إلى شجرةٍ نسلوها من تربتها، فماتت، لكنها قبل أن تلفظ أنفاسها وضعت وليدها.

شجرة معمّرة شهدت رحيل الغزاة الواحد تلو الآخر، وبقيت منتصبةً شامخة وفيّةً لفلاح لا يعرف غير ريح تربتها. في ليلة قاسية العتمة اجتاحتها أسنان غولٍ فولاذية، فسقطت، تزرعُ نَفَسَها الأخير في التربة التي لا تعرف سواها. بعد أيام شقّ عود صغير طريّ سطح التربة وأشرق يانعاً من بين شفتيّ الشجرة المعمّرة الشهيدة، يحمل بألق وريقات خضراء صغيرة تعشّقتها ثلاث فراشات.. خضراء وسوداء وحمراء، رسمتها طفلة على كوفيّة الفلاّح البيضاء وطيّرتها.
رفرَفت وحلّقت فرحةً في فضاءٍ ممتدٍّ بين نهر وبحر، وراحت تضع على عتبة كلّ بيت مهدّم، قصفةً خضراء..
عادت البتلات إلى أمّها التربة، تنفَست ريح الأرض من جديد، وبدأت تُعلن عن نفسها..
أشجار تنمو وتكبر، تظلّل بأغصانها الوارفة ذاكرة الشجرة الأم الشهيدة، وما زالت النجوم ترفرف.!
ـ ـ
وإلى طفلٍ شاهد بعينيه الحزينتين المقهورتين أسنان جرّافة تدمّر بيته ودفاتره ولعبه. أصابعه النحيلة، كأنها سنابك جرّافة يغرزها بقوة في كومة دمار هي ما تبقّى من بيته.
اقتربتُ منه بحذر، سمعت همهمة.. ربما بكاء، ربما بحّة ناي حزينة، ربما غناء.! أصابعه مذعورة، لا تتوقف عن الحفر عميقاً في بقعة واحدة، فجأة، توقفت حركته، سحَبت أصابعه من قلب الركام نصف دمية.! رفعها إلى فوق.. فوق، وراح ينظر إليها بصمت، ودهشة.! صوّب نظرات عينيه نحوي، كأنّه سدّد بين عينيّ فوهة بندقية، لمحت في حزن عينيه المقهورتين بريق دمعتين وقفتا حدّ الطوفان، رأيت على صفحة مرآتيهما ملايين الوجوه السمراء خرساء تتفرّج.
قبل أن يبعد فوهة البندقية عن وجهي، سقَطت الدمعتان على وجنتيه، ثم أشعلتا ناراً في كومة الدمار.
عاد ينظر إلى نصف الدمية، كأنه يبكي، كأنه ناي زادت بحّاته، كأنه يغني.! رفع نصف الدمية، رفعها على مدى مدِّ ذراعيه الصغيرتين، عالياً.. عالياً، أصبحتُ أشاهِدها من وراء الصحراء.. والصحراء.. والصحراء.
صرخ بأسى ذابح ألهب رمال الصَحارى كلّها: لقد قتلوا السندباد.
ـ ـ
وإلى امرأة على جبهتها وشمَ شموخ.
أم ناجي.. امرأة من سورية، ريفية، فقدت زوجها وابنها الأكبر في لحظة عبثية عندما خرجا من البيت صباحاً، وفي المساء عثرت على جثتيهما أمام الدار، بلا رؤوس. دفنتهُما في «حوش» الدار، تركت البيت وكل شيء فيه، حملت من بقي من أولادها، ووصلت بهم إلى حيث الأمان..
قابلتُها في مركزٍ من مراكز الإيواء، في مدرسة كبيرة، قالت، نحن في سورية لم ننصب خيمة لمهجّر. كنت أسألها عن حالها، تتجاهل أسئلتي، وتسألني عن غزّة، وما يحدث في غزّة..
قالت أترك أولادي الثلاثة مع «يسرى» ابنتي التي بلغت الثالثة عشرة من عمرها تعتني بهم وترعاهم، وأنا أبحث عن رزق في أحياء المدينة..
أم ناجي، «تشطف» أدراج العمارات، ولو توفّر لها عمل ما في أحد البيوتات تسعى إليه. قالت، نقيمُ في غرفة، تحت سقف يظلّلنا ويسترنا، وماء وكهرباء وطعام، وقلبي في غزّة. قالت، «وهي تشير إلى أولادها الصغار»، أتمنى أن يصبحوا جميعاً «أساتذة»، يعملون على بناء جيل جديد أكثر وعياً وفهماً ونضوجاً، قالت، هكذا نثأر لشهدائنا.
قبل أن أودّعها «وأنا أتصبّب خجلاً»، رَجتني ألا «أقطعها» من أخبار غزّة.
قلت في نفسي: «أم حسين» المرأة الفلسطينية التي ألبَسها غسان كنفاني ثوب «أم سعد» ماتت، لكن «أم سعد» السورية الفلسطينية العربية لم تمت..
إليهم.. أهدي نبض روحي.