تقديم مجموعة قصصية للأديبة ريمة الخاني
عدنان كنفاني
هل مهمة التقديم لكتاب، أي كتاب، سواء كان مجموعة قصصية، أو رواية، أو ديوان شعر، أو كتاب بحثي، تقتصر على ملامسة الجوانب الإيجابية في النصوص.؟
وهل يُفترض أن يكون مُقدِّم الكتاب ناقداً أكاديمياً.؟
وهل نستطيع أن نضع فوارق تقويمية بين كتابة "صحفية أو دراسية مثلاً" وكتابة إبداعية كما يفترض أن يكون في الشعر والقصة والخاطرة والرواية.؟
ويبقى السؤال الأكثر جدلاً يفرض نفسه أمام كل من يسعى لكتابة تقديم، أو مقدمة لكتاب إبداعي هل تراه يدخل في دروب المغامرة.؟
لا أشك في أن الكتابة الإبداعية هي مغامرة دائماً، وهذا كما أرى ينطبق تماماً على محاولة كتابة تقديم لمجموعة قصصية، من المفترض أن تنتمي إلى قافلة الكتابة الإبداعية.
هي مهمة شائكة وصعبة، إذ لا يمكن أن يقتصر الأمر على المديح المجاني، ولا أن ينحى إلى التقاط الهنات في النصوص، وممارسة التحطيم والإلغاء، بل، ومن المفترض أيضاً أن يكون المُقدّم محايداً قدر ما يستطيع كي يحقق مصداقيته أولاً، وقيمة الكتاب الذي يقدّم له.
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر قد يبدو إشكالياً وسط هذا الكمّ الغزير من الكتب التي تغزو الأسواق، وتنتهي إلى كتب ملقاة على الأرصفة تباع، لو توفّر لها زبون، بأبخس الأسعار.
هل يمكن أن ننظر إلى مستوانا الثقافي بالعام من خلال تلك الكتب الهابطة.؟
وهل ترى الكتب الجيدة، ولو كانت أسماء من يكتبها مغمورة ومغيّبة، فرصة للتعريف عنها والإشادة بها، وتسويقها.؟
ولست ألوم القارئ، رغم تدني المستوى العددي للقرّاء، ولا أريد أن أخوض في شرح، أو في البحث عن الأسباب، لكن الأمر الأخطر من ذلك هو في كمّ الكتب، في الأجناس الأدبية المختلفة، الهابطة التي تنتشر كما ينتشر "البق" في فضاء الأنهار الجافّة، والغريب أن بعض هذه الكتب الهابطة، تجد من يقدّم لها من بعض الأسماء الكبيرة، بالطبل والمزمار، لتكتشف، وأنت تبدأ في تقليب صفحات الكتاب، أنه يشبه، إلى حد ما، من حيث المضمون، ذلك "البق" القارص.
بين يدي مجموعة قصصية تحمل عنواناً برّاقاً وإشكالياً في آن، (النوم في دوائر الفراغ)، وهذا ما أعتبره لفتة ذكاء من الكاتبة لشدّ اهتمام القارئ للدخول في مفردات الكتاب.
وقبل أن أدخل في "مغامرة" التقديم للمجموعة، يفرض عليّ الواجب بدايةً، أن أنوّه بأن الكاتبة السيدة ريمة الخاني تملك الموهبة، موهبة الكتابة والقصّ، وتملك جناحين يوفّران لها القدرة على التحليق في الفضاء المطلق للإبداع، وما أعنيه "بالفضاء المطلق للإبداع" هو الفضاء غير المحدود، والذي لا يملك أحد وصاية عليه، أو احتكاراً له، هو فضاء بكل ما تعنيه الكلمة، ليس له سقف، بمعنى أن لا أحد بلغ، ولن يبلغ أحد السقف طولاً أو عرضاً، وهذا الفضاء ملكٌ لخالقه، ولا يملك أحد سلطة الوصاية عليه، ولا سلطة إلغاء الآخر، فضاء يسع كل الطيور الراغبة في التحليق، وكلّ طير يطير على قدر قوّة جناحيه.
ريمة الخاني وهي تطلق مجموعتها القصصية الأولى (النوم في دوائر الفراغ)، تلتقط أيضاً إرادة التحليق بجناحيها في ذلك الفضاء، ولها، مع تنامي النضوج، وصقل الموهبة، وامتلاك الخبرة، أن تطوّر قدراتها على التحليق.
في هذه المجموعة بين أيدينا قصص تبدو قصيرة نسبياً، فهي تتناول مشهداً بسيطاً من مشاهد الحياة، تعرضه، وتحاول أن تعالجه من خلال الطرح نفسه، لتأتي أكثر نهايات القصص مفاجئة، أو مغلقة، أو مدهشة..
من الواضح أن الكاتبة ملتزمة التزاماً صارماً بالقيم الدينية، والأخلاقية، تختار مفرداتها بحذر شديد، ولا تعتني بالشعرية كثيراً، بل تعمل وبكل الجهد لإيصال الفكرة من خلال الحدث البسيط كما ذكرت، وتنتقل عبر جمل فعلية قصيرة ونزقة لإيفاء النص القصصي حقّه.
وهي قصص ونصوص مباشرة، لم تلتفت إلى الترميز المبهم، ولم تعتني بالتسلق على أسوار الحداثة، وهنا أجد، أن جمهور المتلقين في الغالب، ولا أعني النخب الثقافية المتخصصة، يستقبلون النصوص المباشرة "النثر والشعر" براحة أكبر من إشغال الفكر في البحث عن مدارات الرموز، وقد يبدو هذا أكثر وضوحاً في تقبّل المتلقين العاديين للشعر العمودي الكلاسيكي "شعر البحر" أكثر من شعر التفعيلة، أو ظاهرة الخلط بين النثر والشعر، وهي شريحة اجتماعية كبيرة في مجتمعاتنا، من حق الكاتب أو الكاتبة التوجّه إليهم في الكتابة من خلال المباشرة، لأنهم بالمحصّلة هم أبطال القصص، وهم المعنيون، وأجد أن المباشرة يمكن أن تكون وصفاً مقبولاً لتحمل الفكرة والحدث والهدف من صياغة القصص، ووصولها دون جهد للمتلقي.
تلوّنت وتنوّعت الموضوعات في المجموعة القصصية (النوم في دوائر الفراغ) الأولى للكاتبة ريمة الخاني، لكنها لم تخرج عن واقعية حيواتنا الاجتماعية، اليومية، ذات الخصوصية باهرة الوضوح، والتي كثيراً ما تصطدم مع إفرازات "غير طبيعية" وغير سويّة بالمنظور الأخلاقي والديني، لتأتي النهايات بما يشبه حكمة مُزجاة، أو درس يقول بأن نتيجة كل تصرّف غير أخلاقي، أو منافي للقيم الدينية والاجتماعية السويّة لا بد أن يتعرّض فاعله "للعقاب" بشكل من الأشكال.
تناولت الكاتبة في قصص المجموعة موضوعات متعددة، ومختلفة، وكانت المرأة حاضرة في كثير من النصوص، إن لم أقل في النصوص كلها، الزوجة، والأم، والابنة، والمظلومة، والحائرة، وإلى آخر ما ينسحب على معاناة، وواقع المرأة، من وجهة نظر الكاتبة.
ولم تخل القصص من ملامسة قضايا اجتماعية كبيرة، لكنها كانت ملامسات من خارج الدائرة، تؤشّر على أن طرح حلول لها، أكبر من قدرات الكاتبة، أو قدرات "الأبطال" الذين يدورون في فلك الأحداث.
قصص قصيرة نسبياً كما قلت، إن دلّت على شيء فإنها تدلّ على قِصر نفَس الكاتبة في مسألة إطالة السرد، أو، كي أكون منصفاً، تصرّف مقصود من الكاتبة لتحديد الفكرة في إطار حدث بعينه دون الخوض في تفاصيل بعيدة، أو شخوص إضافيين لا تجد لهم الكاتبة حضور في نصّها المُفرد.
وهي مجموعة قصصية أولى للكاتبة، تحتمل كثير قول، وكثير تفصيل، ولكنني أجد من المبكّر أن نحكم بالقطع على سويّة الإبداع بالعام في قصص ريمة الخاني من خلال التجربة الأولى، ولو أنني أجد مؤشّرات إيجابية كثيرة قادرة أن تشدّ قدرة جناحيها على التحليق أعلى في فضاء الإبداع.
كما لا أجد من الإنصاف أن نطلق أحكاماً مثبّطة، فلا أحد يملك سلطة إلغاء الآخر، ولا أحد يملك فصل الخطاب في تصوّر ما يمكن أن يأتي به المستقبل في مسيرة الكاتبة السيدة ريمة الخاني التي أتمنى لها أن تواصل فعل الكتابة المغامرة، وأن تنمّي موهبتها في توجّهها الأدبي الإبداعي.
إنني أعتبر أن إطلاق الكتاب الأول لأي كاتب أو كاتبة، هو إعلان حضور، ولا أجد من الإنصاف أن نخضعه لمشرحة النقد السلبي، بل، وهنا أجدها ملاحظة هامّة جداً، إن فعل الكتابة المجرد من بريق التعالي والاستعراض وحب الظهور والمظهر، والمنتمي إلى منظومة القيم الأخلاقية الاجتماعية يفرض عليّ، أنا شخصياً أن أقف أمامه باحترام وتقدير، بعد أن أُتخمنا بالكتب المنحرفة والإباحية والتهويمية والمجدّفة مركّبة على تهمة الحداثة، والحداثة منها براء.
الكاتبة السيدة ريمة الخاني، مجموعتك القصصية الأولى أنبتت بعض ريشات في جناحيك لتحلقي في فضاء الإبداع، لكن الأجنحة في كل وقت، وعند كل طير، تحتاج إلى ريشات كثيرة كي تحلّق بك إلى الأعلى في فضاء الإبداع، ولا ينبت الريش مجاناً بل يحتاج إلى تربية وسقاية وصبر وتحمّل.
ولأنك تمليكن الموهبة، فأنت مؤهّلة لتحقيق طموحاتك المشروعة.
ـ ـ ـhttp://adnan-ka.com/modules/publisher/item.php?itemid=127