حياة المصطلحات
ليس في تراث العلم كلمة أهم من الكلمة المصطلح بها على أحد مفاهيمه؛ فإنها عندئذ كلمة أغنت عن كلم كثيرة يشرح بها ذاكرها مراده العلمي الذي سيبني عليه غيرَه هو ومن يتلقى عنه. ولولا هذه المصطلحات لاستفرغ المشتغلون بالعلم وسعهم من قبل أن يبلغوا مرادهم؛ فمن ثم كانوا وما زالوا يغتنمون كل كلمة يستغني بها أحدهم عن مثل ذلك الشرح الطويل، فيصطلحون عليها، أي يصالح بعضهم بعضا على أن يدلوا بها عليه.
لا ريب في أن أحد أولئك المشتغلين بالعلم، هو الذي يبادر إلى تسمية ما فهمه قبل غيره ما يشاء من الأسماء، ثم يصير أمره إلى غيره، فإما أن يصالحوه عليه، وإما أن يخالفوه إلى غيره، على أن الأغلب عليهم مصالحته عليه؛ فإنه هو الذي انتبه وفهم وسمى، ومن خالفه إلى غيره أشبه باللص المزور، ولا قيمة في تاريخ العلم للصوص المزورين!
يتلقى ذلك العلم الخلف فيه عن السلف، فإن كانت مفاهيمه قد اكتملت أحاطت بها مصطلحاتها، وجمد على حاله؛ فلم يتنقل بين هؤلاء الخلف إلا مثلما تتنقل التحف بين أيدي زوار المتحف، تتفقدها، ثم تعيدها إلى موضعها، وربما سقطت منها، فأعرضت عنها! وإن لم تكن مفاهيم ذلك العلم قد اكتملت أحاطت هي بمصطلحاتها، وسالت بها سيلَ قبيلةٍ ضاق بها موطنها؛ فإما أن تحتال حتى يتسع لها، وإما أن ترحل عنه إلى أوسع منه، ليضيق، فترحل، وهكذا دواليك!
وإن من القبائل الراحلة لما يضم الموطن الجديد إلى القديم، وإن منها لما ينقطع بالجديد من القديم؛ فأما القبائل المنقطعة فمتحولة، وأما القبائل الضامة فمتحسنة! وهكذا المفاهيم العلمية المتزايدة من داخل مصطلحاتها، تتحسن بالاتصال، وتتحول بالانقطاع!