الحمد لله ولي النعمة والإفضال ، العزيز الجبار الكبير المتعال
والصلاة والسلام على من حاز خصال الشرف جميعا على جهة الكمال
ومن تبعه بإحسان إلى يوم المآل .
لـم تدع المدنية الحديثة مفهوما من مفاهيم التصور والتصرف الإنسانيين
إلا بدلته تبديلا ؛ يحيل خير تلك المفاهيم شرا ، وشرها خيرا
ثم صاغته قانونا أو تقليدا مقدسا ملزما
يحاكم الفكر والسلوك برهبة أشد من رهبة الدين
تصنف المتابع الراضي واعيا متمدنا ، والممانع غبيا بدائيا .
وحين تقيس ما تريد البشرية لنفسها إلى ما يريد لها فاطرها جل وعلا
يظهر لك فرق ما بين الهدى والضلال ، والنعيم والجحيم
ثم تدرك السر العجيب في تشوه تلك المفاهيم ، وانقلابها رأسا على عقب .
إن الإنسان المفصول عن الوحي والنبوة
المغمور بكل متاح يجيب شهوته الدنيا
المفصوم عما يفتح لروحه المأسورة منافذ الانعتاق
لا يرى للسعادة مفهوما غير السعي في جلب كل متعة دنيا
سعيا يرد كل قيم الوجود إلى النفع الجسدي القريب .
أما الفلسفة الحديثة فإن أسمى ما رقّت إليه الإنسان
لم يتعد به ( منـزلة الحيوان ) ، وعلقت رقيه المدني على هذه الخاصية
كما قرر الطبيب النفسي الأمريكي وليم جيمس
وتساءل الآخر في حيرة بالغة :
( هل هناك بناء فطري للرقي العقلي سوى الغرائز ؟ ....
وهل هناك ميول خلقية سوى الميول التي تدخل في تركيب الغرائز وتكوينها ؟ ...
ترى هل تكمن في المستقبل مدراج عليا أخرى للتطور ؟ ...
من يعلم ذلك ؟؟ ... ) .
فإذا تعلق الأمر بالزواج صارت قاعدة الحياة الزوجية
ومسالكها وغاياتها لدى الزوجين ربيعا كربيع المراعي
هو سر شبعهما وغناهما ، والمعشوق الأمثل الآسر لجوعهما وتطلعاتهما
ويصير مدى تقديرهما واحتفال العالم بهما
بحسب ما يمتلكان من متاع الدنيا
وما ينفقان على لذة أشبه بلذة البراز لدى الحيوان أو أدنى .
هذا هو الناموس الذي يحكم الصلات الزوجية اليوم في أرقى المجتمعات
وقد يرقى زواج اثنين هناك أعلى الدرجات
فتتدافع الجماهير على شهوده القريب والبعيد
ويسخر لتخليد مشاهده إعلام الدنيا
لكن غاية ما يكسبه المتابَع والمتابِع آخر المطاف
متع آنية لا تنشئ خيرا ولا سعادة ، ولا كمالا ....
تظل باردة باهتة ما لم يغمرها مهب سكن حنيف لطيف
يفرج عن الروح ، فيقل الزوجين
إلى بُوح المودة والرحمة الممتدة بين ربى هذه الآية الكريمة :
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .
فلا يظفران بلذة هذا الإشراق ، ولا يطعمان هذا النعيم
ما لم يريا آية فاطرهما في خلقهما لبعضهما
ويجدا ما في ذلك من سكن الإيمان والوئام ...
آنئذ فقط يحلو الحب ، وتطيب المودة ، وتفيض عشرتهما بالسعادة الحقيقية .
إن أسعد زوجين في الأولين والآخرين
محمد صلى الله عليه وسلم وخديجة بنت خويلد رضي الله عنها
من بين وصالهما الصفي القدسي جرى شرب الحب والسكن
ومدت أفنان المودة والرحمة ، وفتق ورد السعادة يظلل نموذجهما الفريد .
ولعل البيان المؤرخ لهذا الزواج الأسعد
لم يسطره قلم ماسي في ديوان ذهبي يومها
لكنه خلد بأقدس البيانات ، وأروع المشاهد .
خلد ببيان ينادي على الزوج بأجل ثناء وأجمله :
( يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً .
وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ) ...
زوج اجتباه ربه اجتباء الخليل لخليله
ثم تولى الثناء عليه قبل الخلق ، وكشف خصال كماله دونهم
بل جعل ثناءه لثنائهم معينا منهمرا، وقمرا منيرا سائرا .
كان يهيأ صلى الله عليه وسلم للرسالة حين ارتبطت به خديجة رضي الله عنها
فاصطفي لها واصطفيت له ، وجرى توثيق قرانهما في الملإ الأعلى .
فما كان لله العلي الحكيم أن يفصل زواج نبيه
صلى الله عليه وسلم عن شروط رعايته المواتية لمقتضيات اصطفائه
والزواج لا محالة أهمها ، وأحراها بالعناية
إذ لو تزوج يومئذ غيرها لاضطرب ناموس تهيئته للنبوة جملة .
فجرى تزويجهما بكلمة الرب تعالى وعدله وتدبيره
وذلك – لا جرم - السبيل الأليق للإشادة
والاحتفال بأسعد زواج على وجه الأرض .
إن غاية ما يساق لإشهار زواج ملك أو أمير
من وسائل الفرح والسرور الفانية لا يعدو ذهب الدنيا وزخرفها
ولو بذل – لإحياء زواجه - من ذلك ما في الدنيا جميعا ومثله معه
لما استحق أن يرفع في فضاء الخير قيد أنملة ، بله أن يستحق احتضان السماء .
يتبع ...