الكتابة الصوتية والعروضية
ما ترك الأول للآخر شيئاً. فالعلماء العرب القدامى بحثوا هذه الظاهرة المهمة منذ أيام الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله في علم العروض. لا كما يذكر محمود: "... سعى اللغويون منذ القرن السادس عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر لإيجاد أبجدية صوتية خالية من العيوب بقدر الإمكان، وتلبي حاجات الدارسين لتحليل مختلف اللغات واللهجات، حتى أقرت الجمعية الدولية للدراسات الصوتية آخر أبجدية صوتية دولية، بعد تعديلات مختلفة عليها( )".
وها هو القلقشندي( ) يناقش هذه الظاهرة بشكل مستفيض في باب الهجاء. حيث يقول:
"المصطلح الرسمي: وهو ما اصطلح عليه الصحابة رضوان الله عليهم في كتابة المصحف عند جمع القرآن الكريم، على ما كتبه زيد بن ثابت رضي الله عنه، ويسمى الاصطلاح السلفي أيضاً.
المصطلح العروضي: هو ما اصطلح عليه أهل العَرُوض في تقطيع الشعر، واعتمادهم في ذلك على ما يقع في السمع دون المعنى، إذ المعتدّ به في صنعة العَرُوض إنما هو اللفظ؛ لأنهم يريدون به عدد الحروف التي يقوم بها الوزن متحركاً وساكناً، فيكتبون التنوين نوناً، ولا يُراعون حذفها في الوقف، ويكتبون الحرف المدغم بحرفين، ويحذفون اللام وغيره مما يدغم في الحرف الذي بعده: كالرحمن، والذاهب، والضارب، ويعتمدون في الحروف على أجزاء التفعيل، فقد تتقطع الكلمة بحسب ما يقع من تبيين الأجزاء، كما في قول الشاعر:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً وَيَأْتِيْكَ بِالأَخبارِ مَنْ لم تُزَوِّدِ
فيكتبون على هذه الصورة:
سَتُبْدي، لَكَلأْيْيَا، مُمَاكُنْ، تَجَاهِلَنْ وَيَأْتِي، كَبلأَخْبَارِ، مَلَّمْ، تُزَوِّدِي
واعلم أن الأصل في الكتابة مطابقة المنطوق المفهومَ، وقد يزيدون في وزن الكلمة ما ليس في وزنها، ليفصلوا بالزيادة بينه وبين المشبِه له، وينقصون من الكلمة عما هو في وزنها استخفافاً واستغناءً بما أبقى عما انتقص، إذا كان فيه دليل على ما يحذفون، كما أن العرب تتصرف في الكلمة بالزيادة والنقصان، ويحذفون ما لا يتم الكلام في الحقيقة إلا به استخفافاً وإيجازاً، إذا عرف المخاطب ما يقصدون".
ولقد جارى اللغويون العرب في العصر الحديث، علماء اللغة في أوربا في الحديث عن هذه الظاهرة، التي تسمى الكتابة الصوتية. وها هو محمود يثير هذا السؤال( ):
"هل هناك كتابة صوتية وأخرى غير صوتية؟ والجواب: نعم.
هناك كتابة صوتية تحاول أن ترمز إلى الأصوات المنطوقة في اللغة. وهناك كتابة تصويرية ترمز إلى المعنى الذي قد تعبر عنه الأصوات المنطوقة، وذلك بأن تحاول نقل هذا المعنى بالرسم.
وقد عرف الإنسان الكتابة التصويرية أولا، ثم توصل إلى الكتابة الصوتية التي أخذت عنده شكل الكتابة المقطعية أول الأمر، ثم عرف الإنسان بعد ذلك الكتابة الهجائية العادية، والفرق بين النوعين واضح، وهو أن الرمز المكتوب يشير إلى صوتين فأكثر في الكتابة المقطعية، في حين يشير الرمز المكتوب في الكتابة الهجائية العادية إلى صوت واحد في الأغلب الأعم، لكن النوعين يمكننا أن نسميهما كتابة صوتية، في مقابل النوع الأول الذي نسميه كتابة تصويرية؛ لأنه يصور المعنى ولا يرمز إلى الأصوات.
الكتابة العادية: هي الأبجديات (الألفبائيات) التي عرفتها البشرية بعد أن طوَّر الفينيقيون الكتابة المصرية المقطعية إلى الكتابة الأبجدية الهجائية (أبجد هوز حطي كلمن...الخ).
ومن أمثلتها الآن الأبجدية أو(الألفبائية) العربية، والإنجليزية ، والفرنسية، والتركية...إلخ.
أما الكتابة الصوتية: في اصطلاحنا الآن فهي تلك الأبجديات أو الألفبائيات التي اخترعها، أو انتقاها بعض اللغويين للتخلص من العيوب الظاهرة في الأبجديات العادية؛ وللاستعانة بها في دراساتهم وتحليلاتهم اللغوية.
لقد لوحظ أن جميع الأبجديات أو (الألفبائيات) المستعملة في نظم الكتابة العادية أبجديات معيبة وناقصة، ولذا فكر علماء اللغة في وضع أبجديات أطلق عليها الأبجديات الصوتية، هدفها تجنب عيوب الأبجديات المستعملة وتسجيل الكلام تسجيلاً صوتياً، أو على حد تعبير دي سوسير تمثيل الأصوات المنطوقة بكل دقة( )".
لقد ذكر القلقشندي هذه القضايا في حديثه عن المصطلح الرسمي، أو ما يعرف بالكتابة العادية، والمصطلح العروضي أو ما يعرف بالكتابة الصوتية، والمصطلح العام تحت باب الهجاء. ولمن أراد المزيد، فعليه بالرجوع إلى ذلك المصدر، ومقارنة ذلك مع ما ذكره محمود( ) وغيره في هذا المجال.
ولقد علّق بعض محكمي هذا البحث على هذه القضية بقوله: "الكتابة العروضية والصوتية تعنيان بالمنطوق. والكتابة العروضية كتابة تعليمية، ومجالها الشعر، ووحدتها التفعيلة، والكتابة الصوتية مجالها أوسع، ووحدتها المقطع، وهي أبجدية صوتية عالمية، تكتب بها جميع اللغات وأصواتها، فضلاً عما بينهما من فروق في كتابة المصوِّتات الطويلة (حروف المد)، والقصيرة (الحركات)". وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي، إلا أننا نرى أن الفكرة في كتابة هذه اللغات كتابة صوتية إنما هي مستوحاة من فكرة العروض التي تميل إلى تقطيع البيت الشعري إلى وحدات تعتمد على التفعيلة، وهذه الوحدات أو التفعيلة تعتمد كذلك على المقاطع لمعرفة بداية التفعيلة ونهايتها، وخاصة أن التفعيلة أحياناً تكون مجزوءة صغيرة كالمقطع، فالعبرة في الفكرة لا في نظام العمل هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، الكتابة العروضية هي الأسبق، ومن ثم ارتكزت الكتابة الصوتية عليها في كثير من الأمور وخاصة التقطيع المقطعي؛ لأنها في النتيجة تعتمد على التقسيم كما هو في الطريقة العروضية التي تعلم تقطيع البيت الشعري إلى كلمات ومقاطع كي يسهل تعلمها، وفائدتها أنها تسهل تعليم اللغة وبخاصة الكلمات الطويلة التي يصعب نطقها من قبل المتعلمين، وتقطعها إلى مقاطع صغيرة ليسهل نطق الأصوات والكلمات نطقاً صحيحاً.