ماذا بعد شطب فتوى ابن تيمية في مسألة الجهاد
التطورات العلمية العالمية المذهلة التي قربت المسافات ودفعت للتقارب بين الشعوب المختلفة مما أدى إلى استبدال قسما من حدود ومباديء الفكر لدى كثيرا من الشعوب المختلفة ليحل محلها فكر العولمة الذي يفرض نفسه على فئة لا يستهان بها من هذه الشعوب من خلال استيراد وتصدير الثقافة العالمية المختلفة بالإضافة للوسائل الاقتصادية التي دفعت فئة من الشعوب للاعتياد على عادات اقتصادية ومعيشية جديدة مما غير وشقلب كيان كثير من الناس في المجتمعات المختلفة في العالم وثقافتها مغايرة لثقافة الدول المصدرة للعولمة،
وقسم من الشعوب العربية والإسلامية تأثرت بالفكر المعلب والمصدر إلى العالم العربي والعالم الإسلامي بغلاف المساعدات الاقتصادية والبرامج الالكترونية والمساقات الحضارية والتكنولوجية المصدرة للمنطقة العربية من الدول المتقدمة الغربية والشرقية ومن خلال بعض ما يطرح ويقدم في المؤتمرات ومن خلال تبادل الحوارات المتعددة المسميات والتي تهدف لتقارب الرؤيا الفكرية من خلال تليين المواقف المتشددة أو محاولة الدفع باتجاه إلغاء المباديء أو تعديلها والتي تربى عليها مجتمعنا العربي والإسلامي،
ولكن يثور التساؤل حول الجهة أو الشخص المسئول عن تحسين صورة الإسلام أمام العالم، وهل هناك من المسلمين من أساء في تصرفاته وأعماله وتشدده في الأسلوب والتعبير والابتعاد عن الوسطية, مما شوه النظرة العالمية للإسلام،
وأيضا من خلال أعمال وأفعال ربما كانت نتيجة لردة فعل طبيعية بسبب اعتداء مؤثر رتب آثارا ووقع على العرب والمسلمين من قبل الغير ، أو بسبب فتاوى إسلامية لعلماء أجلاء حيث كانت فتاواهم محقة وصحيحة في عصرهم وزمانهم ولم تعد اليوم مناسبة للأفكار العالمية المعاصرة،
أم أن الأمر هو رغبة العالم الغير إسلامي في تغيير بعض الأفكار والمباديء والعادات والتقاليد الإسلامية التي نص عليها الدستور الرباني وأقرتها وفصلتها السنة النبوية وأيضا بينها عرف المجتمع العربي والإسلامي لكي يتوافق الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي الذي يعبر عن فكر العولمة وفقا لمصلحتهم المبتغاة ،
وفي الماضي استغل العالم الغربي الفكر الجهادي الإسلامي في محاربة الشيوعية وكان ذلك في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي حيث تلقى المجاهدون المسلمون من مختلف دول العالم الإسلامي والذين تواجدوا في أفغانستان دعما عسكريا ماديا ولوجستيا من قبل أميركا وبعض الدول الغربية ضد القوات الشيوعية السوفييتية المحتلة لأفغانستان،
وفي نفس الوقت حاربوا الفكر الثوري الإسلامي من خلال إشعال الفتنة بين العراق والجمهورية الإسلامية في إيران بعد قيام الثورة في عام 1979م،
وفي بداية التسعينات من القرن الماضي رفض الغرب نتيجة الانتخابات التشريعية الجزائرية والتي فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية فوزا كبيرا، ومن ثم تم اعتقال معظم زعمائها وبدأت حرب الإساءة للإسلام والمسلمين من خلال أعمال القتل التي ارتكبت بأيدي إسلامية وغير إسلامية في مختلف بلدات ومدن الجزائر، وكثيرا من أعمال القتل البشع كانت ترتكب بأيدي مرتزقة عملاء للغرب وملتحين باسم المسلمين وكانوا يتركون شخصا أو شخصين على قيد الحياة ليخبروا السلطات والعالم أن القتلة مسلمون،
بالإضافة إلى مجازر الصرب المرتكبة ضد مسلمي البوسنة ومسلمي ألبانيا واعتداءات كثيرة طالت المسلمين في دول مختلفة في العالم وأبرزها وأطولها الحرب القائمة ضد العرب والمسلمين من قبل الغرب وإسرائيل في فلسطين والعراق وأفغانستان والتي فصولها ما زالت مستعرة وآثارها ما زالت قائمة،
وتتبدل وتختلف الرؤية الغربية باختلاف المصلحة العائدة عليهم باختلاف الزمان والمكان دون مراعاة لشعور أو مباديء إنسانية أو التفات لتعاليم دينية أو روحية،
ويأتي مؤتمر ماردن الذي عقد يوم الأحد أواخر شهر آذار الماضي في جنوب شرق تركيا وفقا لما ورد في الصحافة والذي ضم علماء مسلمين من عدة دول إسلامية منها السعودية وتركيا والهند والسنغال وليبيا والبوسنة والمغرب وأندونيسيا ليصب في المصلحة والرؤيا الغربية في علاقاتها مع الغير ،
فخرج المؤتمر بنتيجة أنه لم يعد هناك مجال لتطبيق فتوى الفقيه الإسلامي الفذ ابن تيمية الذي عاش في القرن السابع الهجري(القرن الرابع عشر ميلادي)، والتي تقضي بالعنف المتشدد وإلى تقسيم العالم في القرون الوسطى إلى دار إسلام ودار كفر بشكل صريح بعيدا عن الحلول الوسط،
وأشار المؤتمرون إلى أن من يستند إلى فتوى ابن تيمية فقد ضل في تفسيره ، وأشار البيان الصادر عن المؤتمر أنه لا يجوز لأي فرد مسلم أو جماعة مسلمة أن تعلن الحرب أو تنخرط في الجهاد من تلقاء نفسها،
وهذا الرأي المنبثق عن المؤتمر يثير التساؤل بشدة، هل يمتنع المجاهدون في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان وغيرها من المواقع الإسلامية المعتدى عليها في العالم عن الجهاد ضد الاعتداء والاحتلال حتى يأخذوا الإذن بالجهاد ،
وممن يأخذون الإذن فهل هناك دولة إسلامية شاملة وخلافة إسلامية قائمة وهل هناك أمير مؤمنين للاستنجاد به لنصرة المسلمين وأخذ إذنه بالجهاد،
فالحرب ضد الفلسطينيين قائمة منذ أكثر من ستين عاما والحرب ضد المسلمين في أفغانستان مندلعة منذ سنوات والحرب الغربية الأخيرة ضد العراق ضد أرضه وشعبه تجاوزت السبع سنوات وحصيلتها مليوني ضحية ومئات الآلاف من الجرحى والأسرى ونهبت بسببها أموال العراق وثرواته وخيراته وتشريد قسم من أبنائه ومواطنيه خارج البلاد،
وهل ينتظر هؤلاء المجاهدين في هذه البلاد العربية والإسلامية المعتدى عليها جهارا نهارا مع سبق التخطيط والتحريض والقتل اليومي لأبنائها من المعتدين المعروفين لكل العالم وبأحدث ما توصلت إليه الترسانة الغربية من أسلحة تكنولوجية مختلفة لموافقة من جانب المؤتمرين في منطقة ماردن التركية ليوقعوا لهم الإذن بالجهاد ومقاومة المحتلين للأرض العربية والإسلامية ،
أو ربما يوجد عندهم حلول سحرية أخرى غير الجهاد والمفاوضات للحد من معاناة الشعوب العربية والإسلامية المحتلة أرضها والمنتهكة حرماتها ويضطهد ويقتل شعبها كل يوم من خلال وصفة خارقة تؤدي إلى جلاء المحتلين عنها،
ووفقا لما ورد في الصحافة فإن المؤتمر كان معنيا بتجاوز الرأي القديم الذي يقسم العالم والعالم الإسلامي إلى دار كفر ودار إسلام ،وأيضا إعادة تفسير الأحكام الإسلامية وفقا لظروف السياسة المتغيرة، ودعا بيان المؤتمر إلى إعادة دراسة فتاوى العصور الوسطى الإسلامية والعمل على موائمتها مع الظروف المعاصرة،
ووفقا لدعوة البيان فإنه يدفع كل من ذاق مرارة الاحتلال وظلمه للتساؤل هل يجاهد المجاهدون ضد المحتلين وفقا لفتوى ابن تيمية وغيره من العلماء المبجلين في أزمنة مضت ، أم أن الجهاد تكليف واجب على المسلمين تم أخذه من تعاليم القرآن وسنة النبي الكريم،
فالقرآن ينبئنا بمقاتلة الأعداء الذين يقاتلوننا (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم....)آية 190/ وما بعدها من آيات في سورة البقرة حيث أمرنا المولى جل ذكره بالقتال في سبيل الله وهو الجهاد لإعزاز دين الله وإعلاء كلمته,
وأمرتنا تعاليم القرآن أيضا بالإعداد الجيد لمحاربة المعتدين على أرض الإسلام وأبناء الإسلام( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) كما ورد في الآية 60 وما بعدها من آيات في سورة الأنفال وهذا أمر لا تهاون فيه فهو قاعدة دستورية قرآنية ..فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم..،
والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم حض على الرباط في سبيل الله في أكثر من حديث، ولقد ورد عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله عليه السلام يقول(من رابط يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سموات وسبع أرضين) رواه الطبراني،
والرسول كان لنا خير قدوة للجهاد فجاهد وصبر وقاد المجاهدين وجهاده عبر عن قيمة الجهاد والمردود العائد منه على الإسلام والمسلمين من خلال سيرته والرسالة الخالدة التي حمل لوائها،
وما ورد عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم(رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد) أخرجه الترمذي ،وفي هذا الحديث تظهر مكانة الجهاد في رفعة الإسلام وأمة الإسلام فلا يكتمل دين المرء إلا بالصلاة ولا يرتفع بيت الإسلام إلى بسنامه وهو رأس العامود وهو الجهاد الكفيل بعزة الدين وأهله ومنع الطامعين والمعتدين وردعهم عن الاعتداء على المسلمين وانتهاك حرماتهم وعلى ديارهم،
والجهاد على المسلمين فرض عين وفرض كفاية ومجاهدة الكفار واجبة باليد واللسان والمال والقلب، وقد أجمع علماء الأمة على أن الجهاد فرض عين على كل مسلم إذا داهم الأعداء البلاد الإسلامية وهذا ما حصل في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من ديار المسلمين التي جاست أرضها جيوش المعتدين،
وقال بعض العلماء أن جهاد الكفار مطلقا متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه ولم تخذل أمة من الأمم إلا بتركها الجهاد،
ومن جهة أخرى ورد أن المؤتمر يعتبر خطوة على طريق التآلف والإسراع والتقارب من خلال حوار الأديان مع الديانات الأخرى ومع القواعد المدنية العالمية ، وذلك لظهور الدول المدنية في العالم التي تحمي الحقوق الدينية
والعرقية والقومية مما اقتضى معه التسامح وإعلان العالم كمكان للتعايش السلمي بين كافة الجماعات الدينية،
ولكن للأسف فهذه الدول التي تعتبر نفسها زعيمة العالم الحر وشرطي العالم وهي التي تحتل وتسهل احتلال ديار المسلمين وتمارس وتسهل قتل العرب والمسلمين في عدة مناطق في العالم العربي والإسلامي وفي العالم ،
فأي تسامح هذا الذي يتحدثون عنه بوجود الاحتلال في ديار الإسلام بالإضافة للمجازر التي ترتكب ضد المسلمين بشكل متواصل والشواهد كثيرة فمنها القائم ومنها القريب،
ولا شك أن الدين الإسلامي دين سلام وتسامح وأمر بالسلم بشرط العزة والكرامة للأمة متى وجد السبيل إليه, ولكنه أيضا دين عدالة ومساواة ولا يقبل الظلم وخاصة إذا كان هذا الظلم واقع على المسلمين ، فهل التسامح مع القوات الغازية المحتلة والتعايش مع قوات الاحتلال سيرفع الظلم الواقع على الشعوب العربية والإسلامية والمحتلة أرضها والمهان شعبها من ظلم الاحتلال سنوات طويلة بالإضافة لممارساته وانتهاكه لكافة الحرمات،
وذلك وفقا للتجربة المريرة التي عايشها الشعب الفلسطيني والشعب العراقي والشعب الأفغاني مع محتليهم وجلاديهم من الجيوش الإسرائيلية والأمريكية والغربية وأيضا عايشتها سابقا وفي أزمان مختلفة شعوب عربية وإسلامية ذاقت وبال الاحتلال والاستعمار،
والحرب ضرورة اقتضتها ظروف الحياة لرد العدوان والحفاظ على حرية الأديان وتطهير الأرض من الظلم والطغيان ولا عدوان إلا على الظالمين،
وشطب فتوى ابن تيمية لن يحول دون أبناء الأمة من جهاد الكفار المعتدين ولن يمنع الدعوة إلى الجهاد في كل مرة تتعرض فيها بلاد المسلمين مستقبلا للاعتداء والاحتلال والنيل من كرامة المسلمين ومصادرة ثرواتهم وسلب قرارهم،
والجهاد ليس موجها ضد الأديان ولا ضد الثقافات المدنية ولا ضد العقائد ولكنه ضد الغزاة المعتدين على ديار الإسلام لردعهم بغض النظر عن عقيدة أو دين المعتدي من أجل ردهم عن عدوانهم وإخراجهم من ديار المسلمين والجهاد هو دفاع عن أرواح وأرض وحرمات المسلمين ولا عدوان إلا على الظالمين،
وتقبل الظلم والعدوان للتعايش مع الأفكار المستوردة لكي لا يقولوا عن الأمة العربية والإسلامية أمة متخلفة فهو ظلم للنفس وجلد للذات ورأي جانب الصواب وفي غير محله فليقولوا ما شاءوا إذا ما امتلكت الأمة العزة وعزة الأمة لن تأتي بالخنوع والخضوع بل بدفع الظلم والعدوان،
وأعتقد أن هذا المؤتمر سابق لأوانه ومتناقض في طرحه لأن على الدول الغربية التي تصب قرارات المؤتمر ضمن مصلحتها ورؤيتها أن تبادر في الدعوة الجادة لإنهاء كافة مظاهر الاحتلال لبلاد المسلمين كبادرة للتوافق الحضاري والفكري،
ولذلك فالأولى أن يعم السلام أولا وتنهى كافة مظاهر الاحتلال في فلسطين والعراق وأفغانستان وترجع الحقوق لأصحابها وتمنع كافة الاعتداءات على المسلمين في كل موقع في العالم يعيش به مسلمين وأيضا تعم تعاليم العدل والإنسانية على البشر دون تمييز بين عرق أو لون أو جنسية أو دين أو قومية, ومن ثم بعد ذلك يصار لعقد مثل هذا المؤتمر لانتفاء الأسباب الموجبة لدعوة المسلمين إلى الجهاد .
4/4/2010 عودة عريقات