مقتطفة من رسائل مجموعة الدكتور عبد العزيز قاسم البريدية :
لا شيء على الحقيقة في وطننا العربي يحمل دلالته كما هي، فالأسماء دوما في أوطاننا في غير موضعها، تحكي في غالبها الأعم قصة مشوهة عن قصتها الأصلية، والاستنساخ في أوطاننا أيضا في عوالم الأفكار والسياسة هو أيضا ابن هذا التشوه، إذ هو في الحقيقة تقاليع موضة وترقيع أسماء يحجز بها البعض مكانه في منظومة المصالح والاسترزاق بالكلمة.
الليبراليون في السعودية حالة فريدة من نوعها في هذا السياق، فهم متميزون جدا في خلط الأوراق وتسمية الأمور بغير مسمياتها وتكرار تجارب أصبحت مثيرة للضحك في أقطار عربية أخرى، ولأسباب متعددة فقد تأخر دخول التحديث والحداثيين في النقاش العام في المملكة العربية السعودية لأسباب متعددة أبرزها هو انشغال المملكة بمواجهة القوميين العرب، وهي الموجة التي تلحفت بالتنوير في مواجهة ما أسموه الرجعية.
هذا التأخر مكن المحافظين تدريجيا من عناوين الثقافة في المملكة كما أنه بسط لهم الساحة الشعبية ينشرون فيها خطابهم مالم يصطدم بخطوط حمراء. وبينما كان رموز ما يسمى التنوير العربي يثورون على الثوابت الدينية والرجعية والتخلف، ويبشرون بعصر أنوار عربي يبعث آمال الحضارة من جديد في مصر وسوريا والعراق ولبنان شمال أفريقيا، وتنامي صناعة السينما والمسرح والرواية والكتابات الثقافية، كانت المملكة تعيش مرحلة من تأكيد الذات والهوية الدينية في معركتها مع القومية العربية ورموزها.
والفارق الزمني المذكور أعلاه هو ما صنع لاحقا ما نتكلم عنه من سُخف العناوين التي يصدرها ليبراليو المملكة داخليا وخارجيا للتبشير بمشروعهم، حيث أنه وبعد محاولات من مراكز القوى لتخفيف سيطرة التيار الديني على الخطاب الثقافي، ومع تصاعد موجات ما يسمى الإرهاب وظهور داعش والقاعدة، يحاول الليبراليون الآن تقديم أنفسهم كمنقذ وحيد من هذا المصير "الداعشي".
وكما هو معلوم في صراع التيارات في المملكة، فالجميع يتصارع ولكن حول ود السلطة، وبالتالي يحاول التيار الليبرالي صناعة نبوءته في أنه المخلص من براثن التطرف و"الدعشنة"، حتى وجدنا من رموزه من يبشر بأن شيوع السينما وثقافة المسرح ستحد من ظاهرة "التدعيش"، وأن معاركهم حول حرية المرأة أو حرية السينما هي لب مشروع مواجهة الإرهاب والرجعية.
وأصبح من المشاع في النقاشات على تويتر -المتنفس الوحيد للنقاش السياسي في المملكة- أن يواجه الليبراليون كل خصومهم بأسلوب رخيص جدا، فإما "أن تكون معنا في مركب التنوير والحضارة" و"إما أن تكون مع داعش"، وهذه الصيغة بنت مرحلة "بوش" ليست غريبة على "جماعته" في مناطق العرب، فالإرهاب الفكري واستخدام عصا السلطة من طرف خفي واستدعاؤها باستدعاء الدعشنة والإرهاب، من أرخص أساليب الليبراليين التي باتت معهودة.
ولكن لا يدرك الليبراليون أن العناوين المثارة في معاركهم الحالية قد طافت كل بلدان العرب قبلهم، واستعانت بالسلطة دوما وبالقمع أحيانا كثيرة، وبالقتل أحيانا أخرى لفرض هيمنتهم على هذه المجتمعات، مبشرين بالعصر الذهبي للاعتدال والتحضر، ولم نر خلف كل ذلك إلا ازدياد موجات ما يسمى "التطرف"!
كذلك يتجاهل الليبراليون أن تبشيرهم الساذج بالقضاء على التطرف عبر دور السينما والمسرح، وسيادة الثقافة والتنوير يصطدم اصطداما مباشرا وحقيقيا بواقع دول عربية حققت نماذج علمانية متقدمة في السينما والمسرح والتعليم وأنظمة الحكم، إلا أنها مازالت تعتبر المصدر الأول عالميا لمن يسميهم الليبراليون "متطرفين".
فعلى سبيل المثال، فإن تونس ومصر وسوريا والعراق، لم تكن مشاكلها أبدا نابعة من نقص التنوير أو تمكن التيارات الدينية من الخطاب السياسي، فقد كانت دوما نماذج علمانية عربية ومدرسة للمثقفين العرب، كما كانت هذه الدول مصدرا للسينما والمسرح والدراما العربية، ولم تستطع عقود من التنوير المتواصل بالسينما والمسرح والرواية والأغنية والفن وتمكين المثقفين من الصحافة والإعلام، لم تستطع كل تلك العقود مواجهة التيارات الدينية السياسية منها والجهادية.
بل قد انعكست التجربة إلى نقيضها تماما، وأصبحت تلك الدول مركزا فعالا للعمل المسلح، ومصدرا أساسيا للتنظير العنيف ومنظريه، وأصبح أبناؤها يشكلون العصب الأساسي في بنية الجماعات المسلحة والجهادية في العالم أجمع، وهذا كله بعد عقود من سيادة السينما والإعلام والمسرح والرواية والتبشير التنويري العقلاني!
إن محاولة الليبراليين السعوديين التبشير بتجربة مغايرة عن هذه التجارب هو محض بيع للوهم، وسقوط في مستنقع الغرور والإنكار، فالمشكلة العربية تاريخيا واحدة، ولا يمكن للتخلف والجهل والفقر أن يترعرع عبر الخطاب الديني فقط، بل الأزمة هي أزمة الاستبداد، وهو الذي يخلق كل الخطابات المشوهة حوله، والخطابات العنيفة ضده، وبالتالي محاولة استدعاء سياقات منقوصة والتبشير بها أمر في غاية التدليس.
وتذكروا.. فقد عاشت شعوب عربية كل هذه الاكليشيهات قبلكم بعقود .. ولم تؤت ثمارها إلى اليوم!