بسم الله الرحمان الرحيم
يحدث في تونس
لا شك أن مايقع في تونس بعد يوم 23 أكتوبر موعد انتخاب المجلس التأسيسي، له تميز خاص دون البلدان العربية الأخرى التي جرت في عروقها دماء الثورة.. وقد قلنا في مقال سابق أن ما جرى في تونس من ثورة حتى ذلك الموعد يمكن توصيفها بالظاهرة الغير مسبوقة في التاريخ عموما.
كانت في تونس غضبة كبرى ليس فقط على قوات الأمن والشرطة لما مارسته من قمع وقتل طيلة ثلاثة عقود، بل كذلك حجم واتساع التحرك الشعبي وقوة المواجهة بين الشعب وأجهزة الأمن ، ما جرى خلال شهر فاق كل التوقعات ولا نعتقد أن أحدا يزعم بأنه كان يتوقع صيرورة الأمور إلى ما صارت إليه. ولأن الأمور سارت بهذه الوتيرة السريعة فإن غالبية التحليلات والتعليقات في تلك الفترة أتسمت بالإنفعالية والعاطفة أكثر مما هي ناتجة عن دراسات معمقة.. وعليه فإنه من الصعب الحكم بأن المشهد الذي جرى في تونس حتى موعد الإنتخابات سيتكرر بنفس الشكل ولو في دولة عربية وحيدة.
ولكن، بقدر ماكانت وتيرة الثورة ومن ورائها الإحتجاجات والإعتصامات ناجحة وناجعة، بقدر ما أثارت التحركات والإحتجاجات بعد انتخاب المجلس التاسيسي حفيظة الغيورين، والخائفين على المسار الديموقراطي في تونس ومشروع الدولة الفتية، الذين يعتقدون أن مثل هاته الإعتصامات، وقطع الطريق، وتعطيل الحياة العامة عند الناس، إنما هي تحركها وتدفعها أياد لا تريد خيرا لتونس ولشعبها، محاولة فرض رأيها على الأغلبية حتى في مداولات المجلس التاسيسي، فهي لاتشارك في الإصلاحات اللازمة في هاته المرحلة، بل ترفضها.. ولو سالت آنشتاين عن هذه النزعة "المعيزية"(من المثل الشعبي معزة ولو طارت)، فسيجزم لك أنّ أغلب هؤولاء لا وظيفة لهم في المرحلة التأسيسية، إلا منع التفكير في تجاوز المتناقضات وإدارة الأضداد.. معرقلين بذلك كل خطوات الحكومة ولهم منهجيتهم في المعارضة ولم يلتزموا بوزنهم السياسى الذى نتج عن الإنتخابات، معتقدين أن هناك جهات أجنبية محفزة، وأصحاب مصالح، مما قد يدفعهم لحرف الثورة عن وجهتها وإغراقها في متاهات لا تحمد عقباها لاقدر الله..
لا أريد تهويلا أو تخويفا، وإنما تذكير وتحفيز لأبناء الشعب التونسي وكفاءاته السياسية والثقافية التي هي أهلا لمعرفة مصلحته وكيفية لملمة الأوراق التي تبعثرت.. وترشيد الثورة واستمراريتها.
فهم ما يجري في تونس اليوم لا يحتاج لوقت طويل، وستكشف لنا الأيام المقبلة من يقف وراء تعطيل الحياة العامة في البلاد، فالشعب التونسي ليس الأفقر في العالم العربي، وقد أسأنا بأنفسنا لأنفسنا برفض الإنتظار لهاته المطالب الملحة والمشروعة، بتعطيل سير القطارات، وغلق المصانع، والتسبب في إحالة مواطنين آخرين على البطالة الإجبارية، والإضرار بالإقتصاد الوطني. هل يعلمون هؤلاء أن الإقتصاد التونسي يخسر كل شهر مايزيد على 208 مليون دولار بسبب هاته الإعتصامات، أي خسارة 35 ألف موطن شغل في الشهر تقريبا. بل مايقع الآن إنما هو محاولة انقلاب على الشرعية، وعناصر هذا الإنقلاب هم اليسار الذين خسروا الإنتخابات، وبالتالى حينما يفقد أصحاب (00,00) السيطرة على دواليب في الدولة كانوا يعتقدون أنها ملك خاص لهم، يحاولون استعادتها بتعطيل مجريات الحياة في تونس، والثورات عادة تقوم بمحاكمات والتخلص من بقايا النظام السابق، أو مراقبتها وإخضاعها للقانون. لكن نحن فى تونس لم نقم بهذا إلى حد اليوم، رغم معرفتنا بأخطار الثورة المضادة وكيفية مواجهتها، للدفاع عن ثورتنا بكل الوسائل القانونية والسلمية..
بعض قرارات هاته الإعتصامات العشوائية التي لم يعترف بها حتى الإتحاد العام التونسي للشغل، تحتاج لتبصر هادئ بعيدا عن الأحكام المسبقة، وبعيدا عن الإسقاطات النابعة من الرغبوية والتشوقات، لقد انتظرنا أكثر من عقدين ولا نستطيع انتظار بعض الأيام لكي تستقر الحكومة وتأخذ طريقها في إتمام ماوعدت به، وبعدها نحاسبها ونقيلها إن لزم الأمر. . أقولها بصراحة أن هاته الإعتصامات محاولة من أعداء البلاد لشلّ حركتها.. والسؤال المطروح الذي يواجهنا الآن هو: فتلك المدحية التي كتبناها في شعبنا ووصفناه فيها ببلوغه أعلى درجات الوعي، التي مهدت له سبيل الإطاحة بالنظام المخلوع.. وانتقادنا بل رفضنا لذلك التفسير الذي يصفها بثورة الجياع سابقة لأوانها.. وهل كان الشعب واعيا بالفعل، أم جائعا؟
إذا كانت الإجابة الأولى هي الصحيحة فهي مقدمة تفضي إلى نتيجة خاطئة، وهي أن الإعتصامات تؤكد أن الوعي لدينا مازل يعيش مرحلة طفولة.. وإذا كانت الإجابة الثانية أسأنا للثورة في نظري..
الأمر الآخر الذي لم يخدم أهداف الثورة في بلادنا هو الإعلام اللاوطني المسيطر عليه اليسار. فـ"الترويكا" التلفزية إلى حد اليوم تخدم ضد التيار، أو ضد ما مات من أجله الشعب، فالقناة التي سمت نفسها بعد الثورة "الوطنية" وأنا أشك في وطنية من يحرضون من خلالها على تعطيل الحياة العامة. في هاته القناة نفس المذيعة التي كانت في ديسمبر 2010 تصف المخلوع بحامي الحمى والدين وراعي الديمقراطية، وتتهم الثوار بالعصابات الملثمة والمخربة، تعود في نفس اليوم في 2011 لتصف حكومة الثورة بحكومة الشعارات.. ونسمة التونسية أو مايطلق عليها رواد الفايس بوك "نقمة الصهيونية"، تقود حملة لتلميع صورة اليسار والقيادات المنتظرة للتكتل الجديد، أو ما يسمى بالأحزاب الوسطيّة، كي لا يقال يسارية أو حداثية أو علمانية بعد وعيهم بمدى حساسية التونسي من هاته العبارات..
والمشهد الآخر الذي أثار حفيظة أصحاب "الثقب" هو ذاك التوافق الذى حصل بين العلمانيين المعتدلين والإسلاميين المتنورين، وهي صيغة فريدة تختص بها التجربة التونسية، وهذه التجربة ستعطي تونس ما تريده من استقرار ورخاء إن نجحت بحول الله.
سيكون عاما صعبا علينا في تونس على كل الواجهات وخاصة منها الواجهة الإجتماعية والإقتصادية، نحن نبني من جديد.
صبرا آل تونس فإن غدكم خير من حاضركم إن شاء الله
صعب على الحكومة الجديدة في ضل الإعلام المضاد لها أن تشهر منتوجها، وهي التي لاتمتلك سوى بعض الصفحات في الفايس بوك والتي تقابلها صفحات مضادة.. فحين لبس منصف المرزوقي البرنس ودعى لمقاطعة الأعياد الغربية، قالوا بأنه لم يكن أكثر من شاهد عيان لمشيخة قطر و"كومبارس" لفيصل القاسم يستدعيه متى يشاء ليملأ به الفراغ في برنامجه الإتجاه المعاكس... وحين صلى رئيس الحكومة في جامع الزيتونة مع المواطنين دون موكب أو بروتكولات قالوا تقليد الصحابة ليس جائزا.. وحين قدم للوزارة وزير التعليم العالي بعد تعيينه في شاحنته "الإيزيزي" ورفضه سيارة "المرسيدس" قالوا تواضع حتى "تشلك".. وحين شوهد وزير الفلاحة يجنى الزيتون بيديه بعد توليه المنصب اتهموه بالإستعراض والدمغجة وتسويق منتوجه.. وووو كثير..
أقول قد يجد البعض في حديثنا هذا بعض التراجعات وخيبة أمل أحيانا، لكن الخطوة الأولى بدأت ولا يمكن أبدا الرجوع للوراء، ونحن دخلنا المنعطف التاريخى الذى سيؤدى شيئا فشيئا لنهوضنا وحريتنا الكاملة، فلا تهنوا وتتراجعوا.. استمروا في التضحية وتقديم المصلحة العامة..