لذة تذوق المعاني في الأواني
بقلم : تحسين يحيى أبو عاصي – كاتب فلسطيني مستقل –
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
عندما يتذوق المرء المعاني ، تفتعل بكينونته مشاعر وأفكار ، ربما يكون لها تأثيرا جيدا يؤدي إلى تغيير أو طفرة من نوع ما على صعيد ذاته ، بحيث يصبح لها كثيرا من الايجابيات والمنافع ، فالمرء يتعلم ما دام هو على هذه الحياة الدنيا ، وخير تعليم له هو ما أدّى إلى وضع بصمات جميلة على شخصيته وفكره بعيدا عن غرور النفس وكبريائها وأمراضها .
فرق كبير بين أن نقرأ الكلمة أو نشاهد منظرا جميلا أو نسمع عن حدث ما ، وبين أن نتذوق ما نقرأ ونشاهد ونسمع ، بحيث يكون للتذوق أثرا ما أو إيحاءا خاصا أو إيقاعا متميزا على مداركنا وعقولنا وأنفسنا وأعصابنا ، من اجل ذلك يخرج الكثير لأماكن التنزه والاستجمام ، يبحثون عن وقت يفرغون فيه شحنات متاعبهم وهمومهم بفعل عامل التأثير أو الأثر والمؤثر على العين والأذن والعقل ، حيث التأثير الجميل والذي يبلغ أوجه في لحظات إنصاف الذات أمام محكمة الضمير .
وتتجلى على الإنسان كثير من المعاني والصفات المتضادة ، وتتعاقب عليه كما يتعاقب عليه الليل والنهار، فتتجلى عليه الصحة كما يتجلى عليه المرض ، والغنى والفقر ، والراحة والتعب ، والشبع والجوع ، والحلم والغضب ، والقوة والضعف ، وكلها صفات معنوية يدركها الإنسان ويتذوق معانيها عندما يشرب من كؤوسها حال تجليها .
وإذا وقع بصر الإنسان على جسم ما ، كوردة على سبيل المثال ، أو حديقة أو منظرا جميلا أو تأمل جمال الكون في لحظات شروق الشمس أو غروبها ، ثم أخذ يتأمل في معاني ما يقع عليه بصره بقليل من التذوق الروحاني ؛ لوجد أن ثمة علما كبيرا محجوبا عنه ، فهو ينظر إلى الوردة متأملا لونها وملمسها ورائحتها وشكلها وهندستها ؛ لعله بذلك ينفعل معها إلى ما وراء حجاب الكلمات والمعاني ، ففي دراسة أصدرها مركز البحوث الأمريكي سنة 1991 جاء فيها : أن النبات يتأثر بالإنسان إلى درجة كبيرة فيفرح ويحزن ، وكشفت الدراسة بحثا مطولا في هذا المجال .
كنت جالسا على شاطئ البحر قبل الغروب بقليل ، وكانت موجات البحر المتعاقبة على الشاطئ تداعب قدمَيّ ، وتأملت كيف تصافح موجات البحر رمال الشاطئ المائلة للصفرة وترسم عليها خريطة عشوائية ؛ فينفعل معها الشاطئ كما تنفعل الموجات برفق وجمال ، وأثناء ذلك كانت تهب نسمات الهواء المنعش لتصافح وتداعب الوجوه ، وكانت مشاعر الصغار والكبار تنفعل واضعة بصماتها على تراب الشاطئ ، وهم يشكلون من رسوماتهم الرملية المجسمة ما أرادوا بتعبير عفوي جميل ، أو يجلسون جلسات استرخاء وكأنهم يبثون إلى البحر شكواهم وهمومهم المكبوتة في حالة من الاندماج والتأمل ....
إن لذة تذوق الإنسان للمعاني في الأواني نعمة كبرى محجوب عنها الكثير إلا من رحم ربي ، فيجعله يُحلق في روحه بعيدا في سبر الملكوت كما يجعله يبحر عميقا في بحار المعاني ؛ فيستخرج من مكنوناتها ما ينسجم مع كينونته لتستريح نفسه ولو قليلا من عالم حافل بقسوة القلب ، وتحجر العقل وغفلة الضمير وغياب الإيمان ..... حينئذ يتيقن المرء أنه وفي كل شيء له آية تدل على انه الواحد ، فسبحان الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وخلق الإنسان من طين ، فإذا أيقن المرء ذلك أنس بربه ومولاه ، وشعر بلذة لو عرفها الملوك لقاتلوه عليها بالسيوف .
مدونتي
www.tahsseen.jeeran.com : واحة الكتاب والمبدعين المغمورين