منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1

    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني

    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني(1)
    المَقَامَةُ الأُولَى: عَطَا الزِّيْر لا يَأْكُلُ لحْمَ الخِنْزير
    د. يوسف حطيني
    إلى خالد موعد الذي لم يشرب من ماء الزجاجة
    كُنَّا في إِحْدَى لَيالي رَمَضان، في مَجْلِسِ طَرِيدِ الزَّمَان، فوَجَدْناه مُغْتَمّاً في غَاية الكَآَبة، إذْ رَاحَ يَنْظُرُ إليْنَا نَظْرَةً مُرْتابة، ثم انتَفَضَ بنا فَجْأةً وسَأَلَ في صَوْتٍ يُشْبِهُ الهَدير:
    هَلْ تَأْكُلُونَ لَحْمَ الخِنْـزير؟
    قُلْنَا: نَعُوذُ بالله.. الخِنْـزيرُ لا يغار، إذا نَزَا عَلى خِنْـزيرَتِهِ جَحْشٌ أو حِمَار، ولَحْمُهُ يَخْفِضُ مَنْسُوبَ الشَّهَامَةِ في دِمَاءِ النَّاس، وَيَقْتُلُ فِيْهِم المُرُوءَةَ والإِحْسَاس، ويَتَغَلْغَلُ في الدَّمِ والدَرَقِ والبِنْكِرْيَاس، فَكَيْفَ نَكُونُ لَهُ آكِلين؟
    قَالَ: مَا أَظُنُّكُم إلا فَاعِلين.
    قُلْنا، وَقَدْ رَكِبَنَا شَيْطَانُ القَلَق، وسَارَتْ في دِمَائِنا حُمَّى النَـزَق: كَيْف؟
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    كُنَّا قَبْل ثَلاثِ لَيالٍ نحُثُّ عَجَلاتِ المَرسيدس نحْوَ أَحَدِ الخَانَات الحَدِيثَةِ في المَدينَة، حَيْثُ دُعِينا إلَى تَنَاوُلِ طَعَامِ الإِفْطَار، تِلْكَ السَّيَارَةِ التي وَرِثَهَا صَدِيقُنا أبو الجماجم عَنْ أَبِيْهِ المِغْوَار، الّذِي حَصَلَ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الثوّار، فَقَدْ تَدَرَّجَ أبُوهُ في الكَرَاسِي، حَتّى صَارَ عُضْواً في المَكْتَبِ السِّيَاسِي؛ ولأنَّ صَاحِبِنا لم يَكُنْ يَحْفَظُ دُعَاءَ السَّفَرْ، فَقَدْ أَوْجَسْتُ مِنَ الخِيْفَةِ والحَذَر، ورُحْتُ أُتَعَوَّذُ وأُبَسْمِلُ وأُصَلّي عَلَى النَّبيِّ العَدْنَان، مُنْذُ انطَلَقْنا حَتَّى وَصَلْنا إلى المَكَان، بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ الزَّمَان ، فَإِذَا بِنَا وَقَدْ اِبْرَنْقَشَتِ الأَرْضُ، وإِذَا بِنَا أَمَامَ مَرْجٍ أرِيْض ، طَوِيلٍ عَرِيْض، أُقِيمَ عَلَيْهِ صَرْحٌ يَتَحَدَّى الآبَاد، وعَلَى أَبْوَابِهِ حَرَسٌ أكْثَرُ أَنَاقَةً مِنَ الرُّوَّاد.
    وإذْ دَخَلْنَاهُ ضِعْنا في مَدَاخِلِهِ، وأَخَذَتْنَا دُرُوبٌ ودُرُوب، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنا وَقْتُ الغُرُوب، فأَتَيْنَا قَاعةً كَبيرة، طَاوِلاتُها كَثيرة، فَأَدْرَكتُ أنّا وَصَلْنا إلى الطَّعَام، ولم نَجِدْ الفُرْصَةَ لنُسَلِّمَ عَلَى مَعَارِفِنا مِنَ الأَنَام، فَأَسْرَعَ أبو الجَمَاجِم، وتَنَاوَلَ ثَلاثَ تَمَرَاتٍ عَنِ المَائِدة، وَحَشَاهَا في فَمِهِ دُفْعَةً وَاحِدَة، وحينَ مَدَدْتُ يَدي لآكُلَ تَمْرَاً، ذَكَّرَني أنْ أَجْعَلَهُ وِتْرا.. وَهَكَذَا فَعَلْتُ، ثم غَبَّ وغَبَبْتُ، وكَرَعَ وكَرَعْتُ.
    ثمَّ نَظَرْتُ إلى الطَّاوِلاتِ فَوَجَدْتُها شِبْهَ خَالِيَة، فَاسْتَفَزَّتني مَعِدَتي الخَاوِيَة، وقُلْتُ لأَبي الجَمَاجِم: لعلَّنا مَدْعُوونَ إلى أَكْلِ التَّمْرِ وشُرْبِ المَاء، فَسَخِرَ مِنّي وَقَالَ بِلَهْجَةِ خَبِيرِ الخُبَرَاء: أَلَمْ تَرَ مِنْ قَبْلُ مَائدةً مَفْتُوحَة..
    ضَحِكْتُ ضِحْكَةً مَجْرُوحَة، فَاقِداً اتِّزَاني وهُدُوئي، حَتَّى كِدْتُ أَسْتَلْقِي عَلَى قَفَايَ لَوْلا خَشْيَتي مِنَ اِنْتِقَاضِ وُضُوئي، وَقُلْتُ: الحَمْدُ لله عَلَى نِعَمِهِ السَّائِدَة.. لَقَدْ أَصْبَحَ كُلُّ شَيْءٍ مَفْتُوحَاً حَتَّى المَائِدَة..
    عَبَسَ أَبُو الجَمَاجِمِ في وَجهي ثم تَجَهَّم، وسِرْتُ وَرَاءَهُ كالمسرنم، أقلّده في كُلِّ شَارِدَةٍ ووَارِدَة، مَالِئاً صُحُوني مِنَ الأَطْعِمَةِ السَّاخِنَةِ والبَارِدَة، وزَلَحْتُ الطَّعَامَ فَوَجَدْتُهُ لذيذاً، فأكَلْتُ حتَّى حَمِدْتُ العَلِيَّ القَدِير، وَقَدْ لَفَتَني رَجُلٌ يَعْذِفُ مِنَ الطَّعَام الشَّيْءَ اليَسِير، وإِذْ سَألْتُ عَنْهُ أبَا الجَمَاجِمِ قَالَ في خُيَلاء: إنَّهُ وَالِدُ أَحَدِ الشُّهَدَاء، وَقَدْ دَعَوْنَاهُ إِكْرَاماً لابنِهِ الشَّهِيد. أَنْتَ تَعْرِفُنَا أيُّهَا الطَّرِيد، فَنَحْنُ لا نُهْمِلُ أُسَرَ الَّذينَ ضَحَّوْا بالمَالِ والبَنِين، مِنْ أَجْلِ فِلَسْطِين، فَفِي كُلِّ وَلِيمَةٍ ندْعُو واحداً مِنْهُم، يَأْتي لِيَفْثَأَ بِزُجَاجَةِ كولا مَشَاعِرَهُ الحَرَّى، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ حَتَّى يأتيَ دَوْرَهُ مَرَّةً أُخْرَى، قُلْتُ: يَا أبَا الجَمَاجِم، وَمَاذَا عَنْ أُمَّهَاتِ الشُّهَدَاء، وَمَنْ سَيَدْعُوهُنَّ إلى الوَلائِم؟ قَالَ: بَسِيطَة، تَتَكَفَّلُ بهِنَّ أُمُّ الجَمَاجِم..
    وبينما كنّا نأكل وجَّه أبو الجماجم خطاباً إلى والد الشهيد:
    كُلْ يَا أَخِي.. كُلْ واشْرَبْ هَنِيئاً مَرِيئاً، فَإِنَّ مَالَ الثَّوْرَةِ للثُّوَار.. ثمَّ صَبَّ لَهُ أَبُو الجَمَاجِمِ، بِتَوَاضُعِ الكَريمِ المِعْطَاءْ، كَأْساً مِنْ زُجَاجَةِ المَاء، ولكِنَّ الرَّجُلَ رَفَضَ أَنْ يَكُونَ لهَا شَارِبَا، وحِيْنَ أَصَرَّ اِنْصَرَفَ الرَّجُلُ إلى مَائِدَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ أبُو الجَمَاجِمِ غَاضِبَا:
    "برُولِيتَارية قَذِرَة"!!
    قَالَ لي أبُو الجَمَاجِم: ما رَأيُكَ أنْ تَقُومَ مَعِي لتَأخُذَ بَعْضَ الحلوى؟
    قلت: "إذا الأكل مُو إلَك بطنك مُو إلَك ؟؟"
    فَحَدَجَني بِنَظْرَةٍ قَاسِيَةٍ حَدْجَا، ثمَّ انْطَلَقَ يُغَنِّي مُحْتَجَّا :"طَالِعْ لَكْ يا عَدُوّي طَالِعْ.. مِنْ كُلّ بِيْت وحَارَة وشَارِع".
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    وّحِيْنَ لَمَحْتُ وَالِدَ الشَّهِيدِ في إِحْدَى زَوَايَا الدَّجْمَةِ اقْتَرَبْتُ مِنْهُ وَسَأَلْتُهُ:
    لمَاذَا لم تَشْرَبْ مِنْ مَاءِ الزُّجَاجَة؟
    قَال: قِصَّةٌ فِيْهَا لجَاجَة.
    قلت: اروِهَا الآن.
    قَالَ: لا بَأسَ يا طَرِيْدَ الزَّمَان، عَلَى أَنْ يَسْمَعَهَا "فَارِسُ الفُرْسَان".
    ثُمَّ إِنّي ذَهَبْتُ إِلَى أَبي الجَمَاجِم مِنْ فَوْرِي، وَشَرَحْتُ لَهُ أَمْرِي، وَرَجَوْتُهُ أَنْ نَسْمَعَ حِكَايَةَ الزُّجَاجَةِ في بَيْتِهِ الفَسِيح، بَعْدَ أَنْ أَصَابَتْني مِنَ الشَّوْقِ إلى سَمَاعِهَا التَّبَارِيح، فَقَال: إذاً سنَسْمَعُهَا بَعْدَ صَلاةِ التَّرَاوِيح.. وهَكَذَا كَان.
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيْد، وَهُوَ يَجْلِسُ عِنْدَ العَتَبَة: حِكَايَتي مُقْتَضَبَة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ تَنَاوُلَ لحْمِ الخِنْـزِير يُذهِبُ المُرُوءَةَ، وأنَّ الخِنْـزيرَ لا يَغَار، إذَا نَزَا عَلَى خِنْـزِيْرَتِهِ جَحْشٌ أو حِمَار، وسَمِعْتُ أنَّ الجِيْلَ السَّابِق قد هَنِئَ بمُجُافُاتِه، وأنَّ عَطَا الزّيْر لمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ في حَيَاتِه.
    قلتُ: عطا الزير فقط..
    قال: عَطَا الزِّير ومحمَّد جَمْجُوم وفُؤَاد حِجَازي والقَسَّام وأَحْمَد يَاسين وصَلاح خَلَف وأبو عَلِي مُصْطَفَى، وغَيْرُهُم كَثير، وَلَكِنَّ الّذينَ أكَلُوا مِنْهُ كَثِيرونَ أَيْضاً.
    قَالَ أبو الجَمَاجِم: وَهَلْ تُصَدِّقُ أنَّ كَثيراً مِنّا أَكَلَ لَحْمَ الخِنْـزِير؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيْد: نَعَمْ أُصَدِّقُ.. فَلَيْسَ هَذَا عَلَى أَمْثَالِنَا بِكَثِير.
    انتَفَضَ أبو الجَمَاجِمِ كَمَا لم يَنْتَفِضْ يَوْمَ مَذْبَحَةِ جِنِين، قَائِلاً: "كلام عَدُوّين"، ثُمَّ أَضَافَ، بَعْدَ أنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِه، واتّكَأَ عَلَى جَاعِرَتِه: عَلَيْكَ أنْ تَأتِيَ بالبُرهَان، لا أنْ تَتَّهِمَنَا اِسْتِنَاداً إلى الزُّورِ والبُهْتَان، بَعْدَ أنْ حَارَشْنا الأعْدَاء رَدَحاً مِنَ الزَّمَان؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيد: العِرْض عِنْدي لا يَتَجَزَّأ.. فالأرْضُ صِنْوُ العِرْض، وَمَنْ تَجَرَّأ عَلَى بَيْعِ الوَطَن، وَقَبَضَ الثَّمَن، ونَسِيَ الألمَ، ووَقَّعَ وَبَصَم، وَمَنْ رَأَى فِلَسْطِينَ تُبَاعُ في سُوقِ النِّخَاسَة، فَفَضَّلَ ألا يَتَدَخَّلَ في السِّيَاسَة، يُسَاوِي عِنْدِي خِنْـزِيراً لا يَغَار، إِذَا نَزَا عَلَى خِنْـزِيرَتِه جَحْشٌ أو حِمَار.
    قُلْنَا، وقَدْ ألهَبَ عُرُوقَنا هَذَا الكَلام : هَلْ تَضَعُنَا جَميعاً في قَفَصِ الاتِّهَام؟
    قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الأعْدَاءَ صَارُوا يَضَعُونَ لَحْمَ الخِنْـزِير في كُلِّ شَيْء.. في الكُولا، وفي سَائِرِ الخَلْطَات، حتَّى إِنَّهُم يَحُلُّونَ مَسْحُوقَهُ في المَاءِ المُعَبَّأ في زُجَاجَات.
    قَالَ أبو الجَمَاجِم، وَقَدْ خَلَعَ ثَوْبَ الأَدِيْب: مَاذَا تَقْصِدُ يَا قَلِيْلَ التَّهْذِيب؟
    قَالَ: الكُلُّ مُصَاب، مِنَ الشَّبَابِ والشُّيَاب، عَدَا أولئِكَ الفُقَرَاء، الّذِيْنَ لا يَسْتَطِيعُونَ شِرَاءَ الوَجَبَاتِ السَّرِيعَةِ وعُلَبِ الكُولا وزُجَاجَاتِ المَاء..
    قَالَ أبُو الجَمَاجِم: وَأَنَا؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيد بهُدُوءٍ: وَأَنْت.
    أَرْغَى أَبُو الجَمَاجِم وأَزْبَد، وغَلُظَ طَبْعُه، واِرْبَدَّ وَجْهُه، وَمَلأَ الجَوَّ بالصُّرَاخِ والطِّنَان، وَطَرَدَنا جَمِيعاً خَارِجَ المَكَان..
    وإِذْ ذَاكَ لَحِقْتُ وَالِدَ الشَّهِيد، وَقُلْتُ لَهُ فِي ذُهُول: أُصّدِّقُكَ فِي كُلِّ مَا تَقُول، وَلَكِنّي شَرِبْتُ الكَثِيرَ مِنَ الزُّجَاجَات، وَأَكَلْتُ المُتَنَوِّعَ مِنَ الخَلطَات، فَكَيْفَ أنجُو مِنْ هَذَا البَلاء، وأنْتَ أدْرَى بالبِئْر والغِطَاء؟
    قَالَ: تَشْرَبُ مِنْ بُحَيْرَة طَبَرِيَّة.
    قُلْتُ: العَيْنُ بَصِيْرَة واليَدُ قَصِيْرة.
    قَالَ: فَمِنْ بَحْرِ حَيْفا.
    قُلْتُ: هَذِهِ أَصْعَبُ.
    قَالَ: فَمِنْ بَحْرِ غَزَّةَ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيْمَان.
    قُلْتُ: هَذِهِ سَهْلة، إلا إِذَا حَوّلَهُ الجَيْشُ الإسْرَائِيليُّ بَحْراً مِنَ الدِّمَاء، كَمَا فَعَلَ يَوْمَ قَتَلَ عَلَى الشَّاطِئِ أباً وَسَبعَةَ أَبْنَاء.
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    والآنَ بَعْدَ أنْ سَمِعْتُم الحِكَايَة، وَفَهِمْتُم الغَايَة، مَا أنْتُم فَاعِلُون؟
    وَإذْ ذَاكَ لم يَنْطِقْ أيٌّ مِنّا بكَلِمَةٍ أَوْ حَرْف، وَحَطَّ عَلَيْنَا طَائِرُ الفَزَعِ والخَوْف، وَصِرْنَا مِنْ أَمْرِنَا في حَيْصَ بَيْص، ولم نَدْرِ مَا نَفْعَلُ في اللَّيَالي الدَّجُوجِيَةِ القَادِمة، بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَتْنَا الحَيْرَة: أَنَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الزُّجَاجَاتِ، أَمْ مِنْ مَاءِ البُحَيْرَة؟
    أَمَّا طَرِيدُ الزَّمَان فَقَدْ وَدَّعَنَا إلى البَاب، تَوْدِيعَ الأحباب، قائِلاً بِلَهْجَةٍ حَرّى: تَعَالُوا في قَابِلٍ حَتَّى أُسْمِعَكُم مَقَامَةً أُخْرَى. قُلْنَا: وَمَا عُنْوَانها، قَال: "العَمّ حَمْزَة يَتَبَرَّعُ للمُحَاصَرِينَ في غَزَّة".
    See Translation
    ‎مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني(1)
    المَقَامَةُ الأُولَى: عَطَا الزِّيْر لا يَأْكُلُ لحْمَ الخِنْزير
    د. يوسف حطيني
    إلى خالد موعد الذي لم يشرب من ماء الزجاجة

    كُنَّا في إِحْدَى لَيالي رَمَضان، في مَجْلِسِ طَرِيدِ الزَّمَان، فوَجَدْناه مُغْتَمّاً في غَاية الكَآَبة، إذْ رَاحَ يَنْظُرُ إليْنَا نَظْرَةً مُرْتابة، ثم انتَفَضَ بنا فَجْأةً وسَأَلَ في صَوْتٍ يُشْبِهُ الهَدير:
    هَلْ تَأْكُلُونَ لَحْمَ الخِنْـزير؟
    قُلْنَا: نَعُوذُ بالله.. الخِنْـزيرُ لا يغار، إذا نَزَا عَلى خِنْـزيرَتِهِ جَحْشٌ أو حِمَار، ولَحْمُهُ يَخْفِضُ مَنْسُوبَ الشَّهَامَةِ في دِمَاءِ النَّاس، وَيَقْتُلُ فِيْهِم المُرُوءَةَ والإِحْسَاس، ويَتَغَلْغَلُ في الدَّمِ والدَرَقِ والبِنْكِرْيَاس، فَكَيْفَ نَكُونُ لَهُ آكِلين؟
    قَالَ: مَا أَظُنُّكُم إلا فَاعِلين.
    قُلْنا، وَقَدْ رَكِبَنَا شَيْطَانُ القَلَق، وسَارَتْ في دِمَائِنا حُمَّى النَـزَق: كَيْف؟
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    كُنَّا قَبْل ثَلاثِ لَيالٍ نحُثُّ عَجَلاتِ المَرسيدس نحْوَ أَحَدِ الخَانَات الحَدِيثَةِ في المَدينَة، حَيْثُ دُعِينا إلَى تَنَاوُلِ طَعَامِ الإِفْطَار، تِلْكَ السَّيَارَةِ التي وَرِثَهَا صَدِيقُنا أبو الجماجم عَنْ أَبِيْهِ المِغْوَار، الّذِي حَصَلَ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الثوّار، فَقَدْ تَدَرَّجَ أبُوهُ في الكَرَاسِي، حَتّى صَارَ عُضْواً في المَكْتَبِ السِّيَاسِي؛ ولأنَّ صَاحِبِنا لم يَكُنْ يَحْفَظُ دُعَاءَ السَّفَرْ، فَقَدْ أَوْجَسْتُ مِنَ الخِيْفَةِ والحَذَر، ورُحْتُ أُتَعَوَّذُ وأُبَسْمِلُ وأُصَلّي عَلَى النَّبيِّ العَدْنَان، مُنْذُ انطَلَقْنا حَتَّى وَصَلْنا إلى المَكَان، بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ الزَّمَان ، فَإِذَا بِنَا وَقَدْ اِبْرَنْقَشَتِ الأَرْضُ، وإِذَا بِنَا أَمَامَ مَرْجٍ أرِيْض ، طَوِيلٍ عَرِيْض، أُقِيمَ عَلَيْهِ صَرْحٌ يَتَحَدَّى الآبَاد، وعَلَى أَبْوَابِهِ حَرَسٌ أكْثَرُ أَنَاقَةً مِنَ الرُّوَّاد.
    وإذْ دَخَلْنَاهُ ضِعْنا في مَدَاخِلِهِ، وأَخَذَتْنَا دُرُوبٌ ودُرُوب، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنا وَقْتُ الغُرُوب، فأَتَيْنَا قَاعةً كَبيرة، طَاوِلاتُها كَثيرة، فَأَدْرَكتُ أنّا وَصَلْنا إلى الطَّعَام، ولم نَجِدْ الفُرْصَةَ لنُسَلِّمَ عَلَى مَعَارِفِنا مِنَ الأَنَام، فَأَسْرَعَ أبو الجَمَاجِم، وتَنَاوَلَ ثَلاثَ تَمَرَاتٍ عَنِ المَائِدة، وَحَشَاهَا في فَمِهِ دُفْعَةً وَاحِدَة، وحينَ مَدَدْتُ يَدي لآكُلَ تَمْرَاً، ذَكَّرَني أنْ أَجْعَلَهُ وِتْرا.. وَهَكَذَا فَعَلْتُ، ثم غَبَّ وغَبَبْتُ، وكَرَعَ وكَرَعْتُ.
    ثمَّ نَظَرْتُ إلى الطَّاوِلاتِ فَوَجَدْتُها شِبْهَ خَالِيَة، فَاسْتَفَزَّتني مَعِدَتي الخَاوِيَة، وقُلْتُ لأَبي الجَمَاجِم: لعلَّنا مَدْعُوونَ إلى أَكْلِ التَّمْرِ وشُرْبِ المَاء، فَسَخِرَ مِنّي وَقَالَ بِلَهْجَةِ خَبِيرِ الخُبَرَاء: أَلَمْ تَرَ مِنْ قَبْلُ مَائدةً مَفْتُوحَة..
    ضَحِكْتُ ضِحْكَةً مَجْرُوحَة، فَاقِداً اتِّزَاني وهُدُوئي، حَتَّى كِدْتُ أَسْتَلْقِي عَلَى قَفَايَ لَوْلا خَشْيَتي مِنَ اِنْتِقَاضِ وُضُوئي، وَقُلْتُ: الحَمْدُ لله عَلَى نِعَمِهِ السَّائِدَة.. لَقَدْ أَصْبَحَ كُلُّ شَيْءٍ مَفْتُوحَاً حَتَّى المَائِدَة..
    عَبَسَ أَبُو الجَمَاجِمِ في وَجهي ثم تَجَهَّم، وسِرْتُ وَرَاءَهُ كالمسرنم، أقلّده في كُلِّ شَارِدَةٍ ووَارِدَة، مَالِئاً صُحُوني مِنَ الأَطْعِمَةِ السَّاخِنَةِ والبَارِدَة، وزَلَحْتُ الطَّعَامَ فَوَجَدْتُهُ لذيذاً، فأكَلْتُ حتَّى حَمِدْتُ العَلِيَّ القَدِير، وَقَدْ لَفَتَني رَجُلٌ يَعْذِفُ مِنَ الطَّعَام الشَّيْءَ اليَسِير، وإِذْ سَألْتُ عَنْهُ أبَا الجَمَاجِمِ قَالَ في خُيَلاء: إنَّهُ وَالِدُ أَحَدِ الشُّهَدَاء، وَقَدْ دَعَوْنَاهُ إِكْرَاماً لابنِهِ الشَّهِيد. أَنْتَ تَعْرِفُنَا أيُّهَا الطَّرِيد، فَنَحْنُ لا نُهْمِلُ أُسَرَ الَّذينَ ضَحَّوْا بالمَالِ والبَنِين، مِنْ أَجْلِ فِلَسْطِين، فَفِي كُلِّ وَلِيمَةٍ ندْعُو واحداً مِنْهُم، يَأْتي لِيَفْثَأَ بِزُجَاجَةِ كولا مَشَاعِرَهُ الحَرَّى، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ حَتَّى يأتيَ دَوْرَهُ مَرَّةً أُخْرَى، قُلْتُ: يَا أبَا الجَمَاجِم، وَمَاذَا عَنْ أُمَّهَاتِ الشُّهَدَاء، وَمَنْ سَيَدْعُوهُنَّ إلى الوَلائِم؟ قَالَ: بَسِيطَة، تَتَكَفَّلُ بهِنَّ أُمُّ الجَمَاجِم..
    وبينما كنّا نأكل وجَّه أبو الجماجم خطاباً إلى والد الشهيد:
    كُلْ يَا أَخِي.. كُلْ واشْرَبْ هَنِيئاً مَرِيئاً، فَإِنَّ مَالَ الثَّوْرَةِ للثُّوَار.. ثمَّ صَبَّ لَهُ أَبُو الجَمَاجِمِ، بِتَوَاضُعِ الكَريمِ المِعْطَاءْ، كَأْساً مِنْ زُجَاجَةِ المَاء، ولكِنَّ الرَّجُلَ رَفَضَ أَنْ يَكُونَ لهَا شَارِبَا، وحِيْنَ أَصَرَّ اِنْصَرَفَ الرَّجُلُ إلى مَائِدَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ أبُو الجَمَاجِمِ غَاضِبَا:
    "برُولِيتَارية قَذِرَة"!!
    قَالَ لي أبُو الجَمَاجِم: ما رَأيُكَ أنْ تَقُومَ مَعِي لتَأخُذَ بَعْضَ الحلوى؟
    قلت: "إذا الأكل مُو إلَك بطنك مُو إلَك ؟؟"
    فَحَدَجَني بِنَظْرَةٍ قَاسِيَةٍ حَدْجَا، ثمَّ انْطَلَقَ يُغَنِّي مُحْتَجَّا :"طَالِعْ لَكْ يا عَدُوّي طَالِعْ.. مِنْ كُلّ بِيْت وحَارَة وشَارِع".
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    وّحِيْنَ لَمَحْتُ وَالِدَ الشَّهِيدِ في إِحْدَى زَوَايَا الدَّجْمَةِ اقْتَرَبْتُ مِنْهُ وَسَأَلْتُهُ:
    لمَاذَا لم تَشْرَبْ مِنْ مَاءِ الزُّجَاجَة؟
    قَال: قِصَّةٌ فِيْهَا لجَاجَة.
    قلت: اروِهَا الآن.
    قَالَ: لا بَأسَ يا طَرِيْدَ الزَّمَان، عَلَى أَنْ يَسْمَعَهَا "فَارِسُ الفُرْسَان".
    ثُمَّ إِنّي ذَهَبْتُ إِلَى أَبي الجَمَاجِم مِنْ فَوْرِي، وَشَرَحْتُ لَهُ أَمْرِي، وَرَجَوْتُهُ أَنْ نَسْمَعَ حِكَايَةَ الزُّجَاجَةِ في بَيْتِهِ الفَسِيح، بَعْدَ أَنْ أَصَابَتْني مِنَ الشَّوْقِ إلى سَمَاعِهَا التَّبَارِيح، فَقَال: إذاً سنَسْمَعُهَا بَعْدَ صَلاةِ التَّرَاوِيح.. وهَكَذَا كَان.
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيْد، وَهُوَ يَجْلِسُ عِنْدَ العَتَبَة: حِكَايَتي مُقْتَضَبَة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ تَنَاوُلَ لحْمِ الخِنْـزِير يُذهِبُ المُرُوءَةَ، وأنَّ الخِنْـزيرَ لا يَغَار، إذَا نَزَا عَلَى خِنْـزِيْرَتِهِ جَحْشٌ أو حِمَار، وسَمِعْتُ أنَّ الجِيْلَ السَّابِق قد هَنِئَ بمُجُافُاتِه، وأنَّ عَطَا الزّيْر لمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ في حَيَاتِه.
    قلتُ: عطا الزير فقط..
    قال: عَطَا الزِّير ومحمَّد جَمْجُوم وفُؤَاد حِجَازي والقَسَّام وأَحْمَد يَاسين وصَلاح خَلَف وأبو عَلِي مُصْطَفَى، وغَيْرُهُم كَثير، وَلَكِنَّ الّذينَ أكَلُوا مِنْهُ كَثِيرونَ أَيْضاً.
    قَالَ أبو الجَمَاجِم: وَهَلْ تُصَدِّقُ أنَّ كَثيراً مِنّا أَكَلَ لَحْمَ الخِنْـزِير؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيْد: نَعَمْ أُصَدِّقُ.. فَلَيْسَ هَذَا عَلَى أَمْثَالِنَا بِكَثِير.
    انتَفَضَ أبو الجَمَاجِمِ كَمَا لم يَنْتَفِضْ يَوْمَ مَذْبَحَةِ جِنِين، قَائِلاً: "كلام عَدُوّين"، ثُمَّ أَضَافَ، بَعْدَ أنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِه، واتّكَأَ عَلَى جَاعِرَتِه: عَلَيْكَ أنْ تَأتِيَ بالبُرهَان، لا أنْ تَتَّهِمَنَا اِسْتِنَاداً إلى الزُّورِ والبُهْتَان، بَعْدَ أنْ حَارَشْنا الأعْدَاء رَدَحاً مِنَ الزَّمَان؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيد: العِرْض عِنْدي لا يَتَجَزَّأ.. فالأرْضُ صِنْوُ العِرْض، وَمَنْ تَجَرَّأ عَلَى بَيْعِ الوَطَن، وَقَبَضَ الثَّمَن، ونَسِيَ الألمَ، ووَقَّعَ وَبَصَم، وَمَنْ رَأَى فِلَسْطِينَ تُبَاعُ في سُوقِ النِّخَاسَة، فَفَضَّلَ ألا يَتَدَخَّلَ في السِّيَاسَة، يُسَاوِي عِنْدِي خِنْـزِيراً لا يَغَار، إِذَا نَزَا عَلَى خِنْـزِيرَتِه جَحْشٌ أو حِمَار.
    قُلْنَا، وقَدْ ألهَبَ عُرُوقَنا هَذَا الكَلام : هَلْ تَضَعُنَا جَميعاً في قَفَصِ الاتِّهَام؟
    قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الأعْدَاءَ صَارُوا يَضَعُونَ لَحْمَ الخِنْـزِير في كُلِّ شَيْء.. في الكُولا، وفي سَائِرِ الخَلْطَات، حتَّى إِنَّهُم يَحُلُّونَ مَسْحُوقَهُ في المَاءِ المُعَبَّأ في زُجَاجَات.
    قَالَ أبو الجَمَاجِم، وَقَدْ خَلَعَ ثَوْبَ الأَدِيْب: مَاذَا تَقْصِدُ يَا قَلِيْلَ التَّهْذِيب؟
    قَالَ: الكُلُّ مُصَاب، مِنَ الشَّبَابِ والشُّيَاب، عَدَا أولئِكَ الفُقَرَاء، الّذِيْنَ لا يَسْتَطِيعُونَ شِرَاءَ الوَجَبَاتِ السَّرِيعَةِ وعُلَبِ الكُولا وزُجَاجَاتِ المَاء..
    قَالَ أبُو الجَمَاجِم: وَأَنَا؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيد بهُدُوءٍ: وَأَنْت.
    أَرْغَى أَبُو الجَمَاجِم وأَزْبَد، وغَلُظَ طَبْعُه، واِرْبَدَّ وَجْهُه، وَمَلأَ الجَوَّ بالصُّرَاخِ والطِّنَان، وَطَرَدَنا جَمِيعاً خَارِجَ المَكَان..
    وإِذْ ذَاكَ لَحِقْتُ وَالِدَ الشَّهِيد، وَقُلْتُ لَهُ فِي ذُهُول: أُصّدِّقُكَ فِي كُلِّ مَا تَقُول، وَلَكِنّي شَرِبْتُ الكَثِيرَ مِنَ الزُّجَاجَات، وَأَكَلْتُ المُتَنَوِّعَ مِنَ الخَلطَات، فَكَيْفَ أنجُو مِنْ هَذَا البَلاء، وأنْتَ أدْرَى بالبِئْر والغِطَاء؟
    قَالَ: تَشْرَبُ مِنْ بُحَيْرَة طَبَرِيَّة.
    قُلْتُ: العَيْنُ بَصِيْرَة واليَدُ قَصِيْرة.
    قَالَ: فَمِنْ بَحْرِ حَيْفا.
    قُلْتُ: هَذِهِ أَصْعَبُ.
    قَالَ: فَمِنْ بَحْرِ غَزَّةَ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيْمَان.
    قُلْتُ: هَذِهِ سَهْلة، إلا إِذَا حَوّلَهُ الجَيْشُ الإسْرَائِيليُّ بَحْراً مِنَ الدِّمَاء، كَمَا فَعَلَ يَوْمَ قَتَلَ عَلَى الشَّاطِئِ أباً وَسَبعَةَ أَبْنَاء.
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    والآنَ بَعْدَ أنْ سَمِعْتُم الحِكَايَة، وَفَهِمْتُم الغَايَة، مَا أنْتُم فَاعِلُون؟
    وَإذْ ذَاكَ لم يَنْطِقْ أيٌّ مِنّا بكَلِمَةٍ أَوْ حَرْف، وَحَطَّ عَلَيْنَا طَائِرُ الفَزَعِ والخَوْف، وَصِرْنَا مِنْ أَمْرِنَا في حَيْصَ بَيْص، ولم نَدْرِ مَا نَفْعَلُ في اللَّيَالي الدَّجُوجِيَةِ القَادِمة، بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَتْنَا الحَيْرَة: أَنَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الزُّجَاجَاتِ، أَمْ مِنْ مَاءِ البُحَيْرَة؟
    أَمَّا طَرِيدُ الزَّمَان فَقَدْ وَدَّعَنَا إلى البَاب، تَوْدِيعَ الأحباب، قائِلاً بِلَهْجَةٍ حَرّى: تَعَالُوا في قَابِلٍ حَتَّى أُسْمِعَكُم مَقَامَةً أُخْرَى. قُلْنَا: وَمَا عُنْوَانها، قَال: "العَمّ حَمْزَة يَتَبَرَّعُ للمُحَاصَرِينَ في غَزَّة".
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ(2)
    المَقَامَةُ الثَّانِيَةُ: العَمُّ حَمْزَة يَتَبَرَّعُ للمُحَاصَرِينَ فِي غَزَّة
    د. يوسف حطيني
    إلى الدكتور أحمد عطيّة السّعودي امتناناً لأحماضه الأدبيّة
    حّدَّثَنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني قَال:
    كّنْتُ فِي أَحَدِ شَوَارِعِ المُخَيَّم، قُرْبَ سُوقِ الخُضَار، عِنْدَمَا انتَبَهْتُ إِلَى أنّ الظَّلامَ قَدْ خَيَّم، وطَارَتْ بَرَكةُ النَّهَار، وإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابي الَّذينَ بَاوَكْتُهُم فِي المُؤْتَمَرَاتِ زَمَناً طَوِيْلاً، يَحُثُّونَ نَحْوِي المَسِير، وكَأَنَّهُم مُقْبِلُونَ عَلَى شَيْءٍ خَطِير، فَحَكَّ في خَاطِري فَأْلٌ سَيِّئ، فَقُلْتُ بِصَوْتٍ وَاجِل: أَجَارَنَا اللهُ مِنْ خَبَرٍ عَاجِل، قَالُوا: الإخْوَةُ يجتَمِعُونَ عَلَى طَاوِلَةِ الحِوَار، وَأنْتَ مَشْغُولٌ بالبَنْدُورَِة والخِيَار؟ قُلْتُ: أَوْجِزُوا، فَإِنّي مُكَلَّفٌ بمُهِمَّةٍ رَسْمِيَّة، مِنْ قِبَلِ وَزَارَةِ الدَّاخِلِيَّة ، قَالُوا: سَوَّدَ اللهُ وجْهَكَ. نَدْعُوكَ لغَايةٍ سَنِيّة، فَتُحَدِثُنَا عَنْ شُؤونِكَ الأُسْريّة. ثمَّ أَضَافُوا سَاخِريْن: أَتَذْهَبُ مَعَنَا في الحَال؟ أَمْ تَعُودُ إِلَى أُمِّ العِيَال؟ فَاسْتَفَزَّني هَذَا التَّحَدِّي السَّافِر، وَقُلْتُ: أَذْهَبُ مَعَكُم دُوْنَ اِسْتِخذَاء، وَأَضْمَرْتُ الاِسْتِعْدَادَ لِلَيْلَةٍ سَوْدَاء.
    ثمَّ اِنْطَلقْنا حَتَّى وَصَلْنا إلَى المَكَانِ، فَوَجَدْنَا فِيْهِ خَلْقاً كَثِيراً، وإِذْ نَظَرْتُ فِيهِ نِظْرَةَ المُرْتَاب، طَالَعَني مِنَ الأَوْضَاح عَجَبٌ عُجَاب، مِنَ الشِّيبِ والشَّبَاب، بالإِضَافَةِ إلى سَافِرَاتٍ وَمُحَجَّبَات، نَامِصَاتٍ وغَيْرِ نَامِصَات، يَتَدَرَّجْنَ مِنَ المَوْجُوْنَاتِ المُستَتِراتِ بِالبَرَاقِع، إلى المُرْتَئِدَات اللائِي يَتَبَرَّعْنَ بِأُنُوثَتِهِنَّ لِعُيُونِ الجَائِع، وَثمَّةَ صُرَاخٌ وَصَفِير، وحَمْحَمَةٌ وزَئِير؛ لِذَا فَقَدْ تجَرْثَمْتُ فِي مَكَاني، ولم أُغَادِرْه، وَنذَرْتُ للرَّحمنِ الصِّيَام، لأنّ الاِسْتِمَاعَ فِي مِثْلِ هَذِه الأَحْوَالِ أقْرَبُ إلى التَّقْوَى مِنَ الكَلام.
    وَقَفَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان، مُفْتَتِحاً جَلْسَةَ الحِوَار، بِبَيْتٍ مِنْ أَجْمَلِ الأَشْعَار، فَقَال:
    وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَمَا يَظُنَّانِ كُلَّ الظَنِّ ألا تَلاقِيَا
    قَالَ رَجُلٌ نَظِيفُ الوَجْهِ واللِّسَان، وقَدْ زعبَلَ ، وامتَدَّ كِرْشُهُ في غَيْرِ اِتِّزَان: عَلَى الجَمِيعِ أنْ يَعُودُوا إلى حِدُودِ مَا قَبْلَ حَرْبِ حَزِيْرَان.
    بَيْنِي وبَيْنَكُم ظَنَنْتُ الرَّجُلَ يَتَحَدَّثُ عَنْ حَرْبِ سَبْعَةٍ وَسِتِّين، غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ لم يَكُن صَحِيْحاً، إِذْ أشَارَ إلى عَامِ 2007، يَوْمَ آلَتْ الأُمُورُ في غَزَّةَ إلى حَمَاس، بَعْدَ أنْ تَفرّثَتْ شَرِطَةُ عَبّاس.
    قَالَ آخَرُ بِاسْتِخْفَاف:
    - وَمَنْ هُوَ عَبَّاس؟
    فَعَلا الهِيَاجُ والوَعْوَاع ، وكَثُر الوِيعُ والوَاع، لَوْلا أنِ اقتَحَمَ رَجَلٌ مُرَقَّعُ الثِّيَابِ، أَوْذَمَ عَلَى السِّتّين، جُمُوعَ المحتَشِدِين، وَهُوَ يحْمِلُ صِينِيَّةَ الشَّاي، فَاكْتَسَت وُجُوهُ الجَمِيعِ بالحُبُور، وَزَالَ التّوَتُرُ والنُّفُور، وَأَقْبَلُوا عَلَى الشَّايِ يَكْرَعُون، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّ هَذَا النَّوعَ مِنَ الأَشْرِبَات، يَقُومُ بجَمْعِ الشَّتَات، ويُمَهِّدُ الأَرْضِيَّة، لِتَحْقِيقِ الوحْدَةِ الوَّطَنِيّة، وَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ حَسَّان:
    إِذَا مَا الأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْماً فَهُنَّ لِطَيِّبِ الشَّايِ الفِدَاءُ
    قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي أَكْرمَ شَارِبَيْه بِصَوتٍ مُرْتَفِع: شُكْراً لَكَ يا عَمّ حَمْزَة..
    ثمَّ أَضَافَ سَاخِراً: لَعَلَّكَ تُريد مُشارَكَتَنَا الحَدِيث.
    - لا.
    - وَمَاذَا فَعَلْتَ باللَّيْرَاتِ الخَمْسِين، الّتي أعْطَاكَ إِيَّاها أَبُو الأَمِين؟
    - تبرّعْتُ بِهَا لأَهْلِ غَزّة.
    - بهذِهِ السُّرْعَة؟
    - تَبَرَّعْتُ بها حَالمَا رَأَيْتُ لجْنَةَ التَّبَرًعَات.
    - وَهَلْ لَدَيْكَ كَثِيرٌ مِنَ الخَمْسِينَات؟ أنَا أَعْرِفُ أنَّكَ مُثْقَلٌ بالدُّيُونِ الوَالِثَة، وَهَذَا التَّهَوُّرُ قَدْ يَقُودُكَ إلى كَارِثَة.
    - إنَّهُم يُدَافِعُونَ عَنِّي وَعَنْك.
    وَقَفَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان قَائِلاً:
    هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِغَزّةَ مِن أرْوَاحِنا مَا اسْتَحَلَّتِ
    قَالَ الرَّجُلُ النَّظِيْف:
    - ألا تَخْشَى ألا يَصِلَ تَبَرُّعُكَ إِلَى أَهْل غَزَّة، أَنْتَ تَعْرِفْ يَا عَمّ حَمْزَة، أَنَّ هَذِهِ التَّبَرُعَاتِ قَدْ يُصَادِرُهَا الأعْدَاء، وأَنَّ جَهْدَكَ قَدْ يَضِيعُ في الهَوَاء.. ثمَّ مَاذَا سَيَفْعَلُ الغَزِّيُّونَ يَا مِسْكِين، بِلَيْرَاتِكَ الخَمْسِين، وهَل سَتَكْفِي للغِذَاء والدَّوَاءِ والبَنْزِين؟
    - أَقُومُ بِوَاجِبي، وَلا يهمُّنِي فِعْلُ الآخَرِين.
    سَأَلَتْ امرأةٌ ذَاتُ مِنْديلٍ مُزَرْكَشٍ بِصَوْتٍ مَمْطُوط:
    وَلمَاذَا لا تُقَدّم تَبَرُعَاتِكَ إِلَى المَسْؤُولِين، يَحْمِلُونَهَا مَعَهُم إِلَى المُحْتَاجِين.
    انْتَفَضَ رَجُلٌ مِن الجَالِسِين قَائِلاً:
    - تُصَادِرُهَا شَرِطَةُ عَبّاس؟
    قَالَ آَخَر:
    - رَحِمَ اللهُ شَرِطَةَ عَبَّاس، فَقَدْ آَلَتْ الأُمُورُ إِلَى حَمَاس.
    قَالَ الرَّجُلُ بِاسْتِخْفَاف، وَمَنْ هُوَ عَبَّاس؟ وشَرِطَةُ عَبَّاس؟
    - تَدَخَّلَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان قَائِلاً:
    - ألا تَعْرِفُ عَبَّاس بنَ فِرنَاس، ذَلِكَ القَائِدَ الدِّرْبَاس، الَّذِي أَرَادَ أنْ يَطِيرَ مِنْ رَام الله إِلَى القُدْسِ بِنِصْفِ جَنَاح.. فِعْلةَ مَنْ يَسْعَى إِلَى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاح.
    قَالَ العَمّ حَمْزَة قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ: لا تَغْبَجُوا الشَّاي عَلَى مَهَل، فَالعَشاء الّذي طَلَبْتُمُوهُ سَيَصِلُ في العَجَل.
    قَالَ الرَّجُل الَّذي أَكْرَمَ شَارِبَيه: العَمّ حَمْزة نَمُوذَجٌ حَيٌّ للبْرُولِيتَاريَا الرَّثَة.
    وَضَعَتْ بَعضُ السَّيِّدَاتُ فَوقَ أُنُوفِهِنَّ الكَمَّامَات، حَتّى لا تُزْكِمُهُنَّ رَائِحَةُ الكَلِمَات، غَيْرَ أنَّه أضاف:
    لَعَلَّكُم لا تَعْرِفُونَ أنَّ العَمَّ حَمْزَة مَا زَالَ يحتَفِظُ بمَفَاتِيحِ بَيْتِه في فِلَسْطِين، وَأَنَّ "كُوشَان" بيتِهِ وحاكُورَتِه مِا زِالِ مِعِهُ في حِرْزٍ مَكِين.
    قَالَتْ إِحْدَى الحَاضِرَات: يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يُصْبِحُ فِيْهِ القَابِضُ عَلَى المِفْتَاحِ والكُوشَان، كالقَابِضِ عَلَى جَمْرَةٍ مِنَ النِّيرَان.
    قَالَ الرَّجُلُ النَّظِيف:
    إذا كَانَ مِنْ أَهَالي الـ48 فَأَنْصَحُهُ أنْ يَخْلُدَ إلى الجَمَامَة ، وَأنْ يُلْقِي المِفْتَاحَ والكُوشَان في القُمَامَة.
    رَدَّ الرَّجل الّذي أَكْرَمَ شَاربَيْهِ ولِحْيَتِهِ: لَنْ يُلْقِيَ المِفْتَاح، لأنَّ حُدُودَ فِلَسْطِين تمتَدُّ مِنَ النَّهْرِ إِلَى البَحْر.
    قلتُ في نَفْسِي: حُدُودُ فِلَسْطِين تمتَدُّ مِنَ الجُرْحِ إِلَى السِّكِّين، غَيْرَ أَنّي خِفْتُ أنْ أَتَدَخَّلَ بالحَدِيْث، فَأَزِيدَ بِلَّةًَ فَوْقَ الطِّيْن، لأنَّ الرَّجُلَ النَّظِيف خَرَجَ عَنْ طَوْرِه، وكَادَ يُحَاصِب المُتَحَاوِرِين.
    هَمَسَ صَدِيقٌ في أُذُني قَائِلاً:
    أُفَكِّرُ في أَنْ أحْتَاصَ للأَمْرِ، حَتَّى لا تَضِيعَ القَضِيَّة.
    قُلْتُ: كَيْف؟
    قَالَ: أَنْشَقُّ مَعَ مجْمُوعَةٍ مِنَ الرّفَاقِ، ثمَّ أُطَالِبُ بالوحْدَةِ الوَطَنِيّة..
    بَعْدَ أنْ أُفْرِغَتْ كُؤُوسُ الشَّاي ارتَفَعَت الأَصْواتُ مِنْ جَدِيد، بالاتهَامِ والقَذْفِ والتَّنْدِيد، وَخِيَانَةِ المِيثَاقِ وَتَضْييعِ الهُوِيَّة، وَلم نَتَّفِقْ إلا عَلَى مُقَاطَعَةِ البَضَائِعِ الأمْرِيكِيّة، في اللَّحْظَةِ الّتي وَصَلَتْ فِيْهَا وَجَبَاتٌ مِنْ مَطَاعِمِ مَاكدُونُالْدز، فَقَرَّرْنَا أنْ نَأْكُلَ الطَّعَامَ اللَّذِيْذ، قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ قَرَارُ المُقَاطَعَةِ حَيِّزَ التَّنْفِيذ.
    ثُمَّ إنَّ الخَطِيبَ بنَ لِسَانٍ بَادَرَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الطَّعَامِ إِلَى القَوْل:
    ولا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضةً فَإِنّ الخَوَافي قُـوَةٌ للقَـوَادمِ
    وَقَدْ فَاجَأَني أنَّ قَوْلَه لاقَى تَصْفِيقاً وَاسْتِحْسَاناً مِنْ جَمِيعِ الإِخْوَةِ والرِّفَاق، فَحَمِدْتُ اللهَ عَلَى نِعْمَةِ الاتِّفَاق، إِلا أَنَّنِي اكتَشَفْتُ بِسُرْعَةِ البَرْقِ وَهْمَ الصّفاء، فَجَئِزْتُ بِكَأْسِ المَاء، إِذْ سَرْعَانَ مَا عَادَ الخِلافُ والتَّجَافي ، عِنْدَ تَحْدِيدِ القَوَادِمِ والخَوَافي، لِكَيْ يَسْتَطِيعَ عَبّاسُنا أنْ يَطِير، فِي دَرْبِ الاسْتِقْلالِ والتَّحْرِير. فَالجَمِيعُ هُنَا مِنَ القَوَادِمِ القَاسِيَة، ولَيْسَ ثَمَّةَ أيَّةُ خَافِيَة، اللهمّ إلا العَمّ حَمْزَة، لِذَلِك سَارَ الحِوَارُ مِنْ جَدِيدٍ إلى الهَاوِيَة، ولم يُفْلِح الشَّايُ في تَصْفِيَةِ الأَجْوَاءِ مَرَّةً ثَانِيَة.
    واشْتَدَّ الهِيَاجُ والصِّيَاح، حتَّى طَلَعَ الصَّبَاح، وسَكَتَ المُتَحَاوِرُونَ عَنِ الكَلامِ المُبَاح، مَا عَدَا العمَّ حِمْزة الّذِي قَالَ لَنا: "تُصْبِحُونَ عَلَى وَطَنٍ مِنْ سَحَابٍ وَمِنْ شَجَر" ، ثمَّ وَدَّعَنا مُلَوِّحاً بمِفْتَاحِهِ وكُوْشَانِهِ وابتِسَامَتِهِ الرَّائِقَة، وَانْطَلَقَ خَارِجَ سِجْنِ المَكَانِ بخُطْوَتِهِ الوَاثِقَة.
    ثمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان الطَّبَرَاني قَامَ ليُوَدِّعَنَا تودِيعَ الأَحْبَاب، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ تَتِمَّةِ الحِكَايَةِ، فَقَالَ: كَانَتْ زَوْجَتِي تَنْتَظِرُني بِالمِكْنَسَةِ وَرَاءَ البَاب، ثمَّ أضَافَ بِلَهْجَةٍ حَرّى: تَعَالُوا في قَابِلٍ حَتّى أُسْمِعَكُم مَقَامَةً أُخْرَى. قُلْنَا: ومَا عُنْوَانُها، قَالَ: "اقْتِرَاحَاتُ زِرْيَاب.. لتَجْفِيفِ مَنَابِعِ الإِرْهَاب"

  3. #3
    كم هو ممتع المكوث مع المقامات
    تحياتي د . يوسف
    مبارك عليكم هذا الشهر الكريم

  4. #4
    شكري لك دوما ايها الكريم.
    **************
    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبرَانيّ(9)
    نُزْهَةُ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق
    د. يوسف حطيني
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    ما إنْ دَخَلْنَا عَلَى طَريد الزَّمَان بَعْدَ العِشَاء، حَتَّى قَامَ يُصَلِّي خَلْفَ سَجَّادة حَمْرَاء، فَجَلَسْنَا في مَجْلِسِهِ بخُشُوع، نَنْتَظِرُ انتِهَاءَهُ مِنَ السُّجُودِ والرُّكُوع، وإذْ أَطَالَ عَلَيْنَا الأَمْر، ظَنَنَّا أنَّا في لَيْلَةِ القَدْر، فلَمَّا أنْهَى صَلاتَهُ وَسَلَّم، دَعَوْنَا أنْ يَتَقَبّلَ اللهُ مِنْه النَّافِلَةَ والمَفْرُوضَة، فَقَالَ: اسمَعُوا مِنّي هَذِهِ الأُمْحُوضَة: دَعُوا ثُلثَ لَيْلِكُم لعِبَادَة رَبِّ العِبَاد، وثُلُثَهُ للرُّقَاد، وثُلُثَهُ للمُذَاكَرَة ، فَقُلْنَا: وأَيْنَ وَقْتُ المُسَامَرة؟ ومَتَى ستَلْتَقي الرِّفَاق؟ وَقَدْ واعَدْتَهُم بِـ "نُزْهَةِ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق "؟ قَالَ: سَأَعُدُّ وَقْتَ المُسَامَرة مِنَ المُذَاكَرة، قُلْنَا وَقَدْ أََصَابَنا الذُّهُول: عَهِدْنَاَك تَكْتَفي بالفَرْض، وتَقْطَعُ الدّنْيَا بالطُّولِ والعَرْض، فَقَالَ: مَنَّ اللهُ عَليَّ بنُورِ اليَقِين، وَهُو يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ لصِرَاطِهِ المُبِين، فقُلْنا ضَاحِكِين: دَعْنَا نَجْلِسْ بِحِذَائِك، ونَتَمَسَّحْ بِرِدائِك.
    غَيْرَ أنَّ طَريدَ الزَّمَان، لم تَضْحَك مِنْهُ الأسْنَان، بَل راحَ يقُولُ في وَقَار: حِينَ انتَصَرَت المُقَاوَمَةُ عَلَى جَحَافِلِ العَدُوِّ الغَدّار، في كِلِّ شِبْرٍ مِنْ قِطَاعِ غَزَّة، مَلأني شُعُورُ العِزّة، إذْ لم تَسْتَطِعْ مَنَاظِيرُ الأَعْدَاء، أَنْ تَرْصُدَ رايةً بَيْضَاء، لذلِكَ انصَرَفُوا يَجُرّون ذُيُولَ الهَزِيمة، بَعْدَ أن ارتكَبُوا الجريمةَ إثرَ الجريمة، مُسْتَخْدِمِينَ الدَّبَابةَ والطَّائِرَة، والسَّفِينَةَ الحَرْبِيَّةَ المَاخِرَة. وخطَرَ لي أن أزورَ القِطَاع، فأَبُوسَ تُرابَه الثَّمين، وأطْبَع قُبْلةً عَلَى خدِّ شَارِعِ صَلاحِ الدّين.
    لِذَلِكَ عَقَدْتُ النِّيَّة، وَانطَلَقْتُ إلى رَفَحٍ المِصْرِيَّة، وَإِذْ وَصَلْتُ رَأَيْتُ رَجُلاً أرْبَى عَلَى الخَمْسِين، يُنْشِدُ بِصَوْتٍ حَزِيْن:
    وَإِنّي لَمُشْـتَاقٌ إِلَى أَرْضِ غَـزَّةٍ وَإِنْ خَـانَنِي بَعْدَ التَّفَـرُّقِ كِتْمَاني
    سَقَـى اللهُ أَرْضاً لَوْ ظَفِرْتُ بِتُرْبِها كَحَلْتُ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ أَجْفَانِي
    فاغرَوْرَقَت لحزْنِهِ مَدَامِعي، وتَذَكَّرْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ الشَّافِعيّ ، وخمّنْتُ أنْ أَكُونَ في حَضْرَةِ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّة، فَشَكَرْتُ اللهَ عَلَى هَذه المِنّة، ثمَّ اقترَبْتُ مِنْهُ، وأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ السَّلام، فَرَدَّ عَلَيَّ في ابتِسَام، فَسَأَلتُه في وُدٍّ وإينَاس: أأنتَ مُحَمَّد بنُ إدرِيسَ بنِ العَبَّاس، فَأوْمَأَ بالإيجَاب، ثمَّ أضَافَ في اقتِضَاب: هَلْ دَلَّكَ عَليَّ العَسَس؟ فَقُلْتُ: أُقْسِمُ بِمَنْ جَمَعَني بِكَ هَذِهِ الحَزّة ، أنِّي عَرَفْتُكَ مِنْ شَوْقِكَ إلى غَزّة.
    فَقَالَ الشَّافِعِيّ: في غَزَّةَ وُلِدْتُ، وإلى مَكَّةَ والمَدِينَةِ رَحَلْتُ، وتَبَغْدَدْتُ وأيمَنْتُ وأَمْصَرْتُ، ولَكِنَّنِي لم أَنْسَ غَزّةَ الَّتِي تَزُورُني في المَنَام، بَعْدَ أنْ أَضْنَاني الشّعَفُ ودَلَّهَني الهُيَام.
    - أتَنْوِي زِيَارَتَهَا في هَذِهِ الأَيَّام؟
    - مَا وُجُودِي هُنَا إلا لهَذَا المَرَام، وَقَدْ قِيلَ لي: إنَّهُم يُغْلِقُونَ الحُدُودَ والبِحَارَ والآفَاق، ولا بُدَّ مِنْ دُخُولِهَا عَبْرَ الأَنْفَاق. ثمَّ استَطْرَدَ قَائِلاً:
    - عَرَفْتُ مَنْ يَرْكَبُ الشِّمْلالَ والنَّاجِيَة ، ومَنْ يَجُوزُ البِحَارَ في الجَارية، وسَمِعْتُ عَمَّن يَجْتَازُونَ الآفَاق، أمَّا أنْ يُسَافِرَ النّاسُ عَبْرَ الأنفَاق، فَهَذِهِ إِحْدَى الكُبَر، الَّتي لم يَأْتِهَا أحَدٌ مِنَ البَشَر. فَكَيْفَ استَغْنَى أَبْنَاءُ كَنْعَان، عَنِ الطّائِرَةِ والدَّسْراءِ والحِصَان؟
    فَقُلْتُ: لَقَدْ حَاصَرَ بَنُو قَيْنُقَاع، كُلَّ شِبْرٍ مِنْ أرَاضِي القِطَاع، وَمَا زَادَ الطِّينَ بِِلّة، أنَّ بَعْضَ شُرَكَائِنَا في اللّسَانِ والملِّة، لم يَحْفَظُوا عَهْداً ولا إلّة ، فَأَغْلَقُوا مَعْبَرَ رَفَحٍ في وُجُوهِ المَرْضَى والجِيَاع؛ وَلأنَّ الحَاجةَ أمُّ الاِخْتِرَاع، فَقَدْ لَجَأَ أهَالي غَزّةَ إلى حَفْرِ الأنفَاق، وَجَاؤُوا عَبْرَها بالسِّلاحِ والغِذاءِ والتِّرْيَاق، لِيَحْفَظُوا حَيَاةَ الإِخْوةِ والأَهْلِ والرِّفَاق، فَهِيَ إجَابةُ الفِلَسْطِينيِّين الشَّافِيَة، عَلَى مَنْ يَدْفَعُهُمْ إلى الهَاوِيَة.
    فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لعَمْري إنّه حِصَارٌ غَاشِم، يطحَنُ الأهْلَ في غَزَّةِ هَاشِم ، وَلَنْ أهْنَأَ سَاعَةً فَوْقَ الثَّرَى، حَتَّى أُقَاِبَِلَ فِيهَا آسَادَ الشَّرَى، الّذِينَ يُجَاهِدُونَ العَدُوَّ اللَّئِيم، في سَبِيلِ الحُرّيّةِ والعَيْشِ الكَرِيم.
    فَأَخْبَرْتُهُ أنَّنِي إليهَا ذَاهِب، وأنَّه لَنِعْمَ المُصَاحِب، فَقَالَ: ألا أَعْرِفُ الرَّفِيق؟ قَبْلَ أنْ أبْدَأَ الطَّرِيق؟
    قُلْتُ: أنَا مِنْ مَدينةٍ سَارَ فَوْقَ بُحَيْرَتِهَا المَسِِيْح، ليُهَدِّئَ عَصْفَ الرِّيح، وَقَدْ طَرَدَني مِنْهَا زَمَانٌ أَغْبَر، طَغَى عَلَى قَومِي وتَجَبَّر.. فَقَالَ: إنَّه لَمِنْ أَعْذَبِ الأمَاني، أنْ أُصَاحِبَ طَرِيدَ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني.
    ثمَّ اتّكَلْنَا عَلَى مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، وذَهَبْنا إلى أَحَدِ المُهَرِّبِين، فطَلَبَ مِنّا أَجْرَ رِحْلَةٍ إلى الصِّين، وحِينَ استَثْقَلْنا كَثْرَةَ المِئين، قَالَ: آخُذُكُم عَبْرَ نَفَقٍ أَمِين، ونبّهَنَا عَلَى ضَرُورَةِ الامْتِثَال، ثمَّ تَحَدَّثَ في هَاتِفِهِ الجَوَّال، وَقَال: تَتَحَرَّوْنَ بالمَكَان ، حَتَّى يَأتِيَكُم البَيَان، فَتَمَكَّثْنَا سَاعَتين، حَتَّى غَابَتِ العَين ، وإذ غَسَا ليلُ الديجُور ، أَدْخَلَنا إلى بَيْتٍ مَهْجُور، ورفَعَ غِطَاءً أسفَرَ عَنْ ضَوْءٍ سَاطِع، ثم خَرَجَ إِلَيْنَا مِنْهُ غُلامٌ يَافِع، فَأَسْلَمَنَا الرَّجُلُ إِلَيْه، وَقَالَ لَنَا: اعتَمِدَا عَلَيْهِ. ولمّا أَنْزَلََنَا الفَتى وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا في مَمَرٍّ غَيْرِ مَأْلُوف، وأزعَجَنَا أنَّنَا لا نَسْتَطِيعُ فِيْهِ الوُقُوف، فخَلصْتُ إلى الشَّافِعِيِّ نَجِيَّا : "لَعَلَّنَا سَنُتَابِعُ الرِّحْلةَ جِثِيّا". غَيْرَ أنَّ الأحْوَالَ تَبَدَّلَتْ بَعْدَ آن، إِذْ اِنْفَتَحَ المَمَرُّ عَلَى مَا لم يَكُنْ بالحُسْبَان، فَتَعَجَّبْنَا ممَّا نَرَى: عَالَمٌ آخَرُ تَحْتَ الثَّرَى: عَرَبَاتٌ تحمِلُ السَّجائِرَ والشَّمْعَ وزَيْتَ الزَّيْتُون، والجُبْنَ والأَدْوِيَةَ والصَّابُون، والهَوَاتِفَ الجَوَّالةَ والحَوَاسِيبَ والأجهزَةَ الكَهْرَبِيّة، ومُحَرّكَاتِ السَّيَّاراتِ والدرّاجَاتِ الهَوَائِيَّة. وإِذْ لمَحَ الفَتَى دَهَشَنَا قَالَ: هُنَا يَتِمُّ تَهْرِيْبُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ المِلْحِ والفُلْفُلِ والبَهْرَمَان ، إلى الإِنْسَانِ والحَيَوَان ، حَتَّى إنِّي سَمِعْتُ أنَّ الأنفَاق، حَمَلَتْ عَرُوساً إلى عريسِهَا المُشْتَاق ، فانتصَرَتْ بِذَلِكَ قُوَّةُ الحَيَاة، عَلَى حِصَارِ الطُّغَاة.
    ثمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ لِلْفَتَى: مَا زِلْتَ صَغيراً عَلَى الشَّقَاء، وَكَانَ الأَجْدَرُ بِكَ أن تجلِسَ إلى العُلَمَاء، فَتَأْخُذَ عَنْهُم العِلْمَ النَّافِع، فَقَالَ الفَتَى: أنَا في الصَّفِّ التَّاسِع، أشتَغِلُ حَتّى مُنْتَصَف اللَّيْل،وأستَيْقِظُ مَهْدُودَ الحَيْل، فَأَنطَلِقُ إلى المدرَسَةِ في الصَّبَاح، وَلَيْسَ لَهَذَا الدَّيْدَنِ مِنْ بَرَاح، فَأَخِي أثخَنَتْهُ الجِرَاح، وأبي استُشْهِدَ وهُوَ يُعَانِقُ السِّلاح، أمَّا وَالدَتي فَقَدْ لَصِبَ جِلْدُهَا بِلَحْمِهَا مِنْ شِدَّةِ الهُزَال، وباتَتْ عَاجِزَةً عَن الاحتِمَال.
    وَهُنَا سَأَلْتُه: ألا يُشَكِّلُ العَمَلُ في الأنفَاقِ خَطَراً عَلَى حَيَاةِ العُمَّال؟
    فوجَمَ لَحْظَةً ثُمَّ قَال: طَالمَا قَصَفَها اليَهُود، وسَدَّهَا أُولُو القُرْبَى عَبْرَ الحُدُود، وغَيْدَقَ المطَرُ فَانْهَارَتْ نَوَاحِيهَا، وبثَقَ المَاءُ فقَضَى عَلَى مَنْ فِيْهَا، وَرُبَّمَا بُثَّ في أرجَائِهَا الغَازُ السَّام، فَأهْلَكَ مَنْ فِيْهَا مِنَ الأنَام. غَيْرَ أنَّ العَيْشَ فَوْقَ الأرضِ لَيْسَ أقلَّ خَطَراً، فَرُبَّمَا تَنَامُ في العِلِّيَّة، فتَحْرِقُكَ قُنْبُلَةٌ فُوسْفُورِيَّة، وَقَدْ تَأتِيْكَ صَوَاريخُ الأَعْدَاء، وأَنْتَ قَائِمٌ لصَلاةِ العِشَاء.
    ثُمَّ تَنَهَّدَ الفَتَى مِنْ صَدْرٍ مَجْرُوح، وَقَالَ بِصَوْتٍ مَبْحُوح: العَالَمُ كُلُّهُ يُحَارِبُ أَنْفَاقَنَا، ويُرِيْدُ إِزْهَاقَنَا، وَيُشَارِكُ البَاغِي في قَتْل العِبَاد، حَتَّى يَحْرِمَ المُجَاهِدِينَ مِن تَهْرِيبِ السِّلاحِ والعَتَاد.
    فَقَالَ الشَّافعيّ مُتَعَجِِّباً: أَيَمْنَعُونَ السِّلاحَ عَن الشَّعْبِ المقْهُور، ويُزَوِّدُونَ بهِ المُعْتَدِي المَغْرُور، ليُرْهِبَ المَقْهُورِينَ بِالنَّارِ والحَدِيد؟ قُلْتُ: إِنَّهَا شِرعَةُ الشَّرقِ الأَوْسَطِ الجَدِيد: يَمْنَعُونَنَا مِنْ حَفْرِ الأَنْفَاق، مِنْ أَجْلِ الغِذَاءِ والتِّريَاق، وَيَغُضُّونَ الطَّرْفَ عَن الأَنْفَاقِ الَّتي يَحْفِرُهَا الأَوْغَادُ، عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَاد.
    - ولماذَا يَحْفرُون؟ وَهُم يَحْصُلُونَ عَلَى مَا يَطْلُبُونَ، وَمَا لا يَطْلُبُون.
    - يُخَلْخِلُونَ البُنيَانَ تَحْتَ القُدْسِ الشَّريفِ المَكْلُوم، ليُبْنى عَلَى أنْقَاضِ الأقْصَى هَيْكلٌ مَزْعُوم، لا يهمُّهُم في ذَلِكَ انهِيَارُ المَكَان، عَلَى رُؤُوسِ السُّكَّان، وربَّما سَمِعْتَ عَن انهيَارِ صَفٍّ في إِحْدَى مَدَارِسِ المَدِينَةِ المُقَدَّسَة، أدَّى إلى إِصَابَةِ العَشَرَاتِ مِن تَلامِيذِ المَدْرَسة.
    وإذْ اِطْمَأنَّ الفَتَى إلَيْنا، أَخَذَنَا الحَدِيثُ في دُرُوبٍ ودُرُوب، فَشَكَا إلَيْنا تُجَّارَ الحُرُوب، وَمَا زَالَ يُحَدّثُنا عَنْ غَزَّة، وَعَن اسمِهَا المُشْتَقِّ مِنَ المنعَةِ والعِزَّة، حَتَّى انتَهَتْ لَحَظَاتُ القَلَق، ووَصَلْنا إلى نهَايَةِ النَّفَق، فَمَا خَرَجْنا مِنْهُ حتّى أَخَذَ الشّافعيُّ حَفنةً مِنَ التُّرَاب، وَرَاحَ يُكَحِّل الجُفُونُ والأُهْدَاب.
    وسَكَتَ طَرِيدُ الزَّمانِ عَنِ الكَلام، فاستعدَّ الجَمْعُ للقِيَام، وَقَبْلَ أنْ نَخْرُجَ مِنَ البَاب، قُلْنا في لهجَةِ عِتَاب: ألا تَدْعُونا إلى جَلْسَةٍ عَامِرَة، تَرْوِي لَنَا فِيهَا المَقَامَةَ العَاشِرَة، فقَال: لَكُم مَا تُريدُونَ أيُّهَا الضِّيفَان، قُلْنا: فما العنْوان؟ قَال: "فَصْلُ البَيَان في اِخْتِلالِ المِيْزَان".
    7/3/2009

  5. #5
    سلم المداد والبنان يا دكتور حنيطي , هذه ليست ساخرة فحسب , بل هي من صميم واقعنا العربي مع العربي , وواقعنا الفلسطيني مع العدو الصهيوني , نعم إنها غزة الشافعي , وإنها غزة هاشم , وإنها غزة النصر والتحرير إن شاء الله , لك التحية والتقدير .

  6. #6
    تماما شكرا لك راما.
    واعتذر عن عدم انتظام الحلقات:
    نْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ(8)
    دُرَيْدُ بنُ الصِّمَة يُشَارِكُ في مُؤْتَمَرِ القِمَّة
    د. يوسف حطيني
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    دخَلْنا هَذَا المسَاءَ عَلَى الطَّرِيد، فَوَجَدْنَاهُ مُسَرْبَلاً بالحَدِيد، يلبَس لِبَاسَ الكَمِيِّ الهُمَام، ويَرِيشُ السِّهَام، وإذْ رَآنا هَبَّ قَائِلاً: أَهْلاً بالفُرْسَان، وَقَامَ يَرْقُصُ بالرُّمْحِ والسِّنَان، ثُمَّ بَدَأَ يَلْعَبُ بالسَّيْفِ اليَمَاني، حَتَّى قُلْنا: لَقَدْ جُنَّ الطَّبراني، وإذْ تَرَكْناه مِنَ الدَّقَائِقِ خَمْسا، تَعِبَ وأشْبَعَنا لُهَاثاً وسُعَالاً وعَطْسا، وصَارَ يَنْتَفِضُ كَدِيكٍ مَذْبُوح، فَانْتَظَرْنَا لِتَهْدَأَ مِنْهُ الأَنْفَاس، لنسْأَلَهُ عَنْ سِرِّ ذَلِكَ اللِّبَاس.
    ثمّ إنَّ رَجُلاً مِنّا قَامَ نَحْوَه سَاعِياً، وقَالَ: "ذَكَّرْتَني الطَّعْنَ وكُنْتُ نَاسِيَا"، فَقَالَ طَرِيْدُ الزَّمَان: هَذا جُزْءٌ مِنَ الحِكَايَة، وانتظرْنَا سَاعةً زًمَنِيّة، حَتَّى بَدَأَ يَحُلُّ لنا تلكَ الأُحْجِيَّة، التي حَوّلَتْ هَذا "الخِتْيَار" .. فَارِسَاً لا يُشَقُّ لَهُ غُبَار.
    قَالَ طَريدُ الزَّمَان: كُنْتُ أَقْضِي سَاعَاتٍ مَرِيرة، أمَامَ شَاشَةِ الجَزِيْرَة، أَتَسَقَّطُ بُشْرَى تُثْلِجُ الصُّدُور، وتُبْرِدُ غُلَّةَ القَلْبِ المَحْرور، وإذا بالقَنَاةِ تَعْرِضُ جَانِباً مِنْ مُؤْتمرِ القِمّة، فَاسْتَبْشَرْتُ بزَوَالِ الغُمَّة، وأَذْهَلَني أنّي رأيْتُ بينَ الحَاضِرينَ دُرَيْداً بنَ الصِّمَة ، وقَدْ أَدْرَكَهُ الكِبَر، وَعَلاه القَتَر، وتَيَبَّسْت مِنْهُ الشَِفَاه، فَوَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى أنْ أبْحَثَ عَنْهُ حَتَّى أَلْقَاه، فَأَسْأَلَه عَنْ غَزِيَّة، وأناقِشَه فِيمَا طَرَأَ عَلَى القَضِيَّة.
    ثُمَّ إنّي اِسْتَأْجَرْتُ رَكُوباً ويَمَمْتُ شَطْرَ هَوَازِن، في أيَامٍ عانيتُ خِلالهَا الحَرَّ والقرّ، إذْ أَقْبَل عَليَّ شُبَاط، الَّذِي لَيْسَ عَلى كَلامِهِ رِبَاط، وعانَيْتُ الجُوعَ والخَصَاصَة، وتَعاوَرَتْ عَليّ أرْضُونَ خَصبةٌ طَرِيَّة، وأُخْرَى رَصْرَاصَة ، ودَعَوْتُ الحَكِيمَ العَزِيز، أنْ يَقِيَنِي شَرَّ مَا يَحْمِلُهُ مَاءُ النَّاهُورِ وهَزيمُ الإِرْزِيز ، وأن يُلْهِمَني الصَّبْرَ عَلَى مَا عَزَمْتُ عَلَيْه، حَتَّى أوصَلَني عَزْمي إِلَيْه، فنَزَلْتُ عَنْ رَكُوبي وأَمْسَكتُ لِجَامَه، وكَانَ دريدٌ يَبْرِي سِهَاماً أَمَامَه، فَقُلْتُ لَهُ: أَنَا طَريدُ الزَّمَان الطَّبراني، وإذ ذاكَ قَامَ على كِبَره وحَيَّاني، وبادَرَني بابتسامَةٍ نَدِيّة، قائلاً: أَهْلاً بابنِ طَبَرِيَّة، تلك المدينةِ التي حَفِظَ النّاسُ في صُدورِهِم مَواويلَها، وذَكَرُوا في قَصَائِدِهم قَنَاديلَها ..
    ثُمَّ إنّ الشَّاعِرَ الفارِسَ أكْرَمَني، فصَرَفَ عَنِّي شَبَحَ الجُوع، وجَاءَني بِحَشِيّةٍ، ولكنَّني رفَضْتُ الهُجُوع، فَقَالَ: تَتَحَدَّى الكَرَى وَقَدْ خَارَتْ مِنْكَ القُوَى وفَتَرَتْ الهِمّة، قُلْتُ: مَا جِئْتُ إلا لتُحَدّثَني عَمّا جاءَ بِكَ إلى مُؤْتَمَرِ القِمَّة، قَالَ: دَبَّرْتُ رَأْسِي في أَحَدِ الوُفُود، بَعْدَ أنْ حَلَفْتُ لهم بالتزامِ العُهُود، وَحِينَ اشتَرَطُوا عَليَّ أَنْ أكْتَفِيَ بِصِفَةِ المُرَاقِب، لم أستَطِعْ أنْ أُغَالِب. قُلْتُ: فَحَدّثْني عَن إِحْدَى الجَلَسَات، فَقَال:
    تبادَلْنا القُبَلَ مَع أَصْحَاب الجَلالةِ والسَّعادةِ والنّيافة، وشَكَرْنا صَاحِبَ الدَّارِ عَلَى حُسْن الضِّيَافَة، وشَدَّدْنا على مَلاحقةَ الجَماعَاتِ المارِقَة، وأكّدْنا قَرَاراتِ القِمَمِ السَّابقة، وطالبْنا بِعَمَلِ جَميعِ اللِّجَان فورَ تشكيلِها، ودَعَوْنا إلى ضَرورةِ تَفْعيلِها..
    فقُلْتُ مِن فَوري: وَدَعَوْتم لتَفْعِيل المبَادرةِ العَرَبيّة التي أقَرَّتها قِمَّةُ بيروت ، وقُلْتُم: "لا يَفْنى الغَنَمُ ولا الذّئْبُ يَمُوت"، واستَنْكَرْتُم الإِرْهَابَ الَّذِي يَسْتَهْدِفُ المَدَنِيّين، وأدَنْتُم الحَرْبَ الإسرَائِيليَّةَ عَلَى لُبْنَانَ وغَزَّةَ وجِنين، وَمَا انْفَرَطَ عِقْدُ المجْلِس حَتَّى أوْصَى.. بشَجْبِ الاعتِدَاءَاتِ عَلَى حُرْمَةِ المَسْجِدِ الأقْصَى، وتَوْجِيهِ تحيّةِ الاِعْتِزَازِ والإِكْبَارِ إِلَى الشَّعْبِ العَرَبيّ في فِلَسْطِيْنَ ولُبْنَان، وفي هَضْبةِ الجُولان، مُشِيدِينَ بتَمَسُّكُهِ بالهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّة، دَاعِينَ إلى تَعزيزِ التّضامُنِ بينَ البِلادِ العَرَبيَّة.
    ثم تابَعْتُ في اضْطِراب، وهَوَ يَنْظُرُ إليَّ في دهَشٍ واسْتِغْرَاب:
    كَمَا عَالجتُم قَضَايَا الخِلافَ مُعَالجةً لُغَويَّة، تَفَادِياً لأيّةِ تَوَتُّراتٍ قَدْ تُهَدِّدُ الوَحدةَ القَوميَّة، ولجَأتم فِيْهَا إلى المَهَادَنَة، واكتَفَيْتُم بعِبَارَاتِ المُدَاهَنة، ودبَّجْتُم عِبَارَاتٍ مُلْتَبسةً لا تُزْعِجُ العَدُوَّ ولا الصَّدِيق، واتخَذْتُم قَرَارَاتٍ لا تَجِدُ طَرِيقَهَا إلى التَّطْبِيق.
    قَالَ دُرَيد: كَأنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا، فَفِيمَ إِلحَافُك في السُّؤَال، وأَنْتَ أعلَمُ منّي بالحَالِ والمَآَل؟
    قُلْتُ: "هَذَا مَا شَابَتْ لَهُ سُودُ النَّوَاصِي، وعَرَفَهُ الدَّاني والقَاصِي، ولَكِنَّنِي سَألتُكَ عَن الجَلَساتِ المُغْلَقَةِ حَيْثُ يَحْمَى الوَطِيس، وَرَاءَ الكَوَاليس، فَهَلّا حَدّثْتَني عَنْ جَلسةٍ شَهِدَتْ حِوَاراً عَاصِفاً، هَذَا إذَا لم تَكَنْ خَائِفاً!!. وإذْ ذَاكَ انتَفَضَ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ السُّبة، وَكَأنَّما ضَرَبْتُهُ عَلَى رَأسِهِ بالإِرْزَبّة :
    "لَقَدْ غَزَوْتُ مِائَةَ غَزَاةٍ أو يَزِيد، فَمَا كُنْتُ بهيّابٍ ولا رِعْديد، وكُنْتُ أَشُلُّ القَوْمَ بالسَّيفِ فيَذْهَبُونَ شِلالا، ولا يُطِيقُونَ نِضَالا، فَكَيْفَ أَخْشَى الأَثَام، بِسَبَبِ مَا أَقُولُهُ مِنَ الكَلام؟"
    ثُمَّ إِنَّه استَنْفَرَ للقِيَام، فَتَمَسَّكْتُ بِهِ مُعْتَذِرا، فَهُوَ أطولُ الفُرْسَانِ غَزْواً، وأَبْعَدُهُم أثَرا، وهُوَ أيمنُهُم نَقِيبةً وأكثَرُهُم ظَفَرا، وإذْ عَادَ إليهِ هُدُوءُ الحَال، نَظَرَ إليّ في ابتِسَامٍ، وَقَال:
    لَوْ لم تَكُن ابنَ طَبَرِيّة الَّتي قَالَ فِيهَا عِمَادُ الدِّينِ الأصْفَهَاني :
    وقَدْ طَابَ ريّاناً عَلَى طَبَرِيَّةٍ فَيَا طِيبَها رِيّاً وَيَا حُسْنَها مَرْسى
    لأوْكَلْتُ أمْرَكَ إلى غَيْرِي، وقُمْتُ مِنْ فَوْرِي، فَقُلْتُ: وهَلْ زُرْتَها فَأَعْجَبتْكَ مَغَانيها؟ وَهَلْ رَأَيْتَ بُحَيْرَتَها لَيْلاً، وَنَظَرْتَ فَرَأيْتَ النُّجُومَ في نَوَاحِيها، حَتَّى حَسِبْتَ سَمَاءً رُكِّبتْ فِيْها؟ ، قال: لم أَشْرُفْ بِزِيَارَةِ تِلْكَ المَغَاني، فَحَدِّثْني عَنْها أيُّها الطَّبَرَاني. وَمَا زِلْتُ أُحَدِّثُه عَنْهَا بِقَلْبٍ مُشْتاق، للأرْضِ والمَاءِ والرِّفَاق، حَتَّى أطَلْتُ المَقَال، ثمَّ ألحَفْتُ عَلَيْه مِنْ جَديدٍ بالسُّؤال، فَحَدِّثْني عَمّا يَجْرِي في الجَلَسَاتِ المُغْلَقة، في اِجْتِمَاعَاتِ أصحَابِ السُّلطةِ المُطْلَقة، فَقَالَ دُرَيدٌ:
    طَلَبْتُ في إِحْدَى الجَلَسَاتِ أنْ أقرَأَ لهم قَصِيدة، فَحَدَجَني أَحَدُهُم صَارِخاً: إنها مَكِيدة، وَمَا أنتَ إلا عضوٌ مُراقِب، مِنْ حَقِّكَ أنْ تَغْدُوَ وَتَرُوح، وتَضْحَكَ وتَنُوح، ولَكِنَّ الاِشْتِرَاكَ بالشِّعْرِ غيرُ مَسْمُوح، ثمّ إنَّ وَقْتَنَا مِنْ ذَهَب، فهل نهدُرُهُ في سَمَاعِ الشِّعْرِ والأدَب؟
    وبَعْدَ صِيَاحٍ وهِيَاج، وصَرَخَاتِ احتِجَاج، قَالَ أَحَدُهُم: هَاتِ مَا عِنْدَكَ بِاخْتِصَار، وَلا تَلْجَأْ للَّمْزِ مَكَانَ الإبانَة، حَتَّى لا نُعِيدَكَ إلى بَطْنِ رَيْحَانة ، فَغَفَرْتُ لَهُ بَذَاءَةَ اللّسَان، حَتَّى لا يُشَقَّ صَفُّ غَسّان وعَدْنَان، ولَوْلا ذَلِكَ لبَعَجْتُ بَطْنَهُ بالسِّنَان، ثم إني قَرَأتُ أبياتاً شِعْرِيّة، مِنْ قَصِيدةٍ دَاليَّة، كُنْتُ قَدْ قُلْتُها في الرِّثاء، بَعْدَمَا رَافَقْتُ أخِي في الضَّرَّاء، ومَطْلَعُهَا:
    "أَرَثَّ جَديدُ الحَبْـلِ مِـنْ أُمِّ مَعْبَـدِ؟"
    فَقُلْتُ، وقَد تدفَّقَتْ عَلَى خَاطِري قَوَافِيها: أهي الفَريدةُ التي تَقُولُ فيها:
    وَهَلْ أنا إلا مِنْ غَزِيّةَ إنْ غَـوَتْ غَوَيْتُ، وإنْ تَرْشُدْ غَـزِيَّةُ أَرْشُـدِ
    دَعَاني أَخِي، والخَيْلُ بَيْنِي وَبَيْنَـهُ فَلَمَّا دَعَاني لَـمْ يجدْنـي بِقُعْـدَدِ
    تَنَادَوْا فَقَالُوا: أردَتِ الخَيْلُ فَارِساً فَقُلْتُ: أَعَبْدُ الله ذَلِكُـمُ الـرَّدِي؟؟
    نَظَرْتُ إِلَيْـهِ.. والرِّمَاحُ تَنُوشُـهُ كَوَقْعِ الصَّياصِي في النَّسيجِ المُمَـدَّدِ
    فَطَاعَنْتُ عَنْهُ الخَيْلَ، حَتَّى تَنَهْنَهَتْ وَحَتّى عَلاني حَالِكُ اللَّـوْنِ أسْوَدِي
    فَقَالَ: هِيَ بعيْنِهَا، وَقَدْ اِسْتَقْبَلَ أَحَدُهُم القَصِيدَةَ بالبُكَاء، وُجُوبهتْ بِاسْتِياءِ عَشْرةِ أعْضَاء، ولاقَتْ استِحْسَانَ أربعةٍ بِتَصْفيقٍ حَارّ، فَهِيَ تحُضُّ عَلَى حِمَايَةِ الذِّمَار، بَيْنَمَا امتَنَعَ الآخَرُونَ عَن الاستِهْجَانِ أو التَّصْفِيق، حَتَّى لا يُحْسَبوا عَلَى أَيِّ فَرِيق، وَكَانَ أَشَدَّ مَا أثَارَ الاستِهْجَان، وضَاعَفَ الهيَجَان، إصْرَاري عَلى دَعْم غَزِيّة، بمقَوِّماتِ الصُّمُودِ المَاديَّة والعَسْكَريّة، حَتَّى قَالَ مِنْ بينِهِم قَائِل: أيّها السَّافل! ما أدخَلَكَ في هَذَا المُعْتَرَك، فَقُلْتُ: أعبِّرُ عَنْ إعْجَابي باتّفاقيَّة الدِّفَاعِ العَرَبيّ المُشْتَرَك. فَقَالَ:هَذا خِطَابٌ تحريضيٌّ مُتَطَرِّف، وأَنْتَ تهرِفُ بما لا تَعْرِف، قُلتُ: بَلْ قَرَأتُ تِلْكَ الاِتِّفَاقِيَةَ بتَفَاصِيلِها، وعُنيتُ بحِفْظِها وفَهمِهَا وتأصيلِهَا، فَوَقَرَتْ مَعَانِيْها في قَلبي، وَمَا أحضَرْتُ شيئاً من جيبي
    ثمَّ استَمَرَّ الصُّراخُ وتَرَاشُقُ الآرَاء، حَتَّى سَقَعَ ديكُهُم لِطَعَامِ العَشَاء، فَنَسِيَ الجَمِيعُ مسائِلَ الخِلاف، وانْطَلَقُوا لمَلْءِ الصِّحَاف، بِكُلِّ ما يُبْهِجُ العُيون، ويملأُ البُطُون.
    قُلْتُ، وَقَدْ استَنْفرَتْ مَعِدَتي رَائِحَةُ الكَلِمَات، وهَلْ تَرَى أيَّ أمَلٍ فِيمَا يَلِي مِن مُؤْتمَرَات؟
    فهَرْمَسَ وعَبَس، وصَمَتَ ومَا نَبَس، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّ مَنِيَّتَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيد، غَيْرَ أنّهُ استَأنَفَ كَلامَهُ مِن جَدِيد:
    لعلّ مِنَ المفارقَاتِ الّتِي تُدْمِي القَلْبَ الكَسِير، أنْ تَنْجَحَ في زَمَنٍ قَصِير، جَمَاعَاتٌ أورُوبِيَّة، وَأَمْرِيكِيَّةٌ لاتِينيَّة، في تَحْسِيْنِ ظُرُوفِهَا، وَرَصِّ صُفُوفِها، نَحْوَ التَّكَامُل التِّجَارِي والسِّيَاسِي، فِيمَا تُفَكِّر جمَاعَاتُنا بالكَرَاسِي، عَلَى الرُّغمِ مِن أنَّ الآخَرِيْنَ لم يَتَقَاسَمُوا مِثْلَنَا التَّارِيخَ والثَّقافَةَ وهُمُومَ الإنسَان، ولم تجمَعْ بينَهُم لُغَةُ الأدَبِ والبَيَان.
    قُلْتُ: فَحَدِّثني إذاً عَمّا تَجْنِيْهِ الأُمّة مِنْ مُؤتَمَرَاتِ القِمّة. فَقَالَ دُرَيْدٌ:
    لم تستَطِعْ هَذِهِ المُؤْتَمَرَاتُ الَّتي رَبَتْ عَلَى الثَّلاثين، أنْ تُقَرِّبَ المصَالحَ بينَ الأقْرَبين، وأَنْ تُقْنِعَ مُلُوكَ الطَّوَائِف، بتَوْحِيدِ المَوَاقِف، ولم تَقْدِرْ عَلَى إنهَاءِ لَوَاعِجِ الرِّيبةِ بَيْنَ الأشِقَّاء، وَلا أَنْ تُزَحْزِحَ مَشَاعِرَ الثِّقَةِ بالأعْدَاء، وإذَا اِسْتَمَرَّت الأَحْوَال، عَلَى هَذا المِنْوَال، فَلَنْ تَسْتَطيعَ الاجتِمَاعَاتُ أن ترفَعَ شَأْنَ العَرَب، إذْ إِنَّكَ "لا تَجْنِي مِنَ الشَّوِْك العِنَب".
    ثُمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان صَام، ولم يَجُدْ عَلَيْنا بمَزِيدٍ مِنَ الكَلام، حَتَّى سَأَلْنَاهُ عَن المقَامةِ القَادِمَة، فَقَالَ: تَأْتُونَ أيُّهَا الرِّفَاق، فَأُحَدِّثُكم عَنْ "نُزْهَةِ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق".
    21/2/2009

  7. #7
    تماما شكرا لك راما.
    واعتذر عن عدم انتظام الحلقات:
    نْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ(8)
    دُرَيْدُ بنُ الصِّمَة يُشَارِكُ في مُؤْتَمَرِ القِمَّة
    د. يوسف حطيني
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    دخَلْنا هَذَا المسَاءَ عَلَى الطَّرِيد، فَوَجَدْنَاهُ مُسَرْبَلاً بالحَدِيد، يلبَس لِبَاسَ الكَمِيِّ الهُمَام، ويَرِيشُ السِّهَام، وإذْ رَآنا هَبَّ قَائِلاً: أَهْلاً بالفُرْسَان، وَقَامَ يَرْقُصُ بالرُّمْحِ والسِّنَان، ثُمَّ بَدَأَ يَلْعَبُ بالسَّيْفِ اليَمَاني، حَتَّى قُلْنا: لَقَدْ جُنَّ الطَّبراني، وإذْ تَرَكْناه مِنَ الدَّقَائِقِ خَمْسا، تَعِبَ وأشْبَعَنا لُهَاثاً وسُعَالاً وعَطْسا، وصَارَ يَنْتَفِضُ كَدِيكٍ مَذْبُوح، فَانْتَظَرْنَا لِتَهْدَأَ مِنْهُ الأَنْفَاس، لنسْأَلَهُ عَنْ سِرِّ ذَلِكَ اللِّبَاس.
    ثمّ إنَّ رَجُلاً مِنّا قَامَ نَحْوَه سَاعِياً، وقَالَ: "ذَكَّرْتَني الطَّعْنَ وكُنْتُ نَاسِيَا"، فَقَالَ طَرِيْدُ الزَّمَان: هَذا جُزْءٌ مِنَ الحِكَايَة، وانتظرْنَا سَاعةً زًمَنِيّة، حَتَّى بَدَأَ يَحُلُّ لنا تلكَ الأُحْجِيَّة، التي حَوّلَتْ هَذا "الخِتْيَار" .. فَارِسَاً لا يُشَقُّ لَهُ غُبَار.
    قَالَ طَريدُ الزَّمَان: كُنْتُ أَقْضِي سَاعَاتٍ مَرِيرة، أمَامَ شَاشَةِ الجَزِيْرَة، أَتَسَقَّطُ بُشْرَى تُثْلِجُ الصُّدُور، وتُبْرِدُ غُلَّةَ القَلْبِ المَحْرور، وإذا بالقَنَاةِ تَعْرِضُ جَانِباً مِنْ مُؤْتمرِ القِمّة، فَاسْتَبْشَرْتُ بزَوَالِ الغُمَّة، وأَذْهَلَني أنّي رأيْتُ بينَ الحَاضِرينَ دُرَيْداً بنَ الصِّمَة ، وقَدْ أَدْرَكَهُ الكِبَر، وَعَلاه القَتَر، وتَيَبَّسْت مِنْهُ الشَِفَاه، فَوَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى أنْ أبْحَثَ عَنْهُ حَتَّى أَلْقَاه، فَأَسْأَلَه عَنْ غَزِيَّة، وأناقِشَه فِيمَا طَرَأَ عَلَى القَضِيَّة.
    ثُمَّ إنّي اِسْتَأْجَرْتُ رَكُوباً ويَمَمْتُ شَطْرَ هَوَازِن، في أيَامٍ عانيتُ خِلالهَا الحَرَّ والقرّ، إذْ أَقْبَل عَليَّ شُبَاط، الَّذِي لَيْسَ عَلى كَلامِهِ رِبَاط، وعانَيْتُ الجُوعَ والخَصَاصَة، وتَعاوَرَتْ عَليّ أرْضُونَ خَصبةٌ طَرِيَّة، وأُخْرَى رَصْرَاصَة ، ودَعَوْتُ الحَكِيمَ العَزِيز، أنْ يَقِيَنِي شَرَّ مَا يَحْمِلُهُ مَاءُ النَّاهُورِ وهَزيمُ الإِرْزِيز ، وأن يُلْهِمَني الصَّبْرَ عَلَى مَا عَزَمْتُ عَلَيْه، حَتَّى أوصَلَني عَزْمي إِلَيْه، فنَزَلْتُ عَنْ رَكُوبي وأَمْسَكتُ لِجَامَه، وكَانَ دريدٌ يَبْرِي سِهَاماً أَمَامَه، فَقُلْتُ لَهُ: أَنَا طَريدُ الزَّمَان الطَّبراني، وإذ ذاكَ قَامَ على كِبَره وحَيَّاني، وبادَرَني بابتسامَةٍ نَدِيّة، قائلاً: أَهْلاً بابنِ طَبَرِيَّة، تلك المدينةِ التي حَفِظَ النّاسُ في صُدورِهِم مَواويلَها، وذَكَرُوا في قَصَائِدِهم قَنَاديلَها ..
    ثُمَّ إنّ الشَّاعِرَ الفارِسَ أكْرَمَني، فصَرَفَ عَنِّي شَبَحَ الجُوع، وجَاءَني بِحَشِيّةٍ، ولكنَّني رفَضْتُ الهُجُوع، فَقَالَ: تَتَحَدَّى الكَرَى وَقَدْ خَارَتْ مِنْكَ القُوَى وفَتَرَتْ الهِمّة، قُلْتُ: مَا جِئْتُ إلا لتُحَدّثَني عَمّا جاءَ بِكَ إلى مُؤْتَمَرِ القِمَّة، قَالَ: دَبَّرْتُ رَأْسِي في أَحَدِ الوُفُود، بَعْدَ أنْ حَلَفْتُ لهم بالتزامِ العُهُود، وَحِينَ اشتَرَطُوا عَليَّ أَنْ أكْتَفِيَ بِصِفَةِ المُرَاقِب، لم أستَطِعْ أنْ أُغَالِب. قُلْتُ: فَحَدّثْني عَن إِحْدَى الجَلَسَات، فَقَال:
    تبادَلْنا القُبَلَ مَع أَصْحَاب الجَلالةِ والسَّعادةِ والنّيافة، وشَكَرْنا صَاحِبَ الدَّارِ عَلَى حُسْن الضِّيَافَة، وشَدَّدْنا على مَلاحقةَ الجَماعَاتِ المارِقَة، وأكّدْنا قَرَاراتِ القِمَمِ السَّابقة، وطالبْنا بِعَمَلِ جَميعِ اللِّجَان فورَ تشكيلِها، ودَعَوْنا إلى ضَرورةِ تَفْعيلِها..
    فقُلْتُ مِن فَوري: وَدَعَوْتم لتَفْعِيل المبَادرةِ العَرَبيّة التي أقَرَّتها قِمَّةُ بيروت ، وقُلْتُم: "لا يَفْنى الغَنَمُ ولا الذّئْبُ يَمُوت"، واستَنْكَرْتُم الإِرْهَابَ الَّذِي يَسْتَهْدِفُ المَدَنِيّين، وأدَنْتُم الحَرْبَ الإسرَائِيليَّةَ عَلَى لُبْنَانَ وغَزَّةَ وجِنين، وَمَا انْفَرَطَ عِقْدُ المجْلِس حَتَّى أوْصَى.. بشَجْبِ الاعتِدَاءَاتِ عَلَى حُرْمَةِ المَسْجِدِ الأقْصَى، وتَوْجِيهِ تحيّةِ الاِعْتِزَازِ والإِكْبَارِ إِلَى الشَّعْبِ العَرَبيّ في فِلَسْطِيْنَ ولُبْنَان، وفي هَضْبةِ الجُولان، مُشِيدِينَ بتَمَسُّكُهِ بالهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّة، دَاعِينَ إلى تَعزيزِ التّضامُنِ بينَ البِلادِ العَرَبيَّة.
    ثم تابَعْتُ في اضْطِراب، وهَوَ يَنْظُرُ إليَّ في دهَشٍ واسْتِغْرَاب:
    كَمَا عَالجتُم قَضَايَا الخِلافَ مُعَالجةً لُغَويَّة، تَفَادِياً لأيّةِ تَوَتُّراتٍ قَدْ تُهَدِّدُ الوَحدةَ القَوميَّة، ولجَأتم فِيْهَا إلى المَهَادَنَة، واكتَفَيْتُم بعِبَارَاتِ المُدَاهَنة، ودبَّجْتُم عِبَارَاتٍ مُلْتَبسةً لا تُزْعِجُ العَدُوَّ ولا الصَّدِيق، واتخَذْتُم قَرَارَاتٍ لا تَجِدُ طَرِيقَهَا إلى التَّطْبِيق.
    قَالَ دُرَيد: كَأنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا، فَفِيمَ إِلحَافُك في السُّؤَال، وأَنْتَ أعلَمُ منّي بالحَالِ والمَآَل؟
    قُلْتُ: "هَذَا مَا شَابَتْ لَهُ سُودُ النَّوَاصِي، وعَرَفَهُ الدَّاني والقَاصِي، ولَكِنَّنِي سَألتُكَ عَن الجَلَساتِ المُغْلَقَةِ حَيْثُ يَحْمَى الوَطِيس، وَرَاءَ الكَوَاليس، فَهَلّا حَدّثْتَني عَنْ جَلسةٍ شَهِدَتْ حِوَاراً عَاصِفاً، هَذَا إذَا لم تَكَنْ خَائِفاً!!. وإذْ ذَاكَ انتَفَضَ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ السُّبة، وَكَأنَّما ضَرَبْتُهُ عَلَى رَأسِهِ بالإِرْزَبّة :
    "لَقَدْ غَزَوْتُ مِائَةَ غَزَاةٍ أو يَزِيد، فَمَا كُنْتُ بهيّابٍ ولا رِعْديد، وكُنْتُ أَشُلُّ القَوْمَ بالسَّيفِ فيَذْهَبُونَ شِلالا، ولا يُطِيقُونَ نِضَالا، فَكَيْفَ أَخْشَى الأَثَام، بِسَبَبِ مَا أَقُولُهُ مِنَ الكَلام؟"
    ثُمَّ إِنَّه استَنْفَرَ للقِيَام، فَتَمَسَّكْتُ بِهِ مُعْتَذِرا، فَهُوَ أطولُ الفُرْسَانِ غَزْواً، وأَبْعَدُهُم أثَرا، وهُوَ أيمنُهُم نَقِيبةً وأكثَرُهُم ظَفَرا، وإذْ عَادَ إليهِ هُدُوءُ الحَال، نَظَرَ إليّ في ابتِسَامٍ، وَقَال:
    لَوْ لم تَكُن ابنَ طَبَرِيّة الَّتي قَالَ فِيهَا عِمَادُ الدِّينِ الأصْفَهَاني :
    وقَدْ طَابَ ريّاناً عَلَى طَبَرِيَّةٍ فَيَا طِيبَها رِيّاً وَيَا حُسْنَها مَرْسى
    لأوْكَلْتُ أمْرَكَ إلى غَيْرِي، وقُمْتُ مِنْ فَوْرِي، فَقُلْتُ: وهَلْ زُرْتَها فَأَعْجَبتْكَ مَغَانيها؟ وَهَلْ رَأَيْتَ بُحَيْرَتَها لَيْلاً، وَنَظَرْتَ فَرَأيْتَ النُّجُومَ في نَوَاحِيها، حَتَّى حَسِبْتَ سَمَاءً رُكِّبتْ فِيْها؟ ، قال: لم أَشْرُفْ بِزِيَارَةِ تِلْكَ المَغَاني، فَحَدِّثْني عَنْها أيُّها الطَّبَرَاني. وَمَا زِلْتُ أُحَدِّثُه عَنْهَا بِقَلْبٍ مُشْتاق، للأرْضِ والمَاءِ والرِّفَاق، حَتَّى أطَلْتُ المَقَال، ثمَّ ألحَفْتُ عَلَيْه مِنْ جَديدٍ بالسُّؤال، فَحَدِّثْني عَمّا يَجْرِي في الجَلَسَاتِ المُغْلَقة، في اِجْتِمَاعَاتِ أصحَابِ السُّلطةِ المُطْلَقة، فَقَالَ دُرَيدٌ:
    طَلَبْتُ في إِحْدَى الجَلَسَاتِ أنْ أقرَأَ لهم قَصِيدة، فَحَدَجَني أَحَدُهُم صَارِخاً: إنها مَكِيدة، وَمَا أنتَ إلا عضوٌ مُراقِب، مِنْ حَقِّكَ أنْ تَغْدُوَ وَتَرُوح، وتَضْحَكَ وتَنُوح، ولَكِنَّ الاِشْتِرَاكَ بالشِّعْرِ غيرُ مَسْمُوح، ثمّ إنَّ وَقْتَنَا مِنْ ذَهَب، فهل نهدُرُهُ في سَمَاعِ الشِّعْرِ والأدَب؟
    وبَعْدَ صِيَاحٍ وهِيَاج، وصَرَخَاتِ احتِجَاج، قَالَ أَحَدُهُم: هَاتِ مَا عِنْدَكَ بِاخْتِصَار، وَلا تَلْجَأْ للَّمْزِ مَكَانَ الإبانَة، حَتَّى لا نُعِيدَكَ إلى بَطْنِ رَيْحَانة ، فَغَفَرْتُ لَهُ بَذَاءَةَ اللّسَان، حَتَّى لا يُشَقَّ صَفُّ غَسّان وعَدْنَان، ولَوْلا ذَلِكَ لبَعَجْتُ بَطْنَهُ بالسِّنَان، ثم إني قَرَأتُ أبياتاً شِعْرِيّة، مِنْ قَصِيدةٍ دَاليَّة، كُنْتُ قَدْ قُلْتُها في الرِّثاء، بَعْدَمَا رَافَقْتُ أخِي في الضَّرَّاء، ومَطْلَعُهَا:
    "أَرَثَّ جَديدُ الحَبْـلِ مِـنْ أُمِّ مَعْبَـدِ؟"
    فَقُلْتُ، وقَد تدفَّقَتْ عَلَى خَاطِري قَوَافِيها: أهي الفَريدةُ التي تَقُولُ فيها:
    وَهَلْ أنا إلا مِنْ غَزِيّةَ إنْ غَـوَتْ غَوَيْتُ، وإنْ تَرْشُدْ غَـزِيَّةُ أَرْشُـدِ
    دَعَاني أَخِي، والخَيْلُ بَيْنِي وَبَيْنَـهُ فَلَمَّا دَعَاني لَـمْ يجدْنـي بِقُعْـدَدِ
    تَنَادَوْا فَقَالُوا: أردَتِ الخَيْلُ فَارِساً فَقُلْتُ: أَعَبْدُ الله ذَلِكُـمُ الـرَّدِي؟؟
    نَظَرْتُ إِلَيْـهِ.. والرِّمَاحُ تَنُوشُـهُ كَوَقْعِ الصَّياصِي في النَّسيجِ المُمَـدَّدِ
    فَطَاعَنْتُ عَنْهُ الخَيْلَ، حَتَّى تَنَهْنَهَتْ وَحَتّى عَلاني حَالِكُ اللَّـوْنِ أسْوَدِي
    فَقَالَ: هِيَ بعيْنِهَا، وَقَدْ اِسْتَقْبَلَ أَحَدُهُم القَصِيدَةَ بالبُكَاء، وُجُوبهتْ بِاسْتِياءِ عَشْرةِ أعْضَاء، ولاقَتْ استِحْسَانَ أربعةٍ بِتَصْفيقٍ حَارّ، فَهِيَ تحُضُّ عَلَى حِمَايَةِ الذِّمَار، بَيْنَمَا امتَنَعَ الآخَرُونَ عَن الاستِهْجَانِ أو التَّصْفِيق، حَتَّى لا يُحْسَبوا عَلَى أَيِّ فَرِيق، وَكَانَ أَشَدَّ مَا أثَارَ الاستِهْجَان، وضَاعَفَ الهيَجَان، إصْرَاري عَلى دَعْم غَزِيّة، بمقَوِّماتِ الصُّمُودِ المَاديَّة والعَسْكَريّة، حَتَّى قَالَ مِنْ بينِهِم قَائِل: أيّها السَّافل! ما أدخَلَكَ في هَذَا المُعْتَرَك، فَقُلْتُ: أعبِّرُ عَنْ إعْجَابي باتّفاقيَّة الدِّفَاعِ العَرَبيّ المُشْتَرَك. فَقَالَ:هَذا خِطَابٌ تحريضيٌّ مُتَطَرِّف، وأَنْتَ تهرِفُ بما لا تَعْرِف، قُلتُ: بَلْ قَرَأتُ تِلْكَ الاِتِّفَاقِيَةَ بتَفَاصِيلِها، وعُنيتُ بحِفْظِها وفَهمِهَا وتأصيلِهَا، فَوَقَرَتْ مَعَانِيْها في قَلبي، وَمَا أحضَرْتُ شيئاً من جيبي
    ثمَّ استَمَرَّ الصُّراخُ وتَرَاشُقُ الآرَاء، حَتَّى سَقَعَ ديكُهُم لِطَعَامِ العَشَاء، فَنَسِيَ الجَمِيعُ مسائِلَ الخِلاف، وانْطَلَقُوا لمَلْءِ الصِّحَاف، بِكُلِّ ما يُبْهِجُ العُيون، ويملأُ البُطُون.
    قُلْتُ، وَقَدْ استَنْفرَتْ مَعِدَتي رَائِحَةُ الكَلِمَات، وهَلْ تَرَى أيَّ أمَلٍ فِيمَا يَلِي مِن مُؤْتمَرَات؟
    فهَرْمَسَ وعَبَس، وصَمَتَ ومَا نَبَس، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّ مَنِيَّتَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيد، غَيْرَ أنّهُ استَأنَفَ كَلامَهُ مِن جَدِيد:
    لعلّ مِنَ المفارقَاتِ الّتِي تُدْمِي القَلْبَ الكَسِير، أنْ تَنْجَحَ في زَمَنٍ قَصِير، جَمَاعَاتٌ أورُوبِيَّة، وَأَمْرِيكِيَّةٌ لاتِينيَّة، في تَحْسِيْنِ ظُرُوفِهَا، وَرَصِّ صُفُوفِها، نَحْوَ التَّكَامُل التِّجَارِي والسِّيَاسِي، فِيمَا تُفَكِّر جمَاعَاتُنا بالكَرَاسِي، عَلَى الرُّغمِ مِن أنَّ الآخَرِيْنَ لم يَتَقَاسَمُوا مِثْلَنَا التَّارِيخَ والثَّقافَةَ وهُمُومَ الإنسَان، ولم تجمَعْ بينَهُم لُغَةُ الأدَبِ والبَيَان.
    قُلْتُ: فَحَدِّثني إذاً عَمّا تَجْنِيْهِ الأُمّة مِنْ مُؤتَمَرَاتِ القِمّة. فَقَالَ دُرَيْدٌ:
    لم تستَطِعْ هَذِهِ المُؤْتَمَرَاتُ الَّتي رَبَتْ عَلَى الثَّلاثين، أنْ تُقَرِّبَ المصَالحَ بينَ الأقْرَبين، وأَنْ تُقْنِعَ مُلُوكَ الطَّوَائِف، بتَوْحِيدِ المَوَاقِف، ولم تَقْدِرْ عَلَى إنهَاءِ لَوَاعِجِ الرِّيبةِ بَيْنَ الأشِقَّاء، وَلا أَنْ تُزَحْزِحَ مَشَاعِرَ الثِّقَةِ بالأعْدَاء، وإذَا اِسْتَمَرَّت الأَحْوَال، عَلَى هَذا المِنْوَال، فَلَنْ تَسْتَطيعَ الاجتِمَاعَاتُ أن ترفَعَ شَأْنَ العَرَب، إذْ إِنَّكَ "لا تَجْنِي مِنَ الشَّوِْك العِنَب".
    ثُمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان صَام، ولم يَجُدْ عَلَيْنا بمَزِيدٍ مِنَ الكَلام، حَتَّى سَأَلْنَاهُ عَن المقَامةِ القَادِمَة، فَقَالَ: تَأْتُونَ أيُّهَا الرِّفَاق، فَأُحَدِّثُكم عَنْ "نُزْهَةِ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق".
    21/2/2009

المواضيع المتشابهه

  1. مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني(1)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأدب الساخر
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-26-2013, 01:05 PM
  2. مَا تَيَسَّرَ مِنْ بُكَاءْ
    بواسطة محمود قحطان في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 10-19-2009, 03:01 PM
  3. أكثرُ مِنْ جَسَدْ
    بواسطة المحامي منير العباس في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 08-11-2009, 08:59 PM
  4. مَا مِنْ غَرَامٍ
    بواسطة د.هزاع في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-29-2007, 09:00 AM
  5. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
    بواسطة القبطان في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 07-05-2006, 01:07 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •