مذكرات أميرة عربية من أقــــدم النصـــــوص النسائية المعاصــرة
لغة الاغتراب وقسوة المنفى وسطوة الحنين
تحاول هذه المقالة التوقف إضاءةً وبحثاً في أثر أدبي.. لعله من اقدم النصوص النسائية العربية في العصر الحديث، لما يحمل من ارهاصات وفهم مبكر لتلك الاتجاهات في العالم الرأسمالي والتي تنامت مع بدايات القرن العشرين، واشارةً الى حتمية بناء كل امة نظامها الحضاري الممنوح من كينونتها...
تعد مذكرات اميرة عربية لسالمة بنت سعيد (1844-1924) من اقدم النصوص النسائية العربية المعاصرة التي تحكي سيرة امرأة عربية وترسم الآفاق التي تشكّلت برحابها.
ولا بد لقارىء « مذكرات اميرة عربية» من أن يقع على حزمة من التجارب الحياتية المبثوثة فيما يُعرف «بأدب السيرة الذاتية» ،والتي تميط اللثام عن حقبة تاريخية منضوية في اتون المصير المحتم لاميرة اوصلت لنا ملامح وخبايا ذاتها، والتي يصعب على صاحبها ادراكها والمترعة بلعنة الاغتراب وقسوة المنفى وسطوة الحنين .
ولعل التوقف عند الخلفية التاريخية التي صاحبت نشر المذكرات تشكل ارضية لا بد منها للاحاطة بتلك التجربة، التي خاضتها امرأة عربية في المنفى ، فقد كانت الاميرة سالمة مقيمةً في المانيا عند كتابة مذكراتها وصدورها تساوي الحقبة التي اقامتها في رنجبار، وما يشكل ذلك من كشف للقارىء الاوروبي عن معالم شخصية صاحبتها والخلفية الحضارية التي جسدتها بما تحفل به المذكرات من تفصيلات واشارات تبدو وصفية في ظاهرها، لكنها كافية للكشف عن مسعى مواجهة الآخر.
المذكرات انبثقت في عصر انتظام عمان وشرق افريقيا في دولة واحدة في عهد سلاطين البوسعيد كاول دولة عربية- افريقية، برزت في تاريخ العرب الحديث عام 1741، وبداية عهدها الجديد في عمان 1970 ثم انتهاء السلطة العربية في زنجبار في كانون الثاني ( يناير) 1964 بعد احداث دموية بقيادة جون اوكللو، ذهب ضحيتها الآلاف من العرب .
تقول الكاتبة في مقدمة الطبعة الاولى موضحةً مقصديتها من كتابة قصة حياتها ونشرها لاحقاً في شكل مذكرات : «انهيتُ منذ تسع سنين كتابة قصة حياتي هذه وكنت قد قررت كتابتها ليقرأها من بعدي اولادي حين يكبرون، فلم يكونوا في ذلك الوقت في سن تسمح لهم ان يعرفوا شيئاً عن ماضي حياتي واصل منبتي وعن وطني زنجبار وقومي العرب.».
وتضيف :« وكنت في حال من الوهن والسقم والارهاق لم اكن اتصور معها بقائي على قيد الحياة امداً يكفي لأروي لهم بنفسي سيرة حياتي، ولهذا وذاك لم يكن نشر هذا يخطر على بالي وما وافقت على نشرها اخيراً إلا نزولاً عند رغبة الاصدقاء والحاحهم»؟.
ومن الواضح ان الكاتبة كانت تعاني قلق الخوف من الموت في المنفى قبل ان تتمكن من سرد قصة حياتها الماضية على اولادها، ولو ضمنت البقاء معهم الى حين يكبرون لاختارت ان تحدثهم مشافهةً عن حياتها في وطنها الذي تحن اليه وعن قومها الذين تحبهم وتعتز بالانتماء اليهم.
نُشرت المذكرات بالالمانية عام 1886 ، وتُرجمت الى اللغة الانكليزية عام 1888 والى الفرنسية عام 1905 وصدرت عام 1985 عن وزارة التراث والثقافة في سلطنة عمان، وقد شكلت ترجمة هذه السيرة المبكرة اثراء ًللسير النسائية العربية المعاصرة.
بدأت سالمة بلملمة ذكرياتها والشروع بالكتابة (ابتداءً من عام 1875 اي بعد وفاة زوجها بخمس سنوات، هذه الوفاة التي شكلت تحولاً جذرياً في حياتها واعطت لحياتها في الغرب ابعاداً مختلفة.. ويبدو ان الشروع بالكتابة كان متوازناً مع مشروع آخر تمثل بمحاولة العودة الى الوطن فجاءت الكتابة مسكونةً بهذا النوع متوافقة مع حركة الوجدان لأن الهاجس الكبير في المذكرات يتمثل بالعودة الروحية الى الوطن من خلال استحضار تجارب الطفولة، ورسم عالم الجنوب المغاير تماماً لعالم الشمال .
غير ان الشروع بكتابة المذكرات او الاتجاه نحو ذلك في سن الثلاثين امر لافت للنظر، لأن هذه السن تعد في الظروف الطبيعية من بدايات العمر التي تتشكل فيها التجارب، وتأخذ بالتبلور.. ولكن هذا المشروع مسوغ فهي تعي جيداً انها سيدة فخورة بأهلها الا ان مغامراتها التي تولدت عن علاقاتها العاطفية - الزوجية بذلك الشاب الالماني الذي تزوجته معه وانتحلت اسمه وجنسيته وتعلمت وكتبت بلغته، جعلتها تجد نفسها هي ايضاً مغتربة ومنفية عن هويتها الاصلية ولا تريد ان تعيد انتاج حكاية تلك الام الضحية فما يميز منفى عن آخر، هو جملة المواقف والوضعيات التي يتخذها الشخص المنفي قدراً لا دخل للانسان فيه كما في حالة الام ,وقد ينبني في مرحلة منه على الاقل على قرار واختيار حر واعٍ كما في حالة البنت الكاتبة هنا فمن المؤكد ان السيدة سالمة بنت سعيد ما غامرت بالهجرة الى المانيا وتغيير اسمها وعقيدتها وجنسيتها، الا لأنها كانت تتوقع حياة سعيدة مع زوجها الالماني بعيداً عن الصراعات العالمية التي نشأت عن تنازع السلطة من قبل الابناء بعد موت ابيهم السلطان سعيد كما تسردها الكاتبة بالتفصيل في مذكراتها لكن موت زوجها بعد فترة قصيرة من اقامتها في المانيا جعلها تجابه خطر الشقاء في الغربة خصوصاً انها كانت وحدها المسؤولة عن ابنائها الثلاثة- وهم: بنتان وولد- انجبتهم من هذا الزواج القصير.
وستتحول غربتها الى منفى حقيقي عندما تفشل كل مساعيها لمصالحة الاهل والعودة الى الوطن للحياة فيه بهدوء واطمئنان.. من هنا فإن جانباً من عملية الكتابة يجب ان يفسر ويؤول من هذا المنظور لا من منظور المقصدية الاولية، التي تعلنها الكاتبة في مقدمتها فحسب.. فالكتابة من هذه الزاوية هي محاولة لاستعادة وتشكيل الحلم المشروع الممكن من خلال لعبة الرموز والعلاقات من أجل ذلك الفضاء البديل، الذي يسمح للذات بأن تتحقق كما تشتهي .
ولكن هذه المذكرات تضع القارىء امام اشكاليات كثيرة فنص المذكرات الاصلي مكتوب باللغة الالمانية وصاحبته ليست كذلك، ومحتوى النص يرتد الى سنيّ التكوين الاولى لصاحبته.. ليضع عالماً مغايراً للعالم الذي يتشكل فيه ويصنع رؤية مناقضة له.
على الصعيد الزمني اقامت السيدة سالمة في المانيا عند صدور المذكرات حقبة من الوقت تساوي الحقبة، التي اقامتها في زنجبار على وجه التقريب ولكن حضور الغرب الاوروبي او عالم الشمال كما تسميه المذكرات لا يكاد يذكر مقارنةً بحضور عالم الجنوب فقد ظلت المذكرات في خضم المواجهة مع الآخر منشغلة بالوطن تبعث فيه الحياة تستحضر تفصيلاته، وتعمد الى اسدال الستار على تفصيلات الحياة في الشمال فكأن العلاقة بين السيدة سالمة ( الحاضرة في تفصيلات الكتاب المغيبة عن العنوان) و اميلي روتي التي يتصدر اسمها عنوان الكتاب وتغيب عن التفصيلات بل تبدو كائناً غريبا) كأن العلاقة بينهما علاقة محو متبادلة حيث تقوم سالمة بمحو اميلي وهي تستحضر تكوينها الثقافي والحضاري والمعرفي مثلما تقوم اميلي بإلغاء سالمة على مستوى الواقع فتبرز الشخصية المعاصرة في رداء مختلف وفي سياق مغاير .
غير ان جدل العلاقة بين الشخصيتين في النص ، يغاير هذا الجدل الواقع ولكن التفاعل بينهما انتج هذه المذكرات ذات النزوع الثقافي - الانثولوجي .
تحتفي مذكرات اميرة عربية بالطفولة، وهذا الاحتفاء بتشكل مع حفارة الكثير من النصوص السيرية العربية لأن لهذه الحقبة دوراً مهماً في تشكيل الشخصية ورسم افاقها المستقبلية, ولأن الحديث عنها لا يتعارض مع الخطاب الاجتماعي القائم على ضرورة الاستئثار.
ان المتتبع هذا الحديث عن الطفولة يدل على ان تلك السيدة تنطوي على شعور بالتمييز مصحوبة بقدر كبير من الحزن والشجن, تعيد هذه المذكرات الكثير من خيوط التمييز والاسى الى شخصية الأم فالسيدة سالمة تتحدث عن امها ينبرة تمزج بين الاعتزاز والزلم فقد كانت مثل والدها السلطان تستشعر كبرياء امها وتحس بتميّزها على مستوى الخلقة ..ولكنها كانت ترى ان هذه الكبرياء جريحة لأنها تنطوي على ذكريات مؤلمة عاشتها الام في طفولتها: « أما امي فقد كانت شركسيةً بالولادة عاشت طفولتها مع ابويها ولكن حبل الامن مالبث ان اختل ونشبت الحرب فجأة ًوامتلا المكان بأنواع المغيرين فالتجأت عائلتها الصغيرة الى مكان تحت الارض لكن الغزاة المغيرين.. اكتشفوا المخبأ واقتحموه وقتلوا الوالدين وتناهبوا الاطفال الصغار.
ويقع قارىء المذكرات على مجموعة من الآراء والطروحات الفكرية من خلال ذكريات وتجارب ذاتية، الصورة النمطية للمرأة في عالم الشمال وعرض لمجموعة من المسائل الفقهية كالزواج والطلاق والتعدد والكفاية على تبيان مالحق بالاسلام من ظلم وخطأ في التصور الغربي .
واذا كانت الحركة الوجدانية نحو عالم الجنوب تجيء مثقلة بالحنين والألم فان الحركة الجسدية نحوه كانت تشكل الحلم الذي يعيد الى الأنا وحدتها من جديد فعند رؤيتها الاسكندرية في طريق عودتها الى بلاده تتلاشى تلك النبرة العقلانية ويبدأ شجن عاطفي تلقائي قريب من البوح.
وعند الدخول الى هذه المدينة ينخيلها ومنائرها غمرتني مشاعر لذيذة من الحنين الى الوطن وهي مشاعر يمكن للمرء ان يحسها دون ان يستطيع التعبير عنها فمنذ تسعة عشر عاماً لم أر الجنوب في الواقع وقد قضيت هذه المدة شتاء بعد شتاء امام الموقد الدافىء في المانيا ومع انني كنت اقطن في الشمال وعليّ الكثير من الواجبات فقط كانت افكاري دائماً جد بعيدة عن المكان الذي اعيش فيه، واذا عدنا الى مواجهة الآخر في هذه المذكرات فمن الواضح ان هذه المواجهة تتمثل بمحاولة المذكرات السخرية من الصورة النمطية للجنوب التي تشكلت في الذهن الغربي وصارت غير قابلة للتغيّر فهي تقول: فقد يذهب سائح بضعة اسابيع الى القسطنطينية او الى سورية او الى مصر او تونس او المغرب فيكتب اثر ذلك كتاباً ضخماً عن الحياة والاعراف والتقاليد في الشرق.. مع انه لم يكن قادراً على ان يرى اكثر من المظاهر الخارجية ولم يكن بمقدوره ان يعرف طبيعة الحياة العائلية هناك.
لهذا ترفض سالمة هذه الصورة النمطية مثلما ترفض الربط الآلي بين واقع الجنوب ومعتقداته ،فهي ترى ا ن التقدم او التخلف يتشكل في ضوء معطيات اجتماعية لهذا تبرز المذكرات صورة ايجابية لنساء من عالم الجنوب وتتحدث عما تتحلى به هذه الشخصيات النسائية من استقلالية وقدرة على اتخاذ القرار.
لذا تكثر المذكرات من الربط والمقارنة بين العالمين فتتحدث عن البعد الاستعماري في حضارة الغرب وما ينطوي عليه هذا البعد من ابعاد غير اخلاقية وتناقش او على الاصح تدافع عن ايمان اهل الجنوب بالقدر وتصحح ما ينطوي عليه ذلك من تصور خاطىء عند الآخر وتعود الى المقارنة بين تربية الاطفال في الشمال والجنوب فتنتقد قلوب المربيات الالمانيات لتتحدث عن ضروب من التجارب السلبية التي عاشتها في الغرب حيث تعرضت لأسوأ ضروب الابتزاز والاستغلال واساليب الغش والاحتيال .
واذا كانت المذكرات لا تستطيع ان تبلور خطاباً نقدياً متكاملاً ..فان القارىء يستطيع ان يتلمس في ضوء جدل العلاقة بين الذات والآخر امرين:
الاول : ايمان المذكرات بأن لكل امة خصوصيتها وحقها في تطوير نظامها الحضاري الذي يتلاءم مع تكوينها، وقد تجلى ذلك في محاولتها تلمس الهيمنة الاستعمارية التي يصدر عنها الغرب ونزوعه نحو المركزية وإلغاء الآخر.
لقد تملك الغرور البلاد الشمالية فصارت تنظر باستعلاء وازدراء لغيرها من البلاد وهي خصلة غير محمودة؟
والثاني هروبها الى الوراء كلما اشتدت عليها وطأة المواجهة لذا كان من الطبيعي ان تكون البداية والنهاية متعلقتين بالوطن ...فهي تتحدث عن بيت المتوني اولاً وتتحدث عن رؤية الوطن اخيراً عبر نبرة وجدانية مثقلة بالحب والحنين، لهذا ظلت الآنا تسعى لمفارقة الآخر ساعية الى الانفصال عنه لتستبدل بحضورها في عالمه حضوراً في عالم بديل يناقض العالم الذي تعيش فيه.
مذكرات اميرة عربية « علامة مضيئة في ادب السيرة تجمع بين الثقافة والمعايشة ومرارة الحنين، انه نص تراثي بنبىء عن حقبة زمنية ماضية واحاسيس امرأة عاشت المنفى، بعد ان كانت ترنو لفردوس منبثق عن حب عذري فأكسبها ذلك روح التمرد وشكيمة بادية في الشخصية وغربة مفعمة بالحزن بحيث اضحى الوطن عندها حلم طفولة وكرامة واحساساً نبيلاً بالانتماء، بل اضحى الوطن لها انشودة ازلية نرى من خلالها سر الوجود وخبايا
الرغبات الانسانية ومنبع الحنين بلغة يغلب عليها السرد والاعتداد بثقافتها العربية والاعتزاز بفضائها الوطني والحضاري .
د. عبد المنعم قدورة