ويستعطفها:
أَراني اللهُ يا سَلْمَى حَيَاتي
وفي يَوْمِ الحِسَابِ كما أَرَاكِ
أَلا تَجْزِينَ مَن تَيَّمْتِ عُمْرًا
وَمَنْ لَو تَطلُبينَ لَقَدْ أَتاكِ
وَمَن إِن مِتِّ ماتَ، وَلا تَمُوتي،
وَإِن يُنْسَأْ لَهُ أَجَلٌ بَكَاكِ
وَمَن لَو قُلتِ: «مُتْ»، وَأَطاقَ مَوْتًا
إِذن ذاقَ المماتَ وَما عَصَاكِ
وَمَن حَقًّا لَوُ اعْطِي ما تَمَنّى
مِنَ الأَرْضِ العَرِيضَةِ ما عَدَاكِ؟
أَثِيبِي هائِمًا كَلِفًا مُعَنًّى
إِذا خَدِرَتْ لَهُ رِجْلٌ دَعاكِ
وفى ليلة الدخلة طال انتظاره إياها وهم يجلونها قبل أن تطلع عليه بجمالها الفتان:
خَفَّ مِن دارِ جيرَتي،
يا خَليلَيَّ، أُنْسُها
أَفَلاَ تَخرُجُ العَرُو
سُ؟ فَقَد طالَ حَبْسُها
قَد دَنا الصُّبْحُ أو بَدَا
وَهْيَ لَم يُقْضَ لُبْسُها
خَرَجَتْ كالمهاةِ في
لَيْلَةٍ غابَ نَحْسُها
بَينَ خَمْسٍ كَواعِبٍ
أَكرَمُ الجِنْسِ جِنْسُها
ومن شعره فيها كذلك تلك الأبيات الرقيقة الرشيقة التى تسيل عذوبة وظَرْفا:
خَبَّرُوني أَنَّ سَلْمَى
خَرَجَتْ يومَ الـمُصَلَّى
فَإِذا طَيْرٌ مَلِيحٌ
فَوْقَ غُصْنٍ يَتَفَلّى
قُلتُ: مَن يَعرِفُ سلمى؟
قال: «ها» ثُمَّ تَعَلَّى
قُلتُ: يا طَيْرُ، ادنُ مِنّي
قال: «ها» ثُمَّ تَدَلّى
قُلتُ: هَل أَبْصَرْتَ سلمى؟
قال: «لا» ثُمَّ تَوَلَّى
فَنَكَا في القَلْبِ كَلْمًا
باطِنًا ثُمَّ تَعَلَّى
ومن شعره أيضا ما نظمه فى الخمر. ويذكر مؤرخو الأدب العربى أنه أول من خصص أشعارا مستقلة لبنت الكَرْم بعدما كان الحديث عنها يأتى فى مقدمات القصائد أو فى تضاعيفها ضمن مواضيع متعددة. ومن خمرياته الأبيات التالية:
اصْدَعْ نَجِيَّ الهمومِ بِالطَّرَبِ
وَانْعَمْ على الدَّهْرِ بِابْنَةِ العِنَبِ
وَاسْتَقبِلِ العَيْشَ في غَضارَتِهِ
لا تَقْفُ مِنهُ آثارَ مُعْتَقِبِ
مِن قَهْوَةٍ زانَها تَقادُمُها
فَهْيَ عَجُوزٌ تَعْلُو على الحِقَبِ
أَشْهَى إِلى الشَّرْبِ يَومَ جَلْوَتَها
مِنَ الفتاةِ الكريمةِ النَّسَبِ
فَقَد تَجَلَّتْ وَرَقَّ جَوْهَرُها
حَتّى تَبَدَّت في مَنْظَرٍ عَجَبِ
فَهْيَ، بِغَيرِ المِزاجِ، مِن شَرَرٍ
وَهْيَ، لَدَى المزْجِ، سائِلُ الذَّهَبِ
كَأَنَّها في زُجَاجِها قَبَسٌ
تَذْكُو ضِياءً في عينِ مُرْتَقِبِ
في فِتيَةٍ مِن بَني أُمَيَّةَ أَهْــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِ المجدِ وَالمأثراتِ وَالـحَسَبِ
ما في الوَرَى مِثلُهُم وَلا فيهِمُو
مِثلي وَلا مُنْتَمٍ لِمِثْلِ أَبي
وهناك كلام كثير عن زندقته ومجونه لا تميل نفسى ولا يقتنع عقلى بمعظم ما رُوِىَ منه. فعلى سبيل التمثيل نقرأ فى «الأغانى» مثلا ما يلى: «ذكرتْ جاريةٌ أنه واقعـها يوما وهو سكران، فلما تنحى عنها آذنه المؤذن بالصلاة، فحلف ألا يصلي بالناس غيرُها، فخرجت متلثمةً فصَلَّتْ بالناس». وأنا، فى واقع الأمر، لا يمكن أن أصدق كلمة واحدة من ذلك الخبر، إذ لا يعقل أن تؤم الجارية الناس وهى متلثمة فلا يعرف المصلون مَنِ الإمام الذى يصلى بهم، وبخاصة فى حضور الخليفة. وهذا لو سلمنا جدلا بأن الوليد يمكن أن يقدم على مثل ذلك التصرف، وهو ما لا يمكن أن يكون حتى لو قبلنا كل ما يُرْوَى عنه من إلحاد وزندقة، إذ هناك ضوابط تحكم تصرفات الساسة فى كل عصر مهما كانت عقيدتهم التى يحتفظون بها لأنفسهم. وكان ذلك العصر قريب عهد بعصر المبعث، فكان للدين قدسيته فى نفوس الجماهير، ولا يستطيع أى حاكم بالغا ما بلغ طغيانه أن يكسر هذه القدسية بمثل تلك البساطة الخرقاء المتهورة. وهبنا قَبِلْنا أن تؤم جارية بهذا الشكل المسلمين فى أهم جوامع العالم الإسلامى آنذاك لكونه الجامع الذى يصلى فيه الخليفة ذاته بشحمه ولحمه، فكيف يا ترى استطاعت تلك الجارية أن تغير صوتها وهيئتها وحركاتها وتخفى بروز صدرها وأردافها بحيث يحسب المصلون وراءها أنها رجل لا امرأة؟ وهبها استطاعت ذلك، أفكانت فقيهة قرارية تعرف أحكام صلاة الجماعة بكل تفاصيلها بحيث لا تأتى تصرفا يريب المصلين ويدفعهم إلى مجادلتها والاحتكاك بها مما من شأنه أن يثير فتنة فى المسجد على الفور كما يقع فى مثل تلك الأحوال؟ ثم إن إمامة امرأة للرجال فى الصلاة قد انتظرت أكثر من أربعة عشر قرنا، واستلزمت تدخل دهاة المستشرقين والمبشرين والحاخامات ورجال المخابرات الأوربية والأمريكية وتجهيز عتاة المنحرفين والمنحرفات من أبناء المسلمين وبناتهم المرتبطين والمرتبطات بدوائر الاستعمار الغربى، ومع هذا استفز الأمر العالم الإسلامى وهاجه هياجا من أقصاه إلى أقصاه. فكيف نصدق بالله ما رواه الأصفهانى فى هذا الموضوع بما عُرِف عنه من خفة وطيش ومجون؟ وهذا من جهة المنطق العام دون الدخول فى علم الرجال والرجوع إلى أحداث التاريخ ومقابلة ما كتبه الأصفهانى بما كتبه غيره، وما إلى ذلك!
ومن ذلك أيضا قول الأصفهانى: «أخبرني الحسن بن علي الخفاف وعبد الباقي بن قانع قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثني مهدي بن سابق قال: حدثني سليمان بن غزوان مولى هشام قال: حدثني عمر القاري بن عيد قال: قال الوليد بن يزيد يوما: «لقد اشتقت إلى معبد». فوجه البريد إلى المدينة فأتى بمعبد، وأمر الوليد ببركةٍ قد هُيِّئَتْ له فمُلِئَتْ بالخمر والماء، وأُتِيَ بمعبد، فأمر به، فأُجْلِس والبركة بينهما، وبينهما ستر قد أُرْخِي، فقال له: غنني يا معبد:
لَهْفِي على فتيةٍ ذَلَّ الزمانُ لهم
فما أصابهمو إلا بما شاؤوا
ما زال يعدو عليهم رَيْبُ دَهْرِهِمُو
حتى تَفَانَوْا، ورَيْبُ الدهر عَدَّاءُ
أَبْكَى فراقُهمو عيني وأَرَّقَها
إن التفرق للأحباب بكَّاءُ
فغناه إياه، فرفع الوليد الستر ونزع ملاءةً مطيبةً كانت عليه وقذف نفسه في تلك البركة، فنهل منها نهلةً، ثم أُتِيَ بأثوابٍ غيرها، وتلَقَوَّهْ بالمجامر والطيب. ثم قال: غَنِّنى:
يا رَبْعُ، ما لك لا تجيب متيَّما
قد عاج نحوك زائرا ومسلِّما؟
جادَتْكَ كُلُّ سحابةٍ هَطَّالَةٍ
حتى تُرَى عن زهرةٍ متبسِّما
فغناه، فدعا له بخمسة عشر ألف دينارٍ فصبها بين يديه، ثم قال: انصرف إلى أهلك، واكتم ما رأيتَ». فبالله من أين يمكن الحصول على خمر تملأ بركة؟ وكيف تقبل نفسه أن يشرب منها بعدما تلوثت بجسده وشَعْره وسوأتيه وقدميه مهما كان من حرصه على نظافته الشخصية؟ ثم بالله كيف يطلب من معبد كتمان ما رأى، وهو الخليع الذى لا يبالى كلام الناس طبقا لما صوروه لنا؟ وما معنى أن يطلب منه هذا الطلب، وكل الحاشية تعرف ذلك وتراه رأى العين؟ وهل يعقل أن تهفو نفسه لسماع معبد فيرسل إليه فيستدعيه من المدينة على بعد آلاف الأميال لكى يقضى معه مجلسا غنائيا واحدا ثم يطلب منه أن يعود من حيث أتى؟
ومما يقوله صاحب «الأغانى» أيضا: «أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: وجدت في كتاب عن عبيد الله بن سعيد الزهري عن عمر عن أبيه قال: خرج الوليد بن يزيد، وكان من أصحابه على شراب، فقيل له: إن اليوم الجمعة، فقال: والله لأخطبنهم اليوم بشعر. فصعد المنبر فخطب فقال:
الحمد لله وليِّ الحمدِ
أحمده في يُسْرِنا والجهْدِ
وهو الذي في الكَرْب أستعينُ
وهو الذي ليس له قرينُ
أشهد في الدنيا وما سواها
ألاّ إله غيرُه إلها
ما إنْ له في خَلْقِه شريكُ
قد خضعتْ لملكه الملوكُ
أشهد أن الدين دين أحمدِ
فليس مَنْ خَالَفَه بمهتدي
وأنه رسول ربِّ العرشِ
القادرِ الفَرْدِ الشديدِ البطشِ
أرسله في خلقه نذيرا
وبالكتاب واعظا بشيرا
ليُظْهِر اللهُ بذاك الدينا
وقد جُعِلْنا قبلُ مشركينا
من يطع اللهَ فقد أصابا
أو يَعْصِه أو الرسولَ خابا
ثم القُرَانُ والهُدَى السبيلُ
قد بَقِيَا لَمَّا مَضَى الرسولُ
كأنه لما بَقِى لَدَيْكُمو
حيٌّ صحيحٌ لا يزال فِيكُمو
إنكم، مِنْ بَعْدُ، إِنْ تَزِلُّوا
عن قصده أو نهجه تَضِلُّوا
لا تتركُنْ نصحي، فإني ناصِحُ
إن الطريق، فاعْلَمُنَّ، واضِحُ
من يَتَّقِ اللهَ يجدْ غِبَّ التُّقَى
يوم الحساب صائرًا إلى الهُدَى
إن التُّقَى أفضل شيءٍ في العملْ
أرى جِمَاع البِرِّ فيه قد دخلْ
خافوا الجحيم، إخوتي، لعلكُمْ
يوم اللقاء تعرفوا ما سَرَّكُمْ
قد قيل في الأمثال لو علمتمْ
فانتفعوا بذاك إن عقلتمْ:
ما يزرعِ الزارعُ يوما يحصدُهْ
وما يقدّمْ من صلاح يحمَدُهْ
فاستغفروا ربكم وتوبوا
فالموت منكم، فاعلموا، قريبُ
ثم نزل». ترى هل يمكن أن يقتنع الإنسان بأن خليفة المسلمين، بالغا ما بلغ فسقه وتهتكه، يمكن أن يجهل أن هذا هو يوم الجمعة، الذى لا بد أن يشهد الصلاة فيه مع رعيته ويخطب فيهم؟ فكيف لم يبال الوليد مع ذلك وراح يشرب، ولم يتنبه إلا بعدما قيل له ذلك؟ ولنفترض أنه فعلا تجاهل هذا وعَبَّ من الشراب عَبًّا على هذا النحو فكيف عَقَل ما قيل له عن ذلك اليوم؟ هل السكران يمكن أن يتنبه إلى أن هناك فى ذلك اليوم صلاة وأنه لا بد أن يحضرها مع الناس ويكون رده أنه سوف يخطبهم شعرا؟ إن هذا لبكلام المجان وتصرفاتهم أشبه. ونحن هنا لسنا فى موقف مجون بل فى موقف سكر وغياب عن الوعى والفهم، فكيف وعى الوليد كل هذا؟ بل كيف لم يحاول أحد ممن معه أن ينبهه إلى مغبة ما يفعل وخطره على مركزه كخليفة للمسلمين؟ بل كيف لم يتنبه المصلون إلى سكره وفقدانه الوعى وهو يصعد إلى المنبر؟ ودَعُونا من كل ذلك، وتعالَوْا نتساءل: هل يمكن السكرانَ أن ينظم شعرا؟ وأن ينظم شعرا مرتجلا؟ وأن يكون الشعر الذى يرتجله وهو فوق المنبر، والوجوه مشرئبةٌ نحوه، والعيون مُتْئِرَةٌ نظرَها فيه، شعرا دينيا منظما يتناول المعانى التى يتناولها الخطباء يوم الجمعة فلا تتفكك روابط الكلام فى يديه، ودعنا من أن يخطر للوليد هذا الكلام الذى تسيل منه التقوى سيلانا؟ وهل السكران يمكنه الوقوف على المنبر دون أن يتلعثم فى الكلام ويترنح ويسقط كما يحدث مع السكارى؟ ومنذ متى كان الوليد، السكير العربيد الفاسق الماجن المتهتك المتمرد حسبما يصفونه، يستطيع أن يقول شعرا دينيا، فضلا عن أن يقوله ارتجالا، والعيون تحاصره تعد عليه أنفاسه؟ ثم أليس من الغريب، وقد بدأ الأمر كله مجونا فى مجون، ألا يزل لسان الوليد السكران ببيت أو لفظ ماجن طوال القصيدة؟ يا له من سكران عاقل تقى نقى وقور عالم بما ينبغى أن تكون عليه خطبة الجمعة وبما ينبغى أن يكون عليه تصرف المسلم، فضلا عن الخطيب، فى المسجد ذلك اليوم!
ولا ينبغى أبدا أن ننسى أن هذا الشعر لا يشبه فى شىءٍ شعر الوليد لا فى روحه ولا فى لغته، فضلا عن أن الموضوع ليس من اهتمامه أصلا. كذلك من المستغرب جدا أن يخاطب الوليد الناس، وهو الخليفة الأموى المتغطرس السكران، بقوله: «يا إخوتى». ثم هل يمكن أن يقدم الوليد على هذه الفعلة التى لم يفعلها أحد من قبل ولا من بعد، فيتلقاها المصلون ببرود ولا يحدث فى المسجد لغط وإنكار أو على الأقل: استغراب وأخذ ورد، وبخاصة أن الخطبة الشعرية المزعومة قد خلت من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكانت خطبة واحدة متصلة لا خطبتين يجلس بينهما الخطيب؟ وأخيرا، وليس آخرا، كيف مرت هذه الفعلة الشنعاء فلم يذكرها أحد من المؤرخين ولا العلماء الموثوقين؟ ألم يجد التاريخ أحدا يسجلها سوى الأصفهانى؟ بل إن الخطبة قد مرت دون أن تحظى بكلمة يعلق بها أحد المصلين الذين شاهدوا هذه الواقعة العجيبة. وهو أمر شاذ لا يدخل العقل أيضا. وقد توقف د. شوقى ضيف، لدن ترجمته للوليد فى كتابه: «العصر الإسلامى»، بشأن تلك الخطبة فقال ما معناه أنها لو صحت لكان الوليد هو رائد استخدام المزدوجات فى النظم التعليمى. ولا ريب أن لاستعمال الأستاذ الدكتور كلمة «لو» فى هذا السياق مغزاه الواضح. ألا وهو أنه لا يطمئن إلى صحة الواقعة.
وفى «الأغانى» كذلك: «دعا الوليد بن يزيد ذات ليلة بمصحف، فلما فتحه وافق ورقةً فيها: «واستفتحوا وخابَ كلُّ جبارٍ عنيدٍ * مِنْ ورائه جهنمُ ويُسْقَى من ماءٍ صديدٍ»، فقال: أسجعًا سجعًا! ثم أخذ القوس والنبل فرماه حتى مزقه، ثم قال:
أَتُوعِدُ كلَّ جبار عنيدٍ؟
فها أنا ذاك جبارٌ عنيدُ
إذا لاقيتَ ربَّك يومَ حشرٍ
فقل لله: مزقني الوليدُ
والعجيب أن يُنْتَظَر منا التصديق بأن الوليد استغرب ما فى القرآن من فواصل فقال مستنكرا: «أسجا سحعا؟»، وكأنه يرى الفواصل فى القرآن لأول مرة. ثم إن الرواية لم تقل لنا لماذا استدعى بالمصحف تلك الليلة ما دام لا يؤمن به وينظر إليه بهذه العين المبغضة. وهناك رواية أخرى تقول إنه أحضر المصحف ليستفتح به، وفى رواية ثالثة: ليتفاءل به. ولكن أليس من الغريب جدا أن يستفتح أويتفاءل بالقرآن من هو كافرٌ به مُتَحَدٍّ لآياته لا يصدق ما تقول؟ إن الكافر بالقرآن المتحدى لآياته لا يمكن أن يفكر فى الالتجاء إليه كى يقرر أمره الذى التاث عليه ولا يدرى كيف يتصرف بشأنه، إذ إن الاستفتاح يدل، بالعكس من ذلك، على أن صاحبه رجل مؤمن بالقرآن وبالله، الذى أنزل هذا القرآن. فكيف يصوب إليه السهم ويعلن إلحاده وكفره؟ ثم كيف يقال إنه حين استفتح بالقرآن ظهرت له تلك الآية الكريمة؟ يا لها من مصادفة عجيبة! ثم هل كانت الآية تملأ الصفحة كلها؟ بطبيعة الحال هناك آيات أخرى فى الصفحة، فكيف تركت الرواية كل تلك الآيات، وذكرت هذه فقط؟ كذلك فللوليد أبيات يفتخر فيها، ضمن مفاخر متعددة، بالنبى عليه الصلاة والسلام فيقول:
نَبِيُّ الهُدَى خالي، وَمَن يَكُ خالُهُ
نَبِيَّ الهُدى يَعْلُ الوَرَى في الـمَفَاخِرِ
ترى كيف يفاخر بانتسابه للنبى عليه السلام ويسميه: «نبى الهدى»، وفى ذات الوقت يعلن كفره بالقرآن، الذى نزل عليه ويكذّب بيوم الحشر ويتحدى الله ويجاهر بالإلحاد والتجبر على هذا النحو المفزع؟ ومما له دلالته هنا أن الوليد قد سمى ابنين من أبنائه بـ«مؤمن» و«أمة الله». فهل هذا صنيع ملحد يكفر بالله ولا يقر بربوبيته، وبخاصة أنه لا يوجد فى أسلافه من كان له هذا الاسم أو ذاك كيما يقال إنه قد سمى ابنيه بذلك إحياء لذكراه أو ذكراها لا إيمانا بالله؟ كما يبدو من غير المعقول أن يقدم الوليد على فعلة تمزيق المصحف الشنعاء، ولا تذكر الرواية رد فعل الحاضرين على تلك الفعلة؟ اللهم إلا إذا لم يكن أحد حاضرا تلك الشنعة، وفى هذه الحالة سوف يبرز على الفور السؤال التالى: فمن روى الحكاية إذن؟ وماذا كان تعليقه يا ترى؟ إن أمرا كهذا لا يمكن أن يمر بهذه البساطة وكأنه عطسة عطسها أحدهم. بل إن العطسة لتستخرج التشميت ممن يسمعها. فهل ضَرْب الوليد المصحف بالسهام أقل شأنا من عطسة؟
وبالمثل لا نستطيع أن نكفّ أنفسنا عن استغراب رَمْىِ الوليد للنبى فى الأبيات التالية بأنه قد زيف زورًا الوحى والقرآن وزعم أن هناك يوما آخر وحسابا وثوابا وعقابا فى الوقت الذى رأيناه يعلن افتخاره بالنبى الكريم. فهل يمكن أن يفتخر برجل يعلن هو نفسه أنه دجال كذوب يأتى بالقرآن وينسبه إلى الله باطلا وافتراء؟ بل هل يمكن أن يعلن كفره بذلك الرسول الذى يحكم هو أمة كاملة باسمه وبسببه؟ ألم يكن يخشى الفضائح والخزى والتمرد عليه من رجاله أو من رعيته؟ أنا لا أتكلم الآن عن الإيمان بل عن السياسة. فهل كان الوليد أحمق أخطل إلى هذا الحد؟ وهل كانت مثل تلك الأبيات تمر على المسلمين وقتذاك مرور الكرام دون أن تخلف وراءها ضجة بل عواصف وأعاصير وزلازل وبراكين؟ من الممكن بطبيعة الحال أن يكون الحاكم ملحدا فيما بينه وبين نفسه، لكن أن يعلن هذا على الملإ، وفى زمن مبكر من تاريخ الإسلام على هذه الشاكلة، فهذا ما لا يعقله العاقلون ولا المجانين! وهذه هى الأبيات المذكورة:
تلعَّبَ بالخلائق هاشميٌ
بلا وحيٍ أتاه ولا كتابِ
أتُوعِدُني الحسابَ، ولست أدري
أحقٌّ ما تقول من الحسابِ؟
فقُلْ لله: يمنعني طعامي
وقل لله: يمنعني شرابي
وفوق هذا كله فإن الوليد يتفق مع النبى من جهة جدته لأبيه فى الانتساب إلى هاشم، فكيف لا يجد، فى التهكم بالنبى والسخرية من الوحى، إلا لقب «الهاشمى»، ذلك اللقب الذى يجمع بينهما؟ ويعلق نشوان الحميرى فى «الحور العين» على البيت الأخير قائلا: «إن هذا البيت لبُجَيْر بن عبد الله بن عامر بن سلمة القشيري في شعره الذي رثى به هشام بن مغيرة المخزومي (يقصد رثاءه له عقب مقتله فى غزوة بدر)، إلا أن الوليد قلب البيت فجعل عروضه ضربا، وضربه عروضا. وهذا قول بجير:
تحيي بالسلامة أُمُّ بكر؟
وهل لكَ بعد رهطكَ من سلامِ؟
ذَرِينِي أصطبحْ يا بَكْرُ. إني
رأيت الموت نَقَّبَ عن هشامِ
ونقَّب عن أبيك، وكان قَرْمًا
من الفتيان شرَّاب المدامِ
فوَدَّ بنو المغيرة لو فَدَوْهُ
بألفٍ من رجالٍ أو سَوَامِ
وودَّ بنو المغيرة لو فدَوْهُ
بألفِ مدجَّجٍ وبألفِ رامِ
وكائِنْ بالطَّوِىِّ طَوِىِّ بدرٍ
من الفتيان والخيل الجِسَامِ
وكائِنْ بالطوىِّ طوىِّ بدرٍ
من الأحسان والقوم الكرامِ
وكائن بالطوى طوى بدرٍ
من الشِّيزَى تُكَلَّل بالسَّنَامِ
أيُوعِدُنا ابن كبشةَ أنْ سنحيا؟
وكيف حياةُ أصداءٍ وَهَامِ؟
أيعجز أن يردَّ الموت عني
ويُحْيِيني إذا بَلِيَتْ عظامي؟
ألا مَنْ مُبْلِغُ الرحمنِ عني
بأني مفطرٌ شهرَ الصيامِ؟
فقُلْ لله: يمنعني شرابي
وقل لله: يمنعني طعامي
وكان المشركون يسمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ابن كبشة، وابن أبي كبشة. وكان أبو كبشة رجلاً من خزاعة مخالفا لقريش في عبادة الأوثان، وكان يعبد الشِّعْرَى العَبُور. وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه بقوله: «وأنه هو رب الشعرى»، أي رب هذا النجم الذي يُعْبَد مِنْ دُونِه. وأبو كبشة جد جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمه، وأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأم وهب بن عبد مناف كبشة بنت أبي كبشة الخزاعي».
على أننى أشك فى أن يكون بجير قد قال فى أبياته:
ألا مَنْ مُبْلِغ الرحمن عني
بأني مفطرٌ شهرَ الصيامِ؟
إذ متى كان المشركون يتطاولون على الله سبحانه؟ لقد كانوا يعبدون الأوثان يتقربون بها إلى الله، لكنهم لم يكونوا كافرين به عز وجل. ثم لماذا يتحدى بجير شعيرة الصيام بالذات، وليس لها علاقة بغزوة بدر ولا أثارت لدى المشركين عند فرضها على المسلمين أى رد فعل، وبخاصة أنهم لم يكونوا يساكنون النبى والمسلمين المدينة حتى يمكن أن يكون لهم رد فعل على ما يتمسك به المسلمون من أوامر دينهم ونواهيه؟ ولو كانوا يريدون السخرية بشعيرة من شعائر المسلمين لقد كانوا يستطيعون أن يسخروا من الصلاة، التى كان المسلمون يؤدونها منذ كانوا فى مكة. لكنهم لم يفعلوا، فكيف يسخرون من الصيام، الذى لم يكن قد شُرِع بعد فى الفترة المكية؟ بل كيف يسخرون منه، وكانوا يسكنون مكة على مبعدة أكثر من أربعمائة كيلومتر من المدينة حيث يمارسه المسلمون حين شُرِع؟ ولا ينبغى أن يغيب عن بالنا أن الصوم عبادة سالبة، فهى امتناع عن الطعام، فلا تثير أحدا لأن أحدا لا يشاهد الصوم على عكس الصلاة مثلا، إذ يشاهد الآخرون المسلمين وهم يؤدونها قائمين راكعين ساجدين قارئين جالسين على نحو لم يكونوا يعرفونه من قبل. ثم هل طالب النبى المشركين بصوم رمضان حتى يعلنوا أنهم لن يصوموا؟ إن المشكلة مع الكفار أنهم غير مؤمنين أصلا بالإسلام لا بهذه الشعيرة وحدها. وهذا كله من شأنه أن يدفعنا إلى التريث عن تصديق كل ما جاء فى بعض تلك الحكايات دون تمعن وتمحيص.