(11)
"كارولين" ذات الشعر الأشقر
بدأ التحقيق يوم الاثنين 20/5/ مبكراً، كانوا أربعة وحوش، يرأسهم اليهودي أبو ربيع، الذي لم يكن سؤاله في ذلك اليوم عن السلاح، ولا عن المجموعات المسلحة، ولا عن التنظيم، كان السؤال في ذلك اليوم عن مندوبة الصليب الأحمر الدولي "كارولين"، كان السؤال المتكرر: ماذا قدمت لك "كارولين" من خدمات؟
وكان جوابي الذي لم يتغير، هي غريبة، وتشعر أننا أهلها، هي صديقتنا، تأتي إلى بيتنا، تأكل طعامنا، وتنام وسط أطفالي الخمسة، وتحتضنهم، وتجد معهم نفسها.
ظل المحقق يسأل عن العلاقة مع "كارولين"، بل تجاوز في سؤاله الخدمات التي قدمتها، وصار يسأل ساخراً عن العلاقة الخاصة مع صاحبة الشعر الأشقر! ماذا فعلت معها؟
ولما ظل جوابي كما هو، قام أبو ربيع ووضع الكيس على رأسي، ورفع الكلبشات حتى منتصف ذارعي، وفجأة وجدت نفسي مطروحاً أرضاً، لا أستطيع تحريك ساقي المقيدتين بقبضات المحقققين، وشعرت بثقل جسد اليهودي أبو ربيع فوق صدري، وهو يطبق بالبشكير المبلل على أنفاسي، حاولت الإفلات من قبضته القوية التي كتمت أنفاسي، حاولت حتى شعرت أنني أموت، فشهقت، ونفضت رأسي بقوة، وتمكنت من أخذ جرعة هواء.
وقتها شعرت أن جسدي وجسد "أبو عنتر" يضغطان على الكلبشة التي تضغط على ذراعي، وقتها شعرت بالوجع، وشعرت أن حذاء أحدهم يضغط بقوة أسفل الخصيتين.
استجمع أبو ربيع قوته ثانية، ووضع البشكير المبلل على أنفي، وضغط بكلتا يديه القويتين، فحبس أنفاسي ثانية، حتى إذا أوشكت على الموت، وانتهى أمري، شهقت شهقة الموت، وتفضت رأسي، واختطفت جرعة هواء.
لم أكن أحس بالحذاء الذي يضغط أسفل الخصيتين إلا في لحظة التقاط الأنفاس، كان همي الوحيد في تلك اللحظات اختطاف جرعة هواء، أحرك رأسي بكل قوة، وأحاول فتح فمي متحدياً قوة ذراعي أبو ربيع، كي أجرع لهوة هواء، قبل أن يعاود الضغط ثانية، لم أكن أشعر بالوجع الشديد الذي يسري في جسدي جراء الضغط على أسفل الخصيتين إلا في اللحظة التي أنجح فيها بالتقاط الأنفاس.
الوقت لحظات التعذيب لا يقاس بالساعة، ولا يحسب بالدقائق، الوقت لحظات التعذيب يقاس بالقدرة على التحمل، وكان قراري تحمل العذاب، فالمحقق لا يريدني ميتاً، يريد أن يصل بي إلى حافة الموت كما قال، ليعيدني إلى الحياة ثانية.
عندما ذبلت قدرتي، وأوشكت على الموت، رفع المحققون الكيس عن رأسي، وأقعدوني، وأعادوا علي السؤال نفسه، ماذا قدمت لك "كارولين" من خدمات؟
وظل جوابي كما هو لا يتغير، حتى إذا ارتاح المحققون، وأراحوا جسدي من العذاب، انقضوا ثانية بالأسلوب السابق نفسه.
أقعدوني ستة مرات، أو سبعة مرات، لا أذكر، ولكنني أذكر تلك اللحظات ما بين جولة تعذيب وأخرى، حين كان يجلس اليهودي أبو ربيع على الطاولة، ويحرك رجليه، ويغني: كارولين كارولين، فيرد عليه اليهودي المدعو أبو رشدي، وهو يلامس شعر رأسه مع حركة انسياب حتى كتفيه، ويغني: أم الشعر الأشقر.
كنت مغمساً بالوجع، ولا تهمني رقصاتهم، وضحكاتهم التي أدركت هدفها، فقد كنت مهموماً بالحزن على مندوبة الصليب الأحمر "كارولين"، وماذا فعل معها هؤلاء المتوحشون؟
لقد كان منسوب الوطنية والإنسانية لدي في تلك الفترة مرتفعاً جداً، حتى إذا جاء المساء، كنت أجلس في المسلخ، أنظر من ثقب الكيس، مفتشاً عن صديقي أبو شاويش، وأدق له على الأرض، كي تحدث بالإشارات دون أن يفهم أينا الآخر.
يتبع
(12)
وللتاريخ ذاكرةٌ، وللصليب الأحمر زيارةٌ
اليوم الذي لم تشبهه الأيام تحت التعذيب كان يوم الثلاثاء 21/5، ففي ذلك اليوم زارني ثلاثة من مندوبي الصليب الأحمر، ولما كنت أعرف بعضهم قبل السجن، فقد كان اللقاء حنوناً إلى حد بكاء مندوبة الصليب الأحمر، فقد رأت بأم أعينها إنساناً لا يشبه الذي عرفته من قبل!
سألتها عن صديقتها "كاولين" قبل أن تسألني عن أحوالي، فقالت: لقد سافرت في اليوم التالي لاعتقالك مباشرة.
ثم سألت مندوبي الصليب الأحمر: ماذا جرى للأسرى في السجون الإسرائيلية، فقالوا: الأمس تم الإفراج عن 1200 أسير ضمن صفقة تبادل الأسرى.
لم أشعر بعد ذلك بما يجري حولي، طرت إلى عالم آخر من الفرح، كان قلبي يرقص طرباً، لقد صرت حمامة تطوف شوارع فلسطين، وترش عطر الحرية، فقد كنت من القلائل الذين يعرفون أن في ذلك اليوم سيتم تنفيذ صفقة تبادل الأسرى.
كان موعد تنفيذ صفقة تبادل الأسرى سري جداً، فقد وصلني من عمان بتاريخ 30/4/1985 رسالتان عاجلتان، وسريتان جداً، كان يتوجب أن تصل الرسالة الأولى إلى سجن عسقلان، وأن تصل الرسالة الثانية إلى سجن نفحة، والرسالتان تحتويان على تفاصيل صفقة تبادل الأسرى، التي كان يجب أن تتم يوم الاثنين 20/5/1985.
بعد تفكير طويل، ذهبت يوم الخميس 1/5/1985 إلى بيت المرأة الفاضلة أم رأفت النجار من خان يونس، وكانت تربطني بالعائلة علاقة طيبة، فأنا أستاذ لابنها وابنتها، وأحمل للأسرة تقديراً خاصاً، فأم رأفت لها أسيران، الأول في سجن نفحة، والثاني في سجن عسقلان، وكان يوم الجمعة موعد زيارة السجون، لقد أعطيتها الرسالتين، وأوصيتها بضرورة إيصالها للسجناء، وأكدت لها أن هاتين الرسالتين تختلفان عن كل الرسائل السابقة.
في مساء يوم الجمعة 2/5/ وقبل اعتقالي بأربعة أيام، اتصلت أم رأفت هاتفياً، وأكدت لي أن الأمانة قد وصلت لأصحابها.
ما أن غادر ممثلو الصليب الأحمر حتى كنت في المسلخ، والكيس في رأسي، ولكنني في هذه المرة لا أفتش عن ثقب الكيس، فقد آثرت أن أطلق العنان لخيالي، وأغمض عيني على نهر الدموع الذي راح يجري حتى تساقط على ثياب السجن.
في تلك اللحظة الشيقة أخذني السجان إلى غرفة التحقيق، وما أن رفع المحقق الكيس عن رأسي حتى شاهد الدموع، فهلل فرحاً، ورقص طرباً، وقال: فايز أبو شمالة يبكي، يا حرام، مسكين، وأضاف: خلص نفسك من العذاب، واعترف، وانتهى الأمر.
نظرت إلى المحقق باحتقار، ولم أجب عليه، لقد كنت أحلق بعيداً، لقد كنت خارج غرف التحقيق، في عالم الحرية والانتصار، وتركت للمحقق جسداً لا أشعر بما يلاقيه من عذاب.
يتبع
(13)
"كارولين" عاشقة فلسطين
ظل السؤال الذي يردده المحقق 22/5 هو: ماذا قدمت لكم "كارولين" من خدمة، وظل جوابي بعد أن تأكدت من سفرها إلى الخارج: لا شيء، فكيف أتهم فتاة أحبت الفلسطينيين، واقتنعت بعدالة قضيتهم؟ ماذا أقول عن عاشقة فتحت قلبها، واعترفت أمامنا بأنها قد وقعت في حب سجين سياسي فلسطيني، التقت به أثناء زيارتها للسجون الإسرائيلية، وهي تحرص على زيارة السجن الذي يتواجد فيه؛ كي تزوره، وتلتقي معه؟.
رغم أن الحب مشاعر إنسانية تفرض علينا احترامها، وعدم الطعن في مصداقيتها، وأحياناً تفرض علينا هذه المشاعر السامية أن نواسي العاشق، ونداري معه، إلا أنني سألت مندوبة الصليب الأحمر "كارولين": عن مصير هذا الحب؟ وما النتيجة التي تنتظرينها من حب سجين محكوم بالمؤبد؟
قالت والأمل يقفز من عينيها: قريباً سيتحرر الأسرى، ويمكن أن نتزوج، إلا إذا رأى فتيات فلسطينيات أجمل مني، وخطفن قلبه، وأضافت: هو الآن يراني أجمل فتاة على وجه الأرض؛ لأنه لا يرى نساء غيري، ولكن حين تنفتح أمامه مجالات الرؤيا، ربما يتغير!.
هذا الكلام العاقل الصادق قلته للأسير اللبناني سمير القنطار ـ الأسير الذي كان السبب في الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 2006 ـ قلت لسمير القنطار مطلع سنة 1992، في سجن نفحة الصحراوي: إن الحب في السجن حب غير مكتمل الأركان، إنه حبٌ فجٌ، لأنه حب يقوم على الشفقة من طرف والضعف من طرف آخر، ولما كان الحب كائناً حياً، يتنفس القناعة المشتركة، والإحساس المشترك، فإن تبدل الواقع كفيل بأن يقتل الحب، ويبدل المشاعر.
لم يصدق سمير القنطار حديثي في ذلك الوقت، فقد كان غارقاً في حب فتاة فلسطينية من عكا اسمها "كفاح كيال"، وكان قد وقع الحب بينهما بعد إضراب سجن نفحة عن الطعام الذي حدث في شهر 6/1991، لقد استمر الإضراب تسعة عشر يوماً، لم يدخل خلالها جوف الأسرى إلا الماء والملح، وبعد أن انتهى الإضراب، تم عزل الأسير سمير القنطار إلى سجن بئر السبع لمدة ستة أشهر، هنالك ترددت على زيارته فتاة فلسطينية من عكا اسمها كفاح كيال، لقد كانت الوحيدة التي تزوره كل أسبوعين مرة، حتى صارت جزءاً من أيامه.
حين عاد سمير القنطار إلى سجن نفحة، بادرني بالحديث عن سر يؤرقه، وعن مشاعر حب سكنت فؤاده تجاه كفاح كيال، الفتاة التي تحرص على زيارته، وهو حائر في مكاشفتها، أو طي صفحات قلبه على سطور الحب.
أوصيت سمير أن يكتم هذا الحب، وأن لا يتحدث لأي أسير غيري بهذا الشأن، ورويت له قصة مندوبة الصليب الأحمر "كارولين" التي عشقت أسيراً، وكانت من الذكاء بحيث أنها قدرت تبدل مشاعره في حالة تحرره من الأسر، ولكن اعتقالي قبل أيام من تحرر الأسرى، وسفرها إلى الخارج على عجل، قد أفسد عليها الحب.
أنا موقنٌ أن الحب مجنونٌ، إذا تلبس اثنين غم على الأعين، وفجر في صحراء الشوق بينهما نهراً دافقاً من الحنان، لا يكبحه عقل، ولا يردعه واقع مرير، وهذا ما حدث مع الأسير اللبناني سمير القنطار الذي كان يأتيني مباشرة بعد كل زيارة، ليحدثني عن حبه للفتاة، ويطفئ بالحديث لظى الشوق، كان يحدثني عن عشقه لكفاح الكيال، وعن تخوفه بأن يكون واهماً.
وقتها شجعته على أن يكتب لها رسالة سرية، يبثها حبه، وينتظر ردها في الزيارة القادمة، وذلك ما حصل، فقد ردت عليه بالإيجاب، وصار الحب بينهما صريحاً.
بعد فترة من الزمن، جاء سمير القنطار يستشيرني بالزواج من فتاته، خشية افتضاح أمر حبه، وقد شاركنا الاستشارة بعد فترة في هذا الشأن الأسير جبر وشاح، وكان قد عاد إلى سجن نفحة من عزل طويل في سجن بئر السبع، وقد استعد جبر وشاح أن يرسل أباه إلى عكا ليخطب الفتاة من أهلها، لصير بعد ذلك الحل الشرعي لمشكلة شاب درزي وفتاة مسلمة، لتبدأ مع إدارة السجن معركة كتب كتاب سجين محكوم بالمؤبد على فتاة خارج السجن.
وبعد التهديد باللجوء إلى المحكمة العليا، وافقت إدارة سجن نفحة على كتب الكتاب في حفل صغير داخل السجن تحضره العروسة والعريس وخمسة أفراد من خارج السجن، ويحضره خمسة سجناء، أبلغ أسماءهم سمير القنطار إلى الإدارة، وهم: جبر وشاح، وسليم الزريعي، ورياض الملاعبي، ومسعود الراعي أبو الصاعد، وفايز أبو شمالة.
لا أعرف كيف جرت أمور كتب الكتاب في سجن نفحة، فقبل يوم من عقد القران، تم ترحيلي إلى سجن عسقلان، مروراً بسجن الرملة، هنالك تابعت من خلال الصحافة العبرية، ومن خلال الإذاعة العبرية وقائع المظاهرات التي انطلقت في تل أبيب ضد هذا الزواج، فقد قادت المظاهرات "سميدار هرن" زوجة عالم الذرة الإسرائيلي، الذي قتل في العملية الاستشهادية التي نفذها سمير القنطار سنة 1979،
لقد قالت تلك المرأة للصحافة العبرية: بعد أن سمعت إطلاق النار، هربت مع طفلتي، واختفيت تحت الدرج، أنا وجارتنا، وبعد فترة من الزمن، دار الاشتباك بين الجيش وبين الخاطفين، فصرخت طفلتي، خفت أن يكتشف أمرنا، فحاولت أن أسكت طفلتي؛ وضعت يدي على فمها، ولم أدر أنني قد كتمت نفسها، وخنقتها بيدي حتى ماتت.
حتى اليوم أنا لا أعرف الأسباب التي حالت دون زواج سمير القنطار من كفاح الكيال، فقد تزوج سمير من الإعلامية اللبنانية زينب برجاوي سنة 2009، وكسبت بعد ذلك كفاح الكيال قضية خلع ضده في المحاكم الفلسطينية، وصار بينهما مناكفات منشورة عبر وسائل الإعلام.
يتبع
(14)
أنا وأبي وشهر رمضان في التحقيق
في ليل يوم الخميس الموافق 22/ 5/1985، رفع السجان عن رأسي الكيس، وأخذني حيث يتواجد الطعام، فأكلت، وأنا مستغرب من هذه الوجبة الليلية، لم أكن أعرف أن شهر رمضان قد جاء، وأن هذا وقت السحور، وأن ستة عشر يوماً قد مرت على وأنا تحت التعذيب لا أعرف ليلها من نهارها.
وكانت المفاجأة حين أخذني السجان مرة ثانية إلى مكان الطعام بعد شروق الشمس، ورفع الكيس عن رأسي، وفك قيودي، فأكلت؟
قلت في نفسي: ما أروع شهر رمضان في التحقيق! لقد أكلت في ذلك اليوم من رمضان حتى الضحى مرتين، إنه شهر رمضان الذي سيجلب المزيد من الوجبات، هذا شيء رائع، وأنا جائع، وأخوض معركة بجسدي الذي يجب أن يظل قوياً صامداً.
في ضحى ذلك اليوم كنت أجلس في المسلخ مقيداً، أرقب من ثقب الكيس ما يجري من حولي، دون أن يطلبني أحد للتحقيق، وهذا ما سمح لي أن أطفئ لمبة الدماغ، وأغمض عيني، بعض الوقت، لأصحو على دقات بالعصا على بلاط المسلخ، نظرت جهة الصوت، فجزعت، إنه والدي بشحمه ولحمه وبطوله وعرضه، إنه يدخل إلى غرفة التحقيق.
يا للهول، هل سيعذبونه؟ لقد توقعت أن أسمع صفعاً وضرباً وما شابه ذلك، كنت أرقب اللحظة، بينما الصمت يبسط ذراعيه على المكان لفترة من القلق.
كان منظري مفزعاً ومقززاً حين أدخلني السجان إلى غرفة التحقيق، كان أبي يجلس مهموماً على كرسي، فلما رآني، سأل عن أحوالي، وقال: إذا كان الاعتراف يخلصك من هذه الحالة، فاعترف فقط بما قمت به.
كان ردي السريع: أنا بخير يا مختار، ولا شيء عندي أعترف عليه.
لقد أوجعت كلماتي المحققين، فانهالوا علي ضرباً وصفعاً، وأخرجوني من الغرفة بسرعة.
لقد أوصلت الرسالة التي أريد، وأفشلت مخطط المحققين في التأثير السلبي على نفسي بتواجد أبي في غرف التحقيق.
سمعت بعد سنين أن والدي قد استدعى مجموعة من الوجهاء والمخاتير، وأبلغهم بأنه مطلوب للمخابرات في غزة، وطالبهم بعدم تركه وحيداً إن لم يرجع إليهم حتى المساء، ولما حاول البعض طمأنته، لأنه رجل كبير في السن، ومختار، وما شابه ذلك من كلام، قال لهم: ما أقل عقولكم! المخابرات الإسرائيلية التي حبست أحمد ياسين وهو مقعد، ستخجل من حبسي!!
وقد عرفت بعد عدة شهور أن والدي قد عاد إلى البيت في نفس اليوم، ليظل جسدي مقيداً في المسلخ، في الوقت الذي سافرت فيه روحي إلى مخيم خان يونس، فقد هزت رؤية أبي عواطفي، فسكنت مع نفسي لحظات من الوجد، لم أصح منها إلا حين جاء السجان، وأخذني إلى مكان الطعام، فأكلت وقت الظهيرة للمرة الثالثة.
بعد آذان المغرب، بدء السجان في إطعام الصائمين، كان يفك قيود أحد السجناء، ويأخذه لتناول طعام الإفطار، فإذا انتهى من الأكل، يضع القيود في يديه ثانية، ويجلسه في المسلخ، ليبدأ في فك قيود سجين آخر وهكذا، حتى أفطر بعض السجناء بعد منتصف الليل.
أما أنا، فلم يصلني الدور، لقد وضع السجان شريطاً لاصقاً على ظهري، وكتب عليه شيئاً ما، فصرت مميزاً عن باقي السجناء، وطويت بالجوع حتى ضحى يوم الجمعة الموافق 23/5، حين طلب المحقق من السجان أن يخرجني من المسلخ، لأجد نفسي مقيداً تحت ضوء الشمس في يوم قائظ، انتظر عربة الترحيلات، ورياح الخماسين تعصف من حولي.
يتبع
(15)
في سجن جنين غرفة نومٍ وسجائر
كنت معصوب العينيين ومقيداً من الخلف حين صعدت إلى عربة الترحيلات، وكان علي الانبطاح على بطني فوق أرضية العربة، وتحمل حرارة الجو في ذلك اليوم، وتحمل النار التي تشع من المحرك، وتلفح وجهي، كنت أحرك نفسي يميناً ويساراً قدر المستطاع، كي أخفف متفادياً للحريق الذيي يشتعل بجسدي، لقد اكتشفت في تلك اللحظة جسداً ملقى بجواري على أرضية العربة، فبادرته بذكر اسمي، وسألته: من أنت؟
قال: أنا جمال أبو عامر، فسألته: هل أنت ابن الأستاذ عامر أبو عامر، فأجاب: نعم، وانتهى الحديث بيننا، ولاسيما أن كلاً منا غارق في أوجاعه، وخائف من المجهول، لقد أشفقت عليه مثلما أشفقت على نفسي من هذه الرحلة الغامضة.
في هذا الجو الخانق المخيف لا أعرف أين أنزل المحققون جمال أبو عامر، ولكنني عرفت بعد ساعات طويلة من السفر أنني موجود في زنازين سجن جنين، شمال الضفة الغربية، وقد رفع السجان الكيس عن رأسي، وفك قيودي، وأعطاني بطانية ومكنسة، وقال لي: نظف هذا المرحاض، ستقيم هنا في هذا المكان.
كان عرض المرحاض متراً واحداً، وكان طوله مترين، وفيه حفرة لقضاء الحاجة، لم يكن فيه كرسي، وكان علي أن أنظفه جيداً طالما صار غرفة نومي الإجبارية، لقد قمت بفرد البطانية كي تغطي ثقب المرحاض، وتمددت بعد أن أغلق السجان الباب، وبعد أن أعطاني أربع سجائر، هي نصيبي اليومي، وأشعل لي إحداها، لقد كنت جائعاً وتعباً ومرهقاً وقلقاً، ولم أشعر بقذارة المكان بمقدار ما شعرت أنني بحاجة لأن أمدد ظهري، وأغيب عن الوجود في نوم عميق.
عند فجر يوم السبت 24/5 أيقظني السجان من النوم الهانئ، وطلب مني أخذ البطانية والخروج من المرحاض، ومرافقته حتى درج السجن، هنالك فتح بوابة مخزن صغير تحت الدرج، وطلب مني حشر نفسي في الداخل، ففعلت، وأغلق علي البوابة، لأجد نفسي في ظلام دامس مع مجموعة من الكراتين المغلقة، فقعدت علي كرتونه.
دقائق، كانت يدي تفتش في الكراتين، فعثرت فيها على علب سجائر، ودون تفكير، رحت أحشو جيوب ملابس السجن بعلب السجائر، وانتظرت قرابة ساعتين حين عاد السجان، وفتح بوابة المخزن، وأخذني إلى المرحاض ذاته ثانية، وطلب مني تنظيفه، فقد صار غرفة نومي كل الوقت الذي لا يقضي فيه المقيمين في زنازين سجن جنين حاجتهم.
ولما كان السجناء في زنازين سجن جنين يقضون حاجتهم في المرحاض مرتين في اليوم، فقد تكرر أخذي للمخزن ثانية بعد العصر، ولكنني في هذه المرة دخلت المخزن بعد أن طلبت من السجان أن يشعل لي سيجارة، فقد كنت مدمناً على التدخين في ذلك الوقت.
حين عاد السجان بعد ساعتين، وفتح باب المخزن، اندهش، وصرخ حين رأي غيمة من دخان السجائر تغطي المكان، فقال: يا مجنون، كيف لم تختنق في داخل المخزن.
في صباح يوم الأحد 25/ 5 بعد مبيت ليلتين في المرحاض، أدخلني السجان إلى غرفة فيها سجناء عرب، لقد أدركت من اللحظة الأولى أنها غرفة العصافير، غرفة للعملاء.
ملاحظة: جمال أبو عامر ( أبو الصادق) يسكن حي الأمل في خان يونس، كان محسوباً على تنظيم الجبهة الشعبية في ذلك الزمان، وهو اليوم من قيادي حركة حماس، أتمنى عليه أن يدخل صفحتي، ويضيف ما لديه من ذاكرة.
يتبع
(16)
عصافيرٌ في سجن جنين
كان صباح يوم الأحد 25/5 في سجن جنين عابساً، لقد شاهدت بأم عيني الإحباط واليأس الذي يغطي وجوه العصافير، أجساد متهاوية، عيون زائغة، ونفوس محطمة، وصمت يصفع وجه الأشياء في الغرفة، وكلٌ منهم غارق في هواجسه وأحزانه.
لقد أدركت من اللحظة الأولى أن كل هؤلاء الذين حولي هم عملاء، شوهت نفوسهم المخابرات الإسرائيلية، وأيقنت أن أمامي فرصة جيدة لتوصيل رسالتي للمحققين الإسرائيليين من خلالهم، والتأكيد لهم بأنني بريء من كل تهمة، وعليه قررت من البداية أن أضحك وأمزح وأتحدث معهم عن التحقيق، وعن غباء المحقق الذي يتهمني بما لا أعلم، وقررت أن أستغل كل لحظة متاحة للأكل والنوم استعدادا ًلقادم الأيام.
في الليل، تعمد أحد العصافير أن يوقظني من النوم بحجة الشخير، لقد تعمد أن يوقظني في اللحظة التي كان فيها بعضهم يسن السكاكين، فسألته: ما هذا؟ لماذا يسنون السكاكين؟
قال: في الغرفة أحد العملاء، سيتم التحقيق معه، فإن تبين أنه عميل، سيذبحونه!
لم يهزني سن السكاكين، كنت واثقاً من نفسي، ومن المخابرات الإسرائيلية التي تريدني سالماً، فعدت فوراً للنوم، ولم أبد أي اهتمام بما يجري من حولي.
كرر العميل محاولته ثانية، ولكن دون جدوى، لقد أدرك أنني غير مكترث لسن السكاكين، ولا ألتفت لحركات العملاء وهمساتهم المريبة.
في صباح اليوم التالي خرجت مع نزلاء الغرفة إلى باحة السجن، وكانت فرصة كي أحرك مفاصلي، وإشبع رغبتي بالحديث عن كل شيء ما عدا المقاومة، حتى جاء نزيل غرفة أخرى، تعرف علي، ورافقني في المشي، وفتح نقاشاً سياسياً، كان متحدثاً لبقاً، شجعني لمجاراته في الحديث في الشئون العامة التي لا علاقة لها بأي عمل مقاوم.
لقد عرف ذلك الشخص نفسه باسم "حمدي فراج"، لقد انتبهت للاسم، فهذا اسم كاتب في صحيفة الفجر الفلسطينية التي كانت تصدر من القدس في ذلك الزمان.
سألته: هل أنت الكاتب حمدي فراج؟ فقال: نعم، أنا هو!
بعد أن عدت إلى الغرفة بفترة قصيرة، فتح الباب ودخل السجين نفسه الذي سمى نفسه "حمدي فراج"، كان يبدو غاضباً، فاستقبلته بابتسامة، وأجلسته بجواري، وأنا فرح بلقاء إنسان مثقف، ووجه بشوش، ومحاور يحسن الحديث، ويتحدى السجان، ويشتم إسرائيل.
دقائق، وهمس ذلك الشخص في أذني: احذر، هذه الغرفة للعملاء، إياك أن تقع.
قلت له: لاشيء عندي كي أتحدث فيه، كل تهمتي هي الحديث في السياسة.
لم يعد ذلك الشخص لتحذيري، لقد عبر اليوم كله وكلانا نتحدث في الشئون الحياتية العامة، وفي السياسة، حتى صباح اليوم التالي؛ حين سمعت مكبر الصوت في السجن ينادي: حمدي فراج، حمدي فراج مطلوب للترحيل.
لقد حزنت حين رأيته يلملم أغراضه، ويستعد للرحيل، ويهمس في اذني: انتبه، كل من في الغرفة عملاء، خليك بطل، وإن كنت في حاجة لمساعدة، فقل لي قبل الترحيل.
قلت له بكل ثقة: ليس عندي أي شيء، كل ما لدي هو عدة رسائل سرية، وصلتني من عمان، وهي في مكان آمن في البيت.
بعد خروج المدعو "حمدي فراج" من الغرفة بدقائق، جاء السجان، ووضع القيود في يدي، وأخذني إلى غرفة كان ينتظرني فيها المحقق أبو ربيع، ومحقق آخر اسمه أبو مفيد، كانا مبتسمين فرحين، أما أنا، فقد سقط قلبي من المفاجأة، لقد وقعت من حيث لا احتسب.
يتبع