بسم الله الرّحمن الرّحيم
ثلاثية الفلاح: الدّعاء والتّوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب
د. نظام الدّين إبراهيم أوغلو
باحث أكاديمي تركماني ـ تركيا
مقدمة
قبل أن أدخل إلى موضوع البحث أودّ أن أبيّن أنّه هناك بعض العوامل التي قد تؤثر على نفسية الإنسان وتمنعه من الأخذ بالأسباب سواء كانت تخص حياته الشخصية أو عبادته أو تقدمه ونجاحه في الحياة، ومن هذه العوامل: 1ـ الكسل، ويعني عدم الرغبة في العمل أو الحركة أو الإنجاز، ويحب إنجاز الأعمال الفائقة بأقل كلفة وتعب. ويترافق الكسل اليأس. 2ـ اليأس، أي عدم الثقة بالنفس وبالآخرين والانطواء والابتعاد عن الآخرين في وقت يكتنفه فيه قلق وضجر وخوف. 3ـ الخوف، وهو غريزة فطرية كامنة في النفس الإنسانية، تنمو لظروف ملائمة، وتخبو بتلقي العلاج المناسب في الوقت المناسب. أما عن أنواع الخوف كأن يكون كالتعرض لهجوم عدو أو الخوف الناتج عن مرض أو نقص في الموارد الغذائية والمائية أو التعرض للحيوانات المفترسة أو الخوف من الفشل أو عدم النجاح، أو الخوف من رد فعل صديق أو صاحب عمل....وهكذا. وأساس الخوف يكمن في موت وهلاك النفس الإنسانية. وعلينا أنّ نعلم بأن الموت محتوم علينا والأجل أت في الوقت والمكان الذي يحددهما الله تعالى. ولا يُمكن الخلاص منه ولو كنّا في بروجٍ مشيدة، ولو كنا مؤمنين بالله وباليوم الأخر وبقدره خيره وشره. ولو علم الإنسان أنه لا يموت وينتهي حياته إلى الأبد، بل ينتقل من عالم الدنيا إلى عالم الأخرة. ونحن كمؤمنين نؤمن بأن أروحنا ينتقل إلى الجنة ويكون مع الأنبياء والصّديقين فلا خوف ولا عذاب فيها. ولو أدركنا كل هذه، وعلمنا أن الإسلام يأمرنا بالعمل الصالح إلى يوم القيامة فيسهل علينا معرفة الدّواء الشافي للتعقل في الحيطة بأخذ الأسباب عند كل عمل ثم التوكل والدعاء إلى الله تعالى. نحن كمسلمين نطبق القول القائل "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لأخرتك كانك تموت غداً" قيل أنه قول الرسول (ص) أو الإمام علي (رض).
علمًا أنّ داء الخوف موجود عند معظم بني الإنسان، ونستثني المؤمنين الصّالحين طبعًا والذين ذكرهم الله في القرآن الكريم في آيات كثيرة وهؤلاء يعرفون الله حقّ قدره ويعرفون أنّ (رأس الحكمة مخافة الله) لذا فلا يخافون الموت ولا يخافون لومة لائم ويلتمسون كافة أسباب الوسيلة طاعةً لأوامر الله تعالى. ونقرأ ذلك الحروب التي خاضها الرسول وكيف أنهم أخذوا التدابير اللاّزمة في الحروب، وقصة الخليفة عمر (رض) عندما أراد أن يدخل بلاد الشام وفي الحدود سمع بانتشار الطاعون فيها فضرب خيمته في أطراف الشام إلى إنتهاء وباء الطاعون وأمثلة كثيرة.
فعند الإيمان بالله حق اليقين وبرسوله وبما أنزل تزول كل هذه الأمراض عندنا، وبهدي القرآن يسهل علينا التمسك بالأسباب بشكل صحيح من أجل الوصول إلى الأهداف أو النّجاح في الحياة. والمؤمن الذي له إرادة قوية وإيمان قوي يعمل ويجتهد ويجاهد دون أن يخاف أو يتكاسل في كافة الأمور التي فيها بعض المخاطرات أو تكليف جهدي وبدني وعقلي أو أي نوع من الفداء والتضحية، لأنه يعلم أنه سنة الله في الأرض من أجل تحقيق أهداف سامية سواء على تخص شخصيته أو مجتمعه أو دولته. فالإنسان الذي لايستطيع من مواصلة شروط التمسك بالأسباب. ويتهرب منها ومن ميدان السعي والجهاد ينتهي نهايته بالخوف واليأس والخسران.
ونحن نجد الكفار يتخذون الأسباب كوسيلة للتقدم والإزدهار، كما نرى ذلك عند دول أوروبا. ونحن كمسلمين تركنا هذا العمل الجبار بعد المؤمرات الكثيفة على المسلمين وهزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وكان من الأفضل أن نكون قدوة حسنة لهم.
وبعد هذه المقدمة حول معرفتنا كيفية الإبتعاد عن داء الخوف وعدم موصلتنا لأسباب النجاح، بالإضافة إلى الخوف وطاعة أوامر الله تعالى فعلينا معرفة كيفية الأخذ بالأسباب ووسائل النجاح. وأدناه سوف نذكر أدناه الخطواط اللازمة لأجل الوصول إلى ثلاثية الفلاح والأهداف العالية من الحياة. وهي كالآتي:
1ـ الأخذ بالأسباب والتي تبدأ بالتّوبة إلى الله تعالى والإخلاص في النية ثم الاستعداد في الأخذ بالأسباب والتّخطيط من أجلها. 2ـ الدّعاء والتّوسل إلى الله تعالى. 3ـ التّوكل التّام على الله تعالى. وأخيرًا الصّبر على انتظار النّتيجة والرّضا بالنّتيجة وهو من قبيل التوكل، سواء كانت خيرًا أو شرًّا، لأننا لا نعرف مفهوم الخير أو الشر عند الله تعالى.
07.05.2007
1ـ الأخذ بالأسباب
أـ يبدأ بالتّوبة والإخلاص في النيّة
التوبة والنيّة الصّالحة اصطلاحان مهمان يقربان الإنسان خليل الرحمن ومن الأنبياء الكرام. أدناه أيات وأحاديث توضحان الموضوع بشكل واضح ولا يحتجان إلى توضيح: قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحًا) .(استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إليه) . قال الله تعالى (إن يعلم الله في قُلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا ما أخذ منكم ويغفر لكم) . وقال عليه الصلاة والسلام (والله إنّي لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّةً) رواه البخاري .(كُلّ ابن أدم خطاء وخيرُ الخطائين التّوّابون) رواه التّرمذي وابن ماجة .(إنّ الله يقبل توبة العبد مالم يُغرغر) رواه التّرمذي وأحمد وابن ماجة. وقال (ص) (إنّما الأعمال بالنّيات وإنّما لكلّ إمرءٍ ما نوى) رواه البخاري ومسلم.
ب ـ الاستعداد في الأخذ بالأسباب والتّخطيط من أجل تطبيقها
الأخذ بالأسباب هو هدى سيد المتوكلين على الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في يوم الهجرة وغيره، إذ عدم الأخذ بالأسباب قدح في التشريع، والاعتقاد في الأسباب قدح في التوحيد، وقد فسر العلماء التوكل فقالوا: ليكن عملك هنا ونظرك في السماء، وفي الحديث عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال (ص) : "أعقلها وتوكل " رواه الترمذي وحسنه الألباني، وأما عدم السعي فليس من التوكل في شيء، وإنما هو اتكال أو تواكل حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوكل على الله يحرص عليه الكبار والصغار والرجال والنساء، يحكى أن رجلاً دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فرأى غلامًا يطيل الصلاة، فلما فرغ قال له: ابن من أنت؟ فقال الغلام: أنا يتيم الأبوين، قال له الرجل: أما تتخذني أبًا لك ، قال الغلام: وهل إن جعت تطعمني؟ قال له: نعم ، قال: وهل إن عريت تكسوني؟ قال له: نعم ، قال: وهل إن مرضت تشفيني؟ قال: هذا ليس إليّ، قال: وهل إن مت تحييني، قال: هذا ليس إلى أحد من الخلق، قال: فخلني للذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، قال الرجل: آمنت بالله، من توكل على الله كفاه. وفي قصة الرجل الذي كان يعبد صنمًا في البحر، والتي نقلها ابن الجوزي عن عبد الواحد بن زيد دلالة على أن التوكل نعمة من الله يمتن بها على من يشاء من خلقه حتى وإن كان حديث العهد بالتدين، فهذا الرجل لما جمعوا له مالاً ودفعوه إليه، قال : سبحان الله دللتموني على طريق لم تسلكوه، إني كنت أعبد صنمًا في البحر فلم يضيعني فكيف بعد ما عرفته، وكأنه لما أسلم وجهه لله طرح المخلوقين من حساباته ، فغنيهم فقير، وكلهم ضعيف و كيف يتوكل ميت على ميت: (فتوكل على الحي الذي لا يموت و سبح بحمده).
والأخذ بالأسباب في فكر الشيخ الغزالي دين، وهو معنى يكرره الشيخ كثيرًا كلما عرض للحديث عن الهجرة أو للكلام عن تخلف المسلمين وتقدم غيرهم، لم يقل النبي "صلى الله عليه وسلم": إننا أوذينا وأُخرِجنا من ديارنا؛ فعناية الله ينبغي أن تلاحقنا، وحماية الله يجب أن تحوطنا، ولا حرج في بعض التقصير فإن الله سيجبر الكسر ويسد النقص... إلى آخر هذا الكلام، لم يقل النبي هذا، إنما استنفد كل وسيلة بشرية يمكن أن تؤخذ، فلم يترك ثغرة، ولا أبقى في خطته مكانًا يكمله الذكاء والفطنة.
ومع أن محمد بن عبد الله (عليه السلام) أولى الناس بتوفيق الله ورعايته، وأجدر الخلق بنصره وعنايته؛ فإن ذلك لا يغني عن إتقان التخطيط وإحكام الوسائل وسد الثغرات شيئًا مذكورًا.
ومن هنا جعل "صلى الله عليه وسلم" يفكر في الاختباء في الغار وفي تضليل أعدائه؛ فكان يتجه جنوبًا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال، وأخذ راحلتين قويتين مستريحتين حتى تقويا على وعثاء السفر وطول الطريق. وهذا دليل مدرَّب ليعرف ما هنالك من وجوه الطرق والأماكن التي يمكن السير فيها بعيدًا عن أعين الأعداء، وهذا علي بن أبي طالب ينام مكانه ليضلل الكافرين، وذلك يسير بالأغنام وراءهما يمحو آثار المسير، ولكي يكون على دراية تامة باتجاهات العدو ونواياه تأتيه الأخبار عن طريق راعي أبي بكر، كما أتت بعض الأغذية عن طريق بنت أبي بكر... هل بقي من الأسباب شيء لم يؤخذ، أو من الوسائل لم يستنفد، أو من الثغرات لم يُسد؟ كلا كلا..
إن منطق الإسلام هو احترام قانون السببية؛ لأن الله تعالى لا ينصر المفرطين ولو كانوا مؤمنين، بل ينتقم من المقصرين المفرطين كما ينتقم من الظالمين المعتدين، "وإذا تكاسلت عن أداء ما عليك وأنت قادر، فكيف ترجو من الله أن يساعدك وأنت لم تساعد نفسك (كيف ينتظر المرء من الله أن يقدم له كل شيء وهو لم يقدم له شيئًا؟!
وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سببًا، ولا أحكم خطة، ولا سد ثغرة.
بعض الآيات والأحاديث على الاستعداد والأخذ بالأسباب: قال الله تعالى (واعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل) . (وليأخذوا أسلحتهم … وليأخذوا حذرهم واسلحتهم) . (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيه سوف يُرى) . (من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنُحييّنه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسنِ ما كانوا يعملون) .(إنّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات وآقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة لهم أجرهم عند ربّهم) .
2ـ الدّعاء والتّوسل (الاستشفاع)
التوسل الحقيقي المشروع: هو الذي يكون عن طريق طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بفعل الطاعات واجتناب المحرمات، وعن طريق التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة وسؤاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فهذا هو الطريق الموصل إلى رحمة الله ومرضاته.
أما التوسل الغير المشروع: يكون عن طريق الفزع إلى قبور الموتى والطواف حولها، والترامي على أعتابها وتقديم النذور لأصحابها، لقضاء الحاجات وتفريج الكربات فليس توسلا مشروعا بل هذا هو الشرك والكفر بعينه والعياذ بالله.
وأصل التوسل: هو التقرب إلى الله تعالى بطاعته وعبادته، واتباع أنبيائه ورسله وبكل ما يحبه الله ويرضاه. وقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيلهِ لعلكم تُفلحون) .
التوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته من الصالحين. فيجوز للإنسان أن يطلب من الصالحين الأحياء الحاضرين أن يدعوا الله له أن يغفر له، أو أن يشفي مريضًا، ولكن الأولى ترك ذلك. والدليل على جواز هذا الأمر: أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا وانقطع المطر استسقى بالعباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ فَيُسْقَوْن ) قال: فيسقون. رواه البخاري. ومراده بقوله (نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا ) أي: بدعائه.
آيات وأحاديث الدّعاء والتّوسل (الاستشفاع):
1ـ (ويستجيبُ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات ويزيدهم مِن فضلهِ، والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، ولوبسط الله الرّزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن يُنزّل بقدر ما يشاء إنّه بعباده خبيرٌ بصير) .
2ـ (وقال ربّكم أدعوني استجب لكم) .
3ـ (فاستجابَ لهُم رَبّهُم أنّي لا أُضيعُ عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أُنثى) .
4ـ (وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يُرشدون) .
5ـ (أمَّنْ يُجيبُ المضطرّ إذا دعاهُ ويكشف السّوءَ ويجعلكم خُلفاءَ الأرضِ) .
6ـ (لاخير في كثيرٍ من نجواهم إلاّ مَنْ أمرَ بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النّاسِ ومن يفعل ذلك إبتغاء مرضاتِ الله فسوفَ نُؤتيهِ أجرًا عظيمًا)
7ـ (إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) رواه مسلم وأحمد.
8ـ (أعظم الدّعاء، دعاء غائب لغائب) رواه مسلم وغيرهم.
9ـ (من تقرّب إليَّ شبرًا تقرّبتُ إليه ذراعًا، ومن أتاني يمشي أتيتهُ هرولةً) رواه البخاري.
10ـ (إتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ) متفق عليه.
11ـ (نعم سلاح المؤمن الصّبر والدّعاء) رواه الدّيلمي عن ابن عبّاس.
12ـ (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة) رواه بخاري..
13ـ (أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدّعاء) رواه مسلم وأبو داود والنّسائي.
3ـ التّوكل على الله
تعريف التوكل في اللغة والاصطلاح:
التوكل من مادة (وكل) يقال: وكل بالله وتوكل عليه واتكل: استسلم له. ووكّل إليه الأمر وَكْلاً ووكولاً: سلمه وتركه. وورجل وُكلة إذا كان يكل أمره إلى الناس. ورجل وَكل ووَكُلَة و تُكَلَة أي: عاجز يكل أمره إلى غيره ويتكل عليه. والوكيل الذي يقوم بأمر موكله. وفسر بعضهم الوكيل بالكفيل كالراغب الاصفهاني. والتوكل إظهار العجز والاعتماد على غيرك، والاسم التكلان. قال أبو السعادات: يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان إذا اعتمدت عليه، ووكّل فلان فلانًا إذا استكفاه أمره ثقةً بكفايته، أو عجزًا عن القيام بأمر نفسه.
وفي الاصطلاح الشرعي: اختلفت عبارات السلف في تعريف التوكل على الله تبعًا لتفسيره تارة بأسبابه و دواعيه وتارة بدرجاته وتارة بلازمه وتارة بثمارته وغير ذلك من متعلقاته. وسبب هذا الاختلاف أن التوكل من أحوال القلوب وأعمالها وهي صعبة أن تحد بحد أو تحصر بلفظ. وقال ابن عباس: التوكل هو الثقة بالله. وصدق التوكل أن تثق في الله وفيما عند الله فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك.
التوكل والتواكل:
قد تنخرق الأسباب للمتوكلين على الله، فالنار صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم، والبحر الذي هو مكمن الخوف صار سبب نجاة موسى و من آمن معه ، ولكن لا يصح ترك الأخذ بالأسباب بزعم التوكل كما لا ينبغي التعويل على الحول والطول أو الركون إلى الأسباب، فخالق الأسباب قادر على تعطليها، وشبيه بما حدث من نبى الله موسى ما كان من رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الهجرة، عندما قال أبو بكرـ رضي الله عنه: لو نظر أحد المشركين تحت قدميه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بالك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا "، وهذا الذي عناه سبحانه بقوله: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا) .
نماذج من توكل الأنبياء
لقد عرض القرآن الكريم نماذج عظيمة مذهلة لتوكل الأنبياء المعظمين، والرسل المكرمين، عليهم أفضل الصلاة و أزكى التسليم ، وهم يواجهون أقوامهم السائرين في غيهم، التائهين في ضلالهم وفجورهم ، فهذا هود عليه الصلاة والسلام نذر نفسه للرسالة التي حمل إياها، والأمانة التي كلف بها، فانبرى لقومه داعيًا ناصحًا، ومحذرًا لهم ومشفقًا، فما وجد منهم غير الكفر والفجور والسخرية، والسب الغليظ، بل إنهم ليزعمون أن آلهتهم وأوثانهم قد أصابته بشيء من عقابها، وأذاقته لعنة من لعناتها: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) .
وهنا يصرخ بهم هود صرخته المدوية، صرخة المؤمن الواثق بربه، المتوكل عليه سبحانه، الساخر من حمقهم وغفلتهم، المتحدي لهم ولأوثانهم أجمعين: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
وأما إبراهيم عليه الصلاة و السلام فقد وقف أمام عناد أبيه وقومه، وقفة المؤمن الواثق المطمئن، فأخذ يحاج قومه باللين والرفق والحجة والبرهان، فما وجد إلا رؤوسًا غادرتها عقولها، وقلوبًا تمكن منها الشرك أيما تمكن، وتعلق أولئك الوثنيون بأصنامهم وأمجادهم التي تهاوت واحدًا واحدًا ؛ تحت مطارق إبراهيم، لا شلت يمينه، عندها أجمع المشركون أمرهم، ومكروا مكرهم، وأوقدوا نارًا عظيمة، جمعوا حطبها شهرًا، وأشعلوا فتيلها دهرًا، وحملوا الخليل على المنجنيق مقيدًا، ليقذفوه من بعيد، واجتمع الملأ ينظرون، والناس يشتمون، فلما أيقن إبراهيم من إلقاءه في النار، ما أصابه الجزع، ولا اعتراه خوف، وإنما قال كلمته العظيمة: حسبي الله ونعم الوكيل.
كلمة لا يقولها إلا المؤمنون، ولا يلهج بها إلا المتوكلون الصادقون ، فلما توكل على الله كفاه و لما صدق مع الله أنقذه ونجاه (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ). وأما إمام المتوكلين وقائد الغر المحجلين محمد عليه الصلاة و السلام فسيرته ملأى بأعاجيب من توكله، وعظيم يقينه بالله تعالى، فقد خرج مهاجرًا مع أبي بكر رضي الله عنه ، فدخلا الغار مختبئين وحام المشركون حول باب الغار، ووقفوا على بابه تكاد قلوبهم تميز من الغيظ على محمد وصاحبه، فخشي الصديق رضي الله عنه على رسول الله أن يُمس بأذى فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فقال: بكل هدوء واطمئنان، وبلغة المتوكل على ربه، المعتمد على مولاه: (لا تحزن إن الله معنا).
وفي حمراء الأسد، جمع المشركون جموعهم، وحشدوا حشودهم لقتال النبي وأصحابه، فخرج وأصحابه بكل شجاعة واقتدار، وبكل عزيمة وإصدار، لمواجهة الجموع المتربصة، والجنود المكتظة المزدحمة، متوكلين على الله وحده، طالبين المدد منه سبحانه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) . قال ابن عباس رضي الله عنه: حسبنا الله ونِعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد عليه السلام حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.
آيات وأحاديث التّوكل:
ويكون بعد العمل كما ذكرنا في قول (ص) في رجلٍ ترك ناقته ببابِ المسجد فسأله رسول الله عنها فقال: أطلقتها وتوكّلت على الله قال (ص) (اَعقلها وتوكل).
وآيات كثيرة منها قوله تعالى:
1ـ (وَمَن يَتوكّل عَلى الله فَهو حَسبهُ) .
2ـ ( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) .
3ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) .
4ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) .
5ـ بل إن الله تعالى جعل التوكل شرطًا لصحة الإيمان فقال سبحانه وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
6ـ وقال الحكيم موسى عليه السلام: ( فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) .
إقتران الصّبر بالتوكل والرّضا بقضاء الله هو من كمال الإيمان
آيات وأحاديث تدل على الصّبر والرّضا بالقضاء: ولايحتاج إلى توضيح أكثر فقال الله تعالى (إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حساب) . (أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا) . (وجزاهم بما صبروا جنّةً وحريرًا) .(ربّنا إفرغْ علينا صبرًا وتوّفنا مسلمين) .(ياأيها الذين آمنوا إصبروا وصابروا ورابطوا) . (وتواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة) . (ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الذي يملك نفسه عند الغصب) متفق عليه. أنّ رجلاً قال للنبي (ص): أوصني قال: (لاتغضب. فردّد مرارًا قال لاتغضب) رواه البخاري. (إنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى) متفق عليه. ومن الأحاديث الصّحيحة (من صبر ظفر). (الصّبر نصف الأيمان). (الصّبر مفتاح الفرج). (الصوم نصف الصّبر). (انتظار الفرج بالصبر عبادة)، وكذلك المثل يقول (حيلة من لا حيلة له الصبر). فالإنسان لا يعرف مغزى وحقيقة أكثر الأمور لذا فاحتمال وقوعه في الخطأ كثيرة: فيقول تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). وقول الله تعالى (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).
ختام
وأخيرًا يمكن القول بأنّ الإنسان لو عمل بنية صادقة وبقرار وإرادة جادة وتمسك بأسباب النجاح، سوف لن يخرج أمامه أيّة مصاعب أبدًا. فيهون عليه كل الأمور، وشعبنا شعب مسلم يعرف كل ذلك جيدًا ويؤمن بآيات الله تعالى ولو لم ييأس ليسر الله له كافة الأمور عاجلاً أم آجلاً، فهذا وعد من الله تعالى والله لا يخلف وعده، وقد رأينا ذلك في كافة حروب المسلمين مع العدو، كيف أنهم كانوا فئة قليلة غلبوا فئة كثيرة! وكيف أنهم نجو من مكر الأعداء وظلمهم وأصبحوا أعزاء بإذن الله. فالتّمسك بالأسباب ثمّ التوكل على الله يعني عدم الخوف وزيادة قوة ونشاط المسلمين وعدم اليأس عند الفشل لأنّ الله تعالى سيكون معهم دائمًا ماداموا هم مع الله.
فإذا أعطينا مثالاً بسيطًا على ذلك ليتبين مغزى الموضوع: فالشّعوب المسلمة كالأسد إذا لم يتحرك الأسد وأصبح كسلانًا سيصبح خاملاً ولا يستطيع أن يتحرك بعد ذلك حتى إذا أتاه أرنبًا فلا يستطيع أن يصيده ويأكله، ولكن إذا تحرّك الأسد وأخرج زئيره سيخاف منه جميع الحيوانات ويصطادهم بسرعة لأنّه ملك الغابة. وذلك المسلمين إذا تحرّكوا وعملوا بعمل الشّريعة الإسلامية سوف يخاف منهم كلّ العالم ويهون له كافة الأمور، لأنّه (ملك الدّنيا وخليفة الله في الأرض)، أمّا إذا نام وخاف ولم يتحرك حتى الذّبابة التي تقف على وجهه لا يستطيع أن يُحرّكه، فالتحرك والجهاد والاجتهاد والعبادات والتّوكل والدّعاء من أسباب النّصر والفلاح والنجاح، سواء في الدّنيا أو الأخرة.
والتّوكل الحقيقي وهو تفويض ما لاطاقة للعبد فيه بعد العمل وهناك قاعدة فقهية يقول (العبد يُدبّر والله يُقدّر).
هنا نقف وقفة، فإنّ الإنسان الذي يمدّه الله بالأسباب وما عليه إلاّ أن يستعمل هذه الأسباب فيرد الله رجائه لأنّه لا تزال معه الأسباب ولكن إذا ما أصبح مضطرًا وقد اَعيته الأسباب فله أن يلجأ إلى الله لينصره لأنّ السّبب قد امتنع عنه، والمقدمات لم تعد في استطاعة البشر، فوقف موقفه الضّارع من الله، كما نرى في موقف الرسول (ص) بعد تفني الأسباب ودعائه للظالمين ( اللّهم أشكو إليك ضِعف قوّتي وقلّت حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين أنت ربّ المُستضعفين وأنت ربّي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدّوٍ ملكته أمري إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن رحمتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
وفي هذا الدّعاء نجد كلّ مقومات الإيمان باليقين، لأنّ الله الذي أرسله لن يخذله ولن يذلّه أبدًا. ودعاءه أيضًا يشمل أن رسول الله قد استنفد له الأسباب، وأنّه لم يجد إلاّ عدوًّا وإلاّ بعيدًا فلا بُدّ إذًا أن تتدخل السّماء فسمع الله ضِراعهُ وأراد أن يُبيّن له أنّ جفاء الأرض لا يعني أنّ السّماء تخلّت عنك، ولكنّني سأعوضك عن جفاء الأرض بحفاوة السّماء وعن جفاء عالم النّاس بعالم الملاء الأعلى وأريك من آياتي وقدرتي ومن أسراري في كوني ما يُعطيك طاقةً وشُحنةً إنّ الله الذي أراك هذهِ الأيات قادرة على أن ينصرك ولن يتخلّى عنك. ولكنّ الله تركك للأسباب أولاً ولتجتهد فيها حتى تكون أسوة لأمتك في ألاّ تدع الأسباب وترفع أيديها إلى السّماء.
والله الموفق
نظام الدين إبراهيم أوغلو ـ تركيا