مجزرة الدوايمة المنسية
د. غازي حسين
وقعت مجزرة الدوايمة الجماعية في الثامن والعشرين من تشرين الأول عام 1948، وافتضح أمرها عام 1984 بعد أن ظلت طي الكتمان (36) سنة على أثر قيام مختار القرية حسن محمد هديب، الذي شاهد المجزرة بنفسه ونجا منها بأعجوبة بالاتصال مع صحفية تعمل في صحيفة حداشوت الإسرائيلية.
تقع قرية الدوايمة غربي مدينة الخليل وأصبحت معرضة للسقوط في أيدي العدو الصهيوني بعد أن احتل العدو قريتي بيت جبرين والقبصة القريبتين من القرية.
شعر سكان قرية الدوايمة بخطورة بقائهم في منازلهم بعد احتلال العدو للعديد من القرى القريبة من قريتهم وعدم توفر السلاح للدفاع عن أنفسهم، فاختبأت العائلات في كهوف القرية، بينما تجمع الشيوخ في مسجدها.
هاجمت القوات الصهيونية القرية في الساعة الحادية عشرة ليلاً في (28/10/1948)، وكانت القوات المهاجمة من الكتيبة 89 بقيادة مجرم الحرب موشي ديان. بدأ الاعتداء من الجهة الغربية للدوايمة، ثم توزعت الآليات إلى ثلاث مجموعات: الأولى اتجهت نحو الجهة الشمالية، والثانية نحو الجنوبية، والثالثة نحو الطرف الغربي للقرية، وتركت الجهة الشرقية مفتوحة كي يهرب من ينجو من الموت إلى المناطق العربية الأخرى لمسح القرية العربية من الوجود بالإبادة الجماعية والترحيل الجماعي.
بدأت الإبادة الجماعية للقرية بإطلاق النار على كل من يجدونه في المنازل من الأطفال والنساء والرجال، ثم نسفوا بيت المختار، وتوجهت المصحفات في اليوم التالي إلى مسجد القرية «مسجد الدراويش»، وكان بداخله (75) من المسنين، يؤدون الصلاة فقتلهم الجنود الصهاينة جميعهم بالمدافع الرشاشة، وهم يسجدون لله عز وجل أملاً أن يحميهم رب العالمين من الإرهابيين اليهود.
واكتشفت القوات الصهيونية المهاجمة للغارة الكبيرة التي اختبأ بداخلها أكثر من (35) عائلة، فقتلهم جميعاً، وتتسلل في ساعات الليل للمغارة بعض سكان القرية إلى منازلهم ليأخذوا بعض الأطعمة والملابس فما كان من الصهاينة إلاّ وأنْ قتلوا كل من رأوه عائداً إلى القرية، وجمعوا جثث القتلى وألقوها في بئر وسط القرية لإخفاء معالم المجزرة الوحشية التي ذهب ضحيتها أكثر من (300) عربياً، من أهالي قرية الدوايمة.
نشر أحد جنود السرية الصهيونية فيما بعد قصة المجزرة وقال إنهم لكي «يقتلوا الأطفال شقوا رؤوسهم وشجّوها بالعصي».
وقال الكاتب الأميركي ميخائيل بالومبو عن مجزرة الدوايمة: «كان الإسرائيليون ساديين بنوع خاص في معاملتهم للنساء العربيات، أحد الجنود الصهاينة» تبجح بأنه اغتصب امرأة عربية قبل إطلاق النار عليها وقتلها، وأجبرت امرأة عربية أخرى مع طفلها المولود حديثاً على تنظيف المكان لعدة أيام ومن ثم أطلقوا النار عليها وعلى طفلها.
طلبت الأمم المتحدة من «إسرائيل» السماح لفريق من المراقبين بزيارة الدوايمة للتحقيق بشأن الاتهامات المصرية القائلة إن مذبحة ارتكبت في القرية.
في بادئ الأمر رفضت «إسرائيل» ثلاثة طلبات للأمم المتحدة ولكنها وافقت في 8 تشرين الثاني 1948 وسمحت للكولونيل سور والضابط فان فاس هوفي بزيارة القرية.
لاحظ الضابط البلجيكي أن الدخان ما زال يتصاعد من عدة منازل وتخرج منها رائحة غريبة.
وسأل المراقبان الدوليان عن سبب إخلاء القرية لسكانها، فردّ الإسرائيليون أن السكان جميعهم هربوا لدى مغادرة القوات العربية للقرية، وذلك تطبيقاً لعادة اليهود في الكذب للتغطية على جرائمهم بحق العرب.
سمع القنصل الأمريكي في القدس، وليام بورديت بزيارة فريق المراقبين الدوليين إلى الدوايمة، وقام بتحقيقات واستقصاءات أرسل على أثرها تقريراً إلى واشنطن بتاريخ 6 تشرين الثاني 1948 جاء فيه:
«تشير تحقيقات الأمم المتحدة إلى وقوع مجزرة، ولكن المراقبين غير قادرين على تحديد عدد الأشخاص الذين ذهبوا ضحيتها، فالتقديرات تتراوح وتختلف بشكل بارز، ولكن المرجح أن زهاء (300) شخص من المدنيين العرب قد ذبحوا في البلدة».
أقامت إسرائيل في عام 1955 فوق قرية الدوايمة مستعمرة أما تزياه، وهكذا اختفت القرية الفلسطينية من الوجود.
وكانت صحيفة حداشوت الإسرائيلية أول من اكتشف المجزرة وأعلنت عنها في العام 1984، وكتبت تقول إن مختار قرية الدوايمة قد ذكر أن (75) شخصاً من المسنين قد قتلوا في المسجد وهم يؤدون الصلاة ظناً منهم أن الجيش الإسرائيلي لا يقتل الشيوخ وهم يسجدون للمولى عز وجل، وقتلوا (35) أسرة اختبأت في مغارة خارج القرية وأرغمت على الخروج وأطلقت عليها النيران، وقتلت جميع الأسر العربية، وقتل الجيش الإسرائيلي كل من رآه في شوارع القرية أو وجده في منازلها.
وذكرت صحيفة حداشوت الإسرائيلية أن قائد الفصيل (أ) في الكتيبة (89) التي نفذت المذبحة اعترف بجزء من التهم لكنه نفى قصة المغارة التي ذكرها المختار.
والتقت مراسلة حداشوت مع يعقوب اهروني، خبير المتفجرات في الكتيبة وكان رده على تقرير الصحيفة:
«لماذا أنت مهتمة بهذا الموضوع، من الذي يحتاج إلى التحدث عنه بعد كل هذه السنوات، أي فائدة في ذلك، فالذي حدث حدث؟ ويتابع اهروني حديثه مع الصحيفة الإسرائيلية ويقول: «كان هناك استفسارات في هيئة الأمم حيث سألوا شرتوك أو ربما أبا إيبان» ماذا حدث في الدوايمة؟ وكان جوابه لا توجد قرية بهذا الاسم، وذلك لأن الجيش الإسرائيلي قد أباد سكانها ومسحها من الوجود.
واختتمت حدشوت مقالها قائلة: «تعتبر قصة الدوايمة من القصص التي تبعث على الرعب «الدوايمة» يوك، لقد دمرت وأزيلت من الوجود قبل أن تطرح قضيتها في الأمم المتحدة، وأنكر مندوب إسرائيل وجودها».
وتابع الجيش الإسرائيلي إبادة القرى العربية فارتكب في لبنان مجزرة صلحة في 29/10/1948، ومجزرة المالكية في يوم الأحد الموافق في 30/10/1948 ومجزرة حولا في ليلة يوم 31/10/1948 وذهب ضحيتها حوالي مئة من أبناء القرية اللبنانية التي تبعد 16 كم عن مرجعيون.
إن المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في عامي 1948 و1949 يرتكبها اليوم في المخيمات الفلسطينية في رفح وخان يونس وجنين ونابلس وغزة وبأحدث أنواع الأسلحة الأمريكية، وبالتالي فإن «إسرائيل» مستمرة في إبادة العرب التي بدأتها منذ النصف الثاني من القرن الماضي وحتى بداية القرن الحادي والعشرين ولن تتوقف عن ذلك ما دامت قادرة على ارتكاب عمليات الإبادة والتدمير وتهويد الأرض والمقدسات العربية، وذلك بسبب الإيمان بإبادة العرب وسلب أراضيهم وثرواتهم وإخضاعهم وإقامة «إسرائيل العظمى» من النيل إلى الفرات، ودعم ومشاركة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في حروبها ودفاعهم عن الاحتلال الإسرائيلي وبناء المستعمرات اليهودية في الأراضي العربية المحتلة.
تعود جذور إبادة العرب إلى التعاليم التي دونها كتبة التوراة والتلمود والزعماء الصهاينة ومارسها ويمارسها ويطبقها على أرض الواقع حكام إسرائيل، وبدعم وتأييد كاملين من الحاخامات والنخب اليهودية الفكرية والسياسية والعسكرية والثقافية، ويدعم من الإدارات الأمريكية المتعاقبة داخل الأمم المتحدة وخارجها.
وتشمل الإبادة ارتكاب المجازر الجماعية والحروب العدوانية، ومصادرة الأراضي العربية وتهويدها، وإتباع سياسة الاغتيالات والتصفيات الجسدية وترحيل العرب وتدمير منجزاتهم، وسرقة المياه والثروات والأرض العربية وتهويد المقدسات بما فيها القدس بشطريها المحتلين.
ويوجه الجنود الإسرائيليون الرصاص إلى العين والرأس والقلب ويقومون بتكسير عظام الفلسطينيين، مما يظهر بجلاء وحشية وهمجية الجيش الإسرائيلي ومعاداته لأبسط المفاهيم الإنسانية والأخلاقية وتقاليد وأعراف الحروب.
فالجيش والمجتمع الإسرائيلي يتعامل مع الفلسطينيين بشكل خاص والعربي بشكل عام من منطلق إبادته والقضاء عليه، وإنزال العاهات والتخلف به، وترحيله من وطنه.
ويتعامل الصهيوني مع العربي بعدم الاعتراف بوجوده وحقوقه الإنسانية وحقه في الحياة والملكية، مما يظهر بوضوح إيمانه بالتعاليم التوراتية والتلمودية والصهيونية المشبعة بالإرهاب والعنصرية والإبادة الجماعية والتفوق والاستعلاء والنقاء والانغلاق العنصري لإقامة أكبر غيتو يهودي في قلب المنطقة العربية والإسلامية.
وبالتالي رفعت «إسرائيل» إبادة العرب وممارسة الإرهاب والعنصرية والاستعمار الاستيطاني إلى مرتبة القداسة الدينية وإلى مستوى العقيدة الصهيونية والمرتكز الأساسي لها في التعامل مع العرب لإقامة إسرائيل العظمى الاقتصادية عن طريق مشروع الأمن الأوسط الجديد.
إن دماء وأرواح مجزرة الدوايمة تفرض علينا بمناسبة مرور الذكرى الـ 64 على ارتكاب المجزرة وتدمير القرية إن نكشف الوجه الوحشي والإرهابي والعنصري والاستعماري للكيان الصهيوني والأيديولوجية الصهيونية، والتأكيد على أن مصيره إلى الزوال كما زالت النازية من ألمانيا والاستعمار الاستيطاني الفرنسي من الجزائر ونظام الأبارتيد من جنوب إفريقيا.