الجذور التاريخية للعلمانية الغربية* (الحلقة الثانية)
مصطفى إنشاصي
من المفاهيم الخاطئة الشائعة لدى المثقفين والمختصين عن الغرب وتاريخ تطور مجتمعاته؛ أن المجتمعات الغربية خلال تطورها التاريخي مرت في أطوار ومراحل متعددة إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وأن مرحلة حكم الكنيسة ورجال الدين –العصور الوسطى الأوروبية-كانت من أسوأ مراحلها، حيث ساد فيها الجهل والتخلف والظلم والاستبداد ومحاربة العلم والعلماء...إلخ، وأن الغرب بفضل تحرره من حكم الكنيسة ورجال الدين حقق تقدمه وثورته العلمية ونهضته الحديثة والمعاصرة، وأنه في ظل دوله العلمانية المدنية التي ليس للدين ورجاله في مؤسساتها المختلفة مكان لأن الذي يقوم بتنظيم شئون الدولة والمجتمع وحياة الأفراد هي القوانين الوضعية التي يتم اختيارها على أسس ديمقراطية وتأخذ برأي الأغلبية، وأن التدين من الشئون الفردية والشخصية وعلاقة بين الإنسان وربه، في تلك الدول حقق الغرب المساواة بين مواطنيه على أساس التساوي في حقوق المواطنة! وأنه إذا ما أراد أي شعب أو أمة في العالم وخاصة الإسلامي أن يحققوا التقدم والنهضة العلمية والمساواة في حقوق المواطنة عليه أن يقتدي بالغرب وأن يأخذ بالتجربة الغربية في الفصل بين الدين وجميع مناحي الحياة (العلمانية والدولة المدنية)، وذلك بناءً على اعتبار أن مرحلة العصور الوسطى الأوروبية مرحلة الحكم الديني في الغرب وأنها كانت سبب تخلفه، دون التمييز بين خصوصية المجتمعات الغربية ومراحل تطورها ومفهوم الدين لديها منذ فجر تاريخها وبين خصوصية غيرها من المجتمعات والأديان الأخرى وخاصة الإسلام؟! ذلك ما سنحاول توضيحه لكل ذي عقل وباحث عن معرفة والحقيقة!.
يقول أرنست كاسيرر: أن "الشواهد الإنثروبولوجية والإنثولوجية، تجد مناطق كثيرة من الحياة الحضارية البدائية تتمتع بالملامح المشهورة التي توجد في حياتنا الحضارية، وما دمنا نزعم تخالفاً مطلقاً بين منطقنا ومنطق العقل البدائي، وما دمنا نعتبر المنطقتين مختلفتين نوعاً متضادتين أصلاً، فليس من السهل علينا أن نعلل لذلك التشابه في الملامح الحضارية. حتى لتجد دائماً في الحياة البدائية نفسها منطقة دنيوية أو أرضية خارج المنطقة المقدسة، وهناك موروث دنيوي يتألف من قواعد العرف أو القانون يُعَين الطريقة التي تسير بها الحياة الاجتماعية".
ذلك يعني أن الأديان البدائية بصفة عامة لم تلغي الجانب الدنيوي في الحياة الإنسانية كما يزعم الفكر الغربي عند دراسته للمجتمعات البدائية من أن الفكر الديني كان مسيطراً على جميع مناحي الحياة في المجتمعات البدائية، ولكن كان هناك مساحة للإنسان يمكنه من خلالها أن يلعب دوراً في تنظيم شئون حياته الدنيوية بعيداً عن القوانين والأوامر الإلهية، وذلك غالباً ينطبق على الأديان في الحضارات البدائية في المجتمعات الشرقية. لذلك فإن ما يزعمه الفكر الغربي أنه "تخالفاً مطلقاً بين منطقنا ومنطق العقل البدائي" لا ينطبق على المجتمعات الشرقية التي يعتبر واقعها اليوم إلى حد ما امتداد شبه طبيعي لما كانت عليه قبل نزول الدين السماوي، الذي يترك هو الآخر مساحة تزداد وتنقص للعرف والتقليد والعقل البشري ما لم يخالف أصل من أصول الدين.
وإن كانت إحدى أهم خصائص الأديان والحضارات الشرقية أنها لم تكن دينية بحتة ولا إنسانية بحتة بمعنى كانت تجمع بين الإلهي والبشري ، فإن الأديان في المجتمعات الغربية منذ بداية عصورها الأولى هي التي كانت تفصل بين ما هو ديني وما هو بشري ويمكن أن ينطبق عليها الفصل التام بين الجانب الديني والدنيوي، فالجانب الدنيوي فيها كان شبه منفصل تماماً عن الجانب الأخروي أو المقدس! فالآلهة الإغريقية والرومانية لم يكن لها علاقة بتنظيم شئون حياة الناس بتاتاً، فالإغريق والرومان لم يعتنقوا ديناً يستمدون منه وحده تصوراتهم وعقائدهم ونظام حياتهم، يقول (محمد عبد الله دراز) عن دور الآلهة الإغريقية في حياة تلك المجتمعات: أن أقدم الآثار الأدبية التي حفظها لنا التاريخ عن العصر الإغريقي يعود إلى حوالي القرن العاشر قبل الميلاد. وأشهر تلك الآثار الديوانان المنسوبان إلى هوميروس: الإلياذة، والأوديسا ... وتتميز هذه المرحلة بأن شئون الأديان فيها إنما تُساق عرضاً في ثنايا شؤون الحياة الأخرى.
ويقول (محمد أسد) عن آلهة الرومان: نعم كان لهم آلهة ولم تكن آلهة تقليدية "لم تكن سوى محاكاة شاحبة للخرافات الوثنية اليونانية لقد كانت أشباحاً سُكِتَ عن وجودها حفاظاً للعرف الأجنبي ولم يكن يُسمح لها قط بالتدخل في أمور الحياة الحقيقية". فالمعتقدات الغربية في الأصل نقلها الغربيين القدماء عن الحضارات الشرقية في مصر وبلاد الرافدين ومعظم الآلهة الإغريقية واليونانية في أصلها آلهة شرقية. فالمؤرخون يؤكدون أن أوروبا قبل الإسلام تدين للشرق بالكثير، بدء من معتقداتها الدينية وآلهتها التي عبدتها، مروراً بكثير من آرائها الفكرية والفلسفية، إلى كثير من أدوات التقدم الحضاري والمدنية، فكثير من الآلهة اليونانية والرومانية القديمة في الأصل آلهة كنعانية وفينيقية وبابلية ومصرية، أخذتها أوروبا عن الشرق ونزعت عنها الطابع الشرقي المسالم والموادع وطبعوها بالطابع الغربي الهمجي العدواني الذي أساسه الصراع والحرب بين الإنسان والعالم كله من حوله، وتذكر أساطيرهم القديمة أن تلك الآلهة الأوروبية قد تعلمت الحكمة من الشرق وأخذت عنه الكثير عن أسرار الحياة والكون. حتى رسالة السيد المسيح عليه السلام؛ تلك الرسالة السماوية التي اعتنقتها أوروبا لم تسلم من التشويه والتحريف وطبعها بطابعها الوثني والهمجي!.
ذلك يعني أن المجتمع الغربي كان مجتمعاً مادياً لا دينياً يعانى عزلة حادة عن معتقداته – أياً كانت – ويفصل بينها وبين واقع حياته العملي. بمعنى معاصر أن الغرب عرف فصل الدين عن الحياة، أو العلمانية (اللادينية) منذ عصور وجوده الأولى. ويؤكد ذلك (سيسرو) الذي عبر عن الانفصال العميق بين الدين ونظام الحياة عند الرومان بقوله: "لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل ما معناه أن الآلهة لا دخل لهم في أمور الدنيا يصغى إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة". وذلك ما أكده أيضاً الراهب (أوغسطين): "إن الروم الوثنين كانوا يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل".
ليس هذا فحسب، بل إن أبيقور (4 ق.م) أعلن على الملأ دعوة علمانية صريحة، ومن أقواله: "إن الآلهة لا يشغلون أنفسهم بأمور بني البشر، لأنهم يظهرون من آن لأخر للأشخاص (!) بيد أن مسائل العالم الأرضي لا تعنيهم، وما من علامة تدل على أنهم يعنون بعقاب الآثم وإثابة الصالح، أيمكن اعتقاد تدخلهم هذا ما نراه في هذا العالم؟! ويسخر من الإله الروماني جوبيتير: "إن جوبيتير يرسل الآن بالصواعق على معبده، فهل سحق أبيقور الذي يجدف به"؟! "إن الآلهة يعيشون بعيداً عن العوالم ولا يهتمون إلا بشئونهم فلا تعنيهم أمورنا. إنهم يعيشون حكماء سعداء ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله فلنعظمهم كمُثُل عليا يُقتدي بها، غير أنه لا يجب علينا أن نشغل أنفسنا بما يريدونه منا، فإنهم لا يريدون منا شيئاً، هم لا يعيروننا بالاً فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا".
وبما أن آلهة الرومان بطبعها لم تكن لتشرع لهم شيئاً فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، ونتيجة لجهود هؤلاء برز إلى الوجود (القانون الروماني) الذي لا تزال أوروبا تعيش عليه أو على امتداده إلى اليوم، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة -إن وجدت ـ فقد كانت أبيقورية محضة- ذلك يعني أن الغرب لم يعرف العقائد والنظم الدينية بمعناها الذي عرفته الشعوب الأخرى، أي تدخل الآلهة في شئون حياة أتباعها، ولكنه كان لديه آلهة شكلية كزينة أو ديكور لإرضاء السذج من مواطنيه، أو من الشعوب غير الأوروبية التي كانت تخضع لحكمه.
نخلص من هذه المقدمة التي رأيت أنها ضرورة علمية وأكاديمية محضة لمحاولة تصحيح الفهم الخاطئ عندنا عن مفهوم العلمانية والدين في المجمعات الشرقية والغربية خاصة، إلى أنه إن كانت الآلهة في المجتمعات الشرقية وغيرها تترك منطقة دنيوية للإنسان حق التصرف فيها بما يراه مناسباً لصلاح حياته، فإنها في المجتمعات الغربية (الإغريقية والرومانية) لم تكن الآلهة تتدخل البتة في شئون حياة أتباعها، وكانت تعيش تلك المجتمعات ومازالت حياة علمانية لا دينية بكل ما تعني الكلمة من معنى، كما هي اليوم، والدين والتدين حالة فردية وأمر شخصي تعتقد أو لا تعتقد ذلك أمر خاص بالفرد ولا علاقة للمجتمع به.
إن الغرب من حيث المبدأ هو علماني طوال مراحل تاريخه ولم يكن في يوم من الأيام مجتمع ديني بحت، سواء كتلك المجتمعات الدينية الوثنية الشرقية أو المجتمع الإسلامي! لأن من أهم الخصائص التي تُميز المجتمعات الغربية عن غيرها، وإن كانت تشترك مع المجتمعات الشرقية قبل الإسلام في أنها صناعة بشرية، لأن ما كان إلهياً في الحضارات الشرقية هو بشري أيضاً منسوب للآلهة، إلا أنها في الغرب صناعة بشرية بامتياز في كل مراحل تطورها التاريخية وتخضع في تطورها لتطور العقل البشري والجهد الإنساني ولا دخل للآلهة سواء كانت بشرية أو سماوية في ذلك! ولأن الغرب هو نتاج الجهد البشري فإنه يختار لنفسه ما يراه يُصلح حاله بحسب الزمن والتطور الذي يحدث في واقع الحياة والمجتمع، وليس بالضرورة أن ما يصلح للغرب يمكن أن يصلح لغيره من المجتمعات وخاصة المجتمع الإسلامي، وإن كان في الإسلام "الحكمة ضالة المؤمن"، وعلى المسلم أن يأخذ بها وهو أحق بها من غيره من أي مجتمع كان ما دامت تصلح لمجتمعه ويصلح بها حاله.
* هذا الموضوع وتعريف الدين سيأتي معنا في الحلقة الأخيرة جزء من بحث للكاتب بعنوان "الحضارة .. الثقافة .. العولمة .. الدين"، منشور عام 2006 في مجلة "شئون العصر اليمنية" تصدر عن (المركز اليمني للدراسات الإستراتيجية)، وهي مجلة محكمة.
التاريخ: 2/10/2011