وأنا أقرأ كتاب (شوربة الدجاج : لحياة الآباء) توقفت عند قصة (علبة المخلل)،فتذكرت ما كتبته سابقا تحت عنوان (كيف تسير الأمور؟ : من "بدي شب سعودي"إلى"فيش وتشبيه") ..لا نستطيع أن نحصي ما في الوطن من سلبيات ونقص .. من التعليم إلى البنية التحتية .. وصولا إلى الطب وما أدراك ما الطب .. ومع ذلك يظل الوطن له حق .. بعيدا عن مقولات المقايضة مع الوطن .. ماذا قدمنا له؟ وماذا قدم لنا؟ فهذا فكر مادي بحت،لا يفكر إلى في تبادل المصالح .. أما المسلم فينظر من زاوية أخرى .. مع حرصه على المطالبة بحقوقه ... السعودية تستحق أفضل من ذلك.قبل أن أنقل القصة .. أتذكر – ومن يقرأ القصة سوف يعلم سبب تذكري – أن ابن أخت زوجتي حين ذهب للدراسة في ماليزيا .. تعجب زملاؤه هناك ..تدرسون مجانا ... وتأخذون نقودا؟!!!!!!!!!!!!!!!!هذا الجانب الإيجابي جدا يستحق أن يقابل بالشكر ... أي الشكر العملي .. وأن تقدر هذه النعمة حق قدرها ..وقبل القصة – أيضا – أعتقد أن خطأ ما في القصة .. فالقضية ليست في العمل في (مصنع) فهذا عمل شريف مقدر .. القضية في هل يمنح رواتب مجزية؟ وهل يوفر ظروف عمل مريحة؟إلى قصة "علبة المخلل" أو بعضها :(على ما اذكر،كانت هناك علبة كبيرة موضوعة على الأرض بجوار منضدة التزين في حجرة والديّ،وعندما كان والدي يتهيأ للنوم،كان يفرغ جيوبه من قطع النقود المعدنية ويُلقيها في هذه العلبة. ولأنني كنت ساعتها طفلا صغيرا،فقد كان يعجبني صوت ارتطام النقود بالعلبة. كانت قطع النقود تصطدم بالعلبة مُحدثة صوت جلجلة جميلا عندما يكون فارغا تقريبا. ولكن عندما يكون ممتلئا،كان صوت الارتطام رتيبا كئيبا. اعتدت أن أجلس أمام العلبة،وأحدق النظر في الحلقات الذهبية والفضية التي كانت تبدو مثل كنز القرصان،عندما تتخلل أشعة الشمس الذهبية حجرة والدي.عندما كانت العلبة تمتلئ عن آخرها،كان والدي يأخذها إلى البنك. كان أخذ النقود إلى البنك يُعد حدثا كبيرا في منزلنا. وكان والدي يرص قطع النقود بثقة وإتقان في صندوق ورقي ويضعها بيني وبينه في شاحنته القديمة. وفي كل مرة كنا نذهب فيها إلى البنك،كان والدي ينظر إليّ وعيناه يملؤهما الأمل يقول : "هذه القطع ستحميك من مصنع النسيج يا بُني،ولن يفلح مصنع هذه المدينة في أن يعوقك عن تحقيق أحلامك". وفي كل مرة كان يدفع بالصندوق عبر المنضدة إلى موظف الخزينة،كان يقول بكل فخر : "هذه النقود أدخرها من أجل مصاريف ابني الجامعية،لن أسمح له بأن يُفني حياته في المصنع كما فعلت أنا".كنا دائما ما نحتفل بكل مرة نودع فيها النقود في البنك بالتوقف لدى بائع الآيس كريم كي نتناول بعضا منه. كنت أتناول آيس كريم الشكولاته،أما والدي فكان يتناوله بالفانيليا،وعندما كان بائع الآيس كريم يناول أبي بقية النقود،كان والدي يقول لي : "عندما نعود إلى المنزل،سنبدأ في ملئ العلبة مرة أخرى".كان والدي يجعلني دائما أول من يُلقي بالنقود في العلبة،وعندما كانت تحدث صوتا بسيطا مرحا وهي تسقط في العلبة،كنا أنا ووالدي ننظر إلى بعضنا البعض في تبسم،وكان والدي يقول : "ستلتحق بالجامعة من ادخار هذه البنسات والأعشار والنكلات،لكنك حتما ستلتحق بالجامعة،أنا سأضمن لك ذلك".ومرت السنون،وأنهيت دراستي الجامعية،والتحقت بوظيفة في مدينة أخرى،وفي مرة من المرات،كنتُ أقوم بزيارة لواديّ،واستخدمت الهاتف الموجود بحجرة نومهما،ولاحظت اختفاء العلبة،لقد أدت الغرض منها،وتم التخلص منها. أحسست بغصة في حلقي وأنا أحدق في المكان الذي اعتادت أن ترقد فيه العلبة بجوار منضدة التزين. كان والدي قليل الكلام،ولم يلق عليّ يوما محاضرة في المثابرة والجَلَد والإيمان. لقد علمتني هذه العلبة هذه القيم بأسلوب أكثر وأشد بلاغة من أية كلمات مُنمقة.عندما تزوجت،أخبرت زوجتي سوزان عن الدور المهم الذي لعبته هذه العلبة الصغيرة في حياتي. أما في عقلي،فكانت هذه العلبة أكثر من أي شيء آخر في الوجود،يُجسد لي كم كان والدي يحبني،ومهما كانت الظروف قاسية في المنزل،حرص والدي أشد الحرص على أن يدس قطع النقود في العلبة خِلسة حتى عندما كان يترك العمل بالمصنع في الصيف،وتضطر والدتي إلى طهي الفاصوليا الجافة عدة مرات في الأسبوع الواحد،لم تكن يده تمتد إلى النقود في العلبة. بل على العكس من ذلك،فكلما جلس والدي إلى مائدة الطعام يصب بعض الكاتشاب على الفاصوليا كي أستسيغ مذاقها،كان يزداد تصميما أكثر من أي وقت مضى على أن يجعل لي سبيلا للخروج مما أنا فيه. وكان يقول وعيناه تلمعان : "عندما تُنهي جامعتك يا بُني لن تكون مضطرا لتناول الفاصوليا مرة أخرى،إلا إذا كنت ترغب في ذلك".){ 3 – 4 (قصة "علبة المُخلل" : إيه. دبليو. كوب / شوربة الدجاج لحياة الآباء : قصص حب،وتعلم،وأُبوة) / مجموعة من الكتاب / مكتبة جرير / الطبعة الأولى / 2002م}.من تبهره حضارة الغرب عليه أن يعرف أنها لم تأت من فراغ .. ولم تأت من أفكار نظرية فقط ..أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 20/4/1434هـتستحق أفضل من ذلك