لا من يعالجني من "تداعي المعاني" كي لا أصابَ بـ "الوسواس القهري" (؟!)
يبدو أنني مصاب بمرض نفسي مردُّه إلى "تداعي المعاني"..
ولأني أخشى أن يستحكمَ هذا المرض في نفسي "شديدة التعقيد" متحولا إلى "وسواس قهري"، فإنني سوف أعرضُ في هذا البوست آخرَ أعراضِ هذا التداعي كما مررتُ بها اليوم، متمنيا على القراء الأعزاء أن لا يقصِّروا في ترشيح طبيب نفسي قدير يستطيع التعاطي فيَّ مع هذا المرض الخطير قبل أن يتحول إلى داء وبائي (!!)
ولأن هذا المرض يستدعي لديَّ ما ينطبق عليه القول الشهير، "الشيءُ بالشيء يُذْكَر"، فإنني سأذكر الشيءَ "المُسْتَدْعَى"، تاركا الشيءَ "المُسْتَدْعِي" الذي لست متأكدا منه يقينا (!!)
الأمر "........" الذي لست متأكدا منه يقينا، استدعى فيَّ قهريا "عيد العمال"..
لا تندهشوا فسوف تزول كلُّ دواعي الدهشة عندما تفهمون في هذا "العيد" ما تَمّ استدعاؤُه بسبب الأمر "........." الذي سأتركه لخيال القراء وذكائهم اللذين أثق فيهما (!!)
فعيد العمال لمن لا يعرف، لا علاقة له بفكرة "العمل" ذاتها، ولا بـ "العمال" ذاتهم بوصفهم صناع قيمة "المُنتجات السلعية والخدمية" الأساسيين..
كما أنه لم يظهر لا في مجتمعات اشتراكية ولا في أخرى شيوعية للعمل والعمال في معتقداتها مكانة التقديس..
بل هو مع الأسف "عيد" ولدَ ونشأ وترعرع في معقل الرأسمالية العالمية "الولايات المتحدة الأميركية"، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما كانت الشيوعية والاشتراكية ما تزالان في مرحلة التكوُّن الجنيني..
ولهذا العيد قصة أقرب إلى الخيال العلمي أسَّسَت لها فكرة "البلطجة" التي تستسهل إراقة الدماء لأجل توظيفها لغايةٍ سياسية، حتى لو كانت غاية رسمها الشيطان نفسه..
في أحد أعوام عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر كانت الحركة النقابية العمالية في الولايات المتحدة الأميركية قد أصبحت قوية وبدأت توسع في دائرة المطالب العمالية على حساب القوى الرأسمالية وأصحاب المصانع وأرباب الصاعات الكبرى، فتقدمت بمطالب تتعلق بتقليص ساعات العمل من 12 ساعة إلى 9 ساعات يوميا، بالإضافة إلى حقوق عمالية أخرى لها علاقة برفع معدل الحد الأدني لأجر ساعة العمل، وبعض التأمينات على إصابات العمل، وعلى الصحة.. إلخ..
كانت هذه الحزمة من المطالب كبيرة في نظر أرباب الصناعة الأميركيين الذي هم جزء من النظام السياسي الطبقي الحاكم بطبيعة الحال، فما كان منهم إلا أن رفضوا الاستجابة لهذه المطالب، الأمر الذي دفع بالنقابات العمالية إلى الدعوة لتنظيم مسيرات واعتصامات ومظاهرات عمالية عارمة في تعبيرٍ عن الإصرار على تلك المطالب، وتمَّ تحديد مكان وزمان وشكل تلك الفعاليات..
فما الذي حصل (؟!)
في يوم الفعاليات الكبرى، وفي أماكن الاعتصامات والمسيرات والتظاهرات، وفي قلب الحشود العمالية الهائلة تحدث تفجيرات دامية لقنابل موقوتة في أكثر من موقع أودت بحياة عشرات العمال..
وأثبت تحقيقات الـ "f.b.i" أي "مكتب التحقيقات الفدرالي"، أن من وضع تلك القنابل وسط الحشود العمالية، هم رؤساء وزعماء النقابات، كي يموت العمال وتراق دماؤهم، وتتمَّ نسبة هذه الأعمال الإجرامية إلى التحالف المُكَوَّن من "السلطة" و"أرباب الصناعة" بصفتهم أصحاب المصلحة في قتل العمال، فتزداد مطالب العمال جذرية ويصرون عليها، وكي تضعف من ثمَّ مواقف ذلك التحالف أمام الزحف العمالي بعد أن يظهرَ تحالفا مجرما قاتلا مسترخصا دماءَ المواطنين الأميركيين..
أي أن التحقيقات الرسمية أثبتت وبالدليل القاطع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن القَتَلَة المجرمون هم "قادة العمل النقابي" أنفسهم. وكانت النتيجة أن حدث انشقاق في الحركة النقابية العمالية الأميركية، وضعفت حدة المطالب العمالية، وخاصة بعد أن تمت إدانة قياديي النقابات العمالية بالقتل العمد، وتمَّ إعدامهم بموجب القانون..
ولكن كانت للتاريخ الأميركي كلمته القاسية بسبب صحوةِ ضميرٍ مفاجئة لقاتل لم يستطع أن يكتمَ في داخله حقيقة اللعبة القذرة التي أسهم فيها. وهذا ما حصل بعد وقت قصير من إعدام قياديي العمل النقابي الأميركيين..
أحد رجال الـ "f.b.i" يكشف المستور ويعترف أمام الشعب الأميركي وأمام الأميركيين وعبر وسائل الإعلام الأميركي، أن قادة العمل النقابي أبرياء وأنهم أعدموا ظلما. فمن رتَّبَ كلَّ هذه الجرائم هم قادة "مكتب التحقيقات الفيدرالي" بإذن مسبق من بعض رجالات الحكومة الأميركية، وبطلب من أرباب الصناعات، لخلق الشقاق والخلاف بين العمال وقيادييهم، ولكي تفشل الحركة النقابية في الولايات المتحدة، وتذهب إلى المزابل مطاالب العمال..
ولأن الولايات المتحدة مهما قيل عنها فيها من الحرية ما لا يمكنه المرور على مثل هذا الاعتراف الخطير مرور الكرام، فقد تمَّت إثارة الموضوع على أوسع نطاق فيما عُدَّ أكبر فضيحة في التاريخ الأميركي على الإطلاق. وبإعادة التحقيقات تبين كلُّ شيء، وثبتت صحة مقولة ذلك الرجل الذي صحا ضميره فجأة، فانقلب السحر على الساحر..
وما كان أمام السلطات الأميركية كي تُكَفِّرَ عن هذه الخطيئة غير المسبوقة في تاريخ البلطجة والتآمر القذرين في تلك الدولة، إلا أن قررت إعادة الاعتبار لهؤلاء الذي أعدموا غيلة وغدرا وظلما، بأن جعلت يوم إعدامهم يوما يُخلَّدَه الأميركيون باسم "يوم العمل" الذي يحتفلون به إحياءً لذكراهم في أول يوم اثنين من شهر "أيلول/سبتمبر" من كل عام..
لست أدري أيُّ شيطان وسوس لي بهذا التداعي العجيب (!!)
أم لعله ليس شيطانا، بل هو هاجس لا أفهمه (!!)
كل ذلك ممكن ومحتمل..
لكن المؤكد الوحيد في هذا "الوسواس القهري" الذي عانيت منه منذ الأمس وما أزال، هو أنني أسأل الله "صحوة ضمير" أَحَدِهم، كي لا تضيع قطرة دمٍ أهدرت بغير وجه حق هنا أو هناك، في هذا المكان أو في ذاك، جراء بلطجة بليدة من النوع الذي ابتكر أغرب أشكال الاغتيال السياسي في العالم، وهو القتل عبر إلقاء من يراد اغتياله من الطوابق العليا، كي يضيعَ دمه ويغدو من الصعب إثبات الجريمة على فاعلها أياًّ كان (!!)