عنْ أبي عبدِ اللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ رضيَ اللَّهُ عنه قال : شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ ، فَقُلْنَا : أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا ؟ فَقَالَ :قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ في جْعلُ فِيهَا ، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ , فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن ، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ ، ما يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لا يخافُ إِلاَّ الله والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » رواه البخاري .
إطلالة على الحديث : الحديث النبوي الّذي أدعو لتأمله أمة محمد صلى الله عليه وسلم له شأن , وأيّ شأن ! عند من عقله وعرف كيف يوظفه في مكانه الصحيح ويستثمره في حياته أمثل استثمار بحيث يدرك مراد النبي صلى الله عليه وسلم ويخضع مراده ليلتقي مع مراد رسول صلى الله عليه وسلم وهنا مكن الخير كله , يتلقّى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى من أصحابه الكرام تحمل بين كلماتها همّاً يطوون عليه صدورهم صابرين , فقريش بجبروتها وطغيانها تصب جام غضبها على المسلمين تنكيلاً وتعذيباً وحصاراً , فلم يجدوا ملاذاً لهم إلاّ أن يرفعوا شكوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم , طالبين منه أن يستنصر لهم ويدعوا لهم . سمع الحبيب ما قالوا وردّ عليهم بكلمات تقف في أعلى قمة التوجيه الأخلاقي والاجتماعي , كلمات تشحذ عزيمة القوم وتمدهم بالقدرة على الثبات في وجه فراعنة الأرض في ذلك الوقت , كلمات تسرّبت إلى قلوبهم فملأتها نوراً قدسياً وأمدتها بطاقات هائلة جعلت القوم أطواداً شامخة يستهينون بكل ما قد يتعرّضون له من ألوان الضيق والشدّة والعذاب . عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمق ذاكرة التاريخ ليقدّم لهم أرقى وأروع الأمثلة ,بل قمة في الصبر والثبات. الواقعة التي قدّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يتعرّض له المؤمن من صنوف التنكيل والتعذيب ليفتن عن دينه ويطفئ ومضة الّنور الّتي تسرّبت إلى قلبه وهو قد عايشها بكل ذرّة من ذرّات كيانه , ولم يجد سبيلاً إلى ذلك من حيث أمدته بطاقات غير معهودة في عالم البشر فاستهان بكل عذاب وألم . بل يجد فيه لوناً من الغبطة والفرح يخفى على أولئك الطواغيت . فماذا تقول في رجل يقسم بالسيف نصفين وهو في حفرة لترحل روحه إلى بارئها , ثم ينزع لحمه عن عظمه بوسائل مرعبة , أمشاط الحديد , وما أدراك ما هي تلك الأمشاط ؟ على كلّ ليس من الصعب أن نتصوّر لها شكلاً ما , ولكنها وسيلة تعذيب . لم نعهد لها مثيلاً في عصرنا رغم التفنن الهائل في وسائل التعذيب في الزنزانات السوداء المنتشرة في كلّ مكان من عالمنا الراقي حضارياً كما يزعمون . وعلى سبيل المثال ما تسرّب من وسائل التعذيب في معتقل غوانتنامو في الولايات المتحدة الأمريكية أذكر بعضاً منها على سبيل الاستئناس , لنقارن بين ما كان في الماضي البعيد الّذي يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم , الكي بالنار والصدمات الكهربائية , وربط المتعقل وتقييده وهو ممدد على الأرض منكفئ على وجهه ويصب الماء البارد عليه بغزارة , أو جعل الماء البارد يقطر فوق رأسه في منطقة محددة ولفترة طويلة , واطفاء أعقاب السجائر على مناطق حرجة في الجسم كالأذن , والمخرجين .. هذا فقط للإشارة وهناك الكثير مما لا يتسع المجال للحديث عنه . وراوي هذا الحديث سيدنا خبّاب رضي الله عنه قاسى ألواناً من العذاب على يد الجلاّدين من طواغيت قريش , وهاك طرفاً من ذلك : أنقله لك بأمانة من كتاب رجال حول الرسول للعلامة خالد محمد خالد رحمة الله عليه حيث يقول : سمع خبّاب رضي الله عنه ورفاقه تلكم الكلمات من النبي صلى الله عليه وسلم فزادتهم إصراراً على إيمانهم فقرّروا أن يري كل منهم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ما يحبا من تصميم وصبر وتضحية , وخاض خبّاب معركة الهول صابراً محتسباً صامداً فاستنجد القرشيون بأم أنمار سيدة خبّاب رضي الله عنه التي كان عبداً لها قبل أن تعتقه فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه . كانت تأخذ الحديد المحمّى الملتهب وتضعه فوق رأسه ونافوخه . وخبّاب يتلوّى من الألم . لكنه يكظم أنفاسه . حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاّديه . ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً والحديد المحمي فوق رأسه يلهبه ويشويه , طار قلبه صلى الله عليه وسلم رحمة وحناناً وأسى , ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخبّاب وأمثاله؟ لاشيء إلاّ أن يثبّته ويدعوا له , فرفع يديه صلى الله عليه وسلم إلى السماء , وقال : ( اللهم انصر خبّاباً . ) ويشاء الله تعالى وتصاب أم أنمار بالسعار التي اشتدّ عليها حتى صارت تعوي كالكلاب , ولاعلاج إلاّ أن يكوى رأسها بالحديد المحميّ بالنارفكانت توضع صفائح الحدية المحميّة ناراً على رأسها , وأجيبت الدعوة المباركة , وانتصر الله لعبده سيدنا خبّاب رضي الله عنه . بقي أن أدرج طائفة من الفوائد والتعليقات أختم بها هذه الإطلالة :
1- لاحرج من الشكوى إذا ألمّ بك ضيق أو أحدقت بك شدّة وأنت صابر محتسب ترفها إلى من يرجى عونه كما فعل أصاب النبي صلى الله عليه وسلّم . ولا ننس أنهم قدوة الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
2- حسن التوجيه وشحذ العزيمة ممن يرفع إليه شكوى جرياً على هدي النبي صلى الله عليه وسلم . بما يعين على الثبات في وجه التحديات .
3- تجذر ثقافة التعذيب في المجموعة البشرية مما يشير إلى عمقها الزمني وليست وليدة أيامنا هذه .
4- لابد من بزوغ فجر الحق ورسوخه وسطوع شمسه مهما طالت عهود الظلم :والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لايخاف إلا الله والذئب على غنمه.
5- لاتعجل في طلب الثمرة قبل أوانها فبعد حين لايطول تجدها بين يديك .(ولكنكم تستعجلون)
آمل أن تكون هذه الإطلالة على الحديث نافعة لكل من يطلب العلم , كما آمل أن تكون لوناً من التوجيه لأبناء أمتي فيما يمرون به من الظروف الصعبة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ