المراكز الثقافية
«منارة» معرفية أم هيــــاكل فــــارغة؟تنتشر المراكز الثقافية على امتداد مساحة القطر بمحافظاته ومدنه، بحيث لا تكاد تخلو منطقة أو حتى بلدة من مركز ثقافي..!! ولدينا الآن في سورية /465/ مركزاً، وفي دمشق وحدها هناك /6/ مراكز، و/125/ مركزاً في ريفها، وهي ذات أبنية فخمة بمساحات كبيرة، إلا أنها متهمة بالتقصير في أداء دورها المطلوب، حيث لوحظ مؤخراً انحسار هذا الدور بشكل عام لتحل ثقافة المراكز الأجنبية بأجندتها المختلفة محلها، إذ باتت المراكز الاجنبية الاخرى تستقطب غالبية الأدباء والمثقفين عبر أنشطتها النوعية والمتميّزة، يُضاف إلى ذلك وحرصها على المواكبة الإعلامية لفعالياتها وتسليط الضوء عليها. في حين يتباين نشاط مراكزنا الثقافية من حيث الغزارة والأهمية تبعاً لنشاط القائمين عليها، ومدى حرصهم على التفاعل مع الواقع الثقافي محلياً وعربياً؟!. نشاط هذه المراكز وآلية عملها ومدى مساهمتها في نشر الثقافة، والارتقاء بالوعي العام، كان ولايزال مثارَ جدل وأخذ ورد... تم تناوله في الإعلام في أكثر من مناسبة، وإذ نتطرق إليه من جديد، فهو من باب حرصنا الشديد على هذه الصروح الثقافية وغيرتنا عليها لتكون منارةً حقيقيةً للثقافة، وأن تكون صاحبة المبادرة في تحريك وتفعيل النشاط الثقافي إلى رعاية ودعم المشاريع الثقافية لا سيما مشاريع الشباب.
وخلال لقائنا بالعديد من الأدباء والإعلاميين المتابعين للشأن الثقافي أكدوا وجهة النظر القائلة بعدم جدواها، وبأنها باتت أمكنةً بلا أي مضمون وصل الرأي ببعضهم إلى حدّ المطالبة بإلغائها واستثمار أبنيتها الضخمة، فيما يعزو المعنيون هذا الخلل والتقصير الحاصل إلى تبعية هذه المراكز إدارياً ومالياً إلى وزارة الإدارة المحلية، حسب قرار مجلس الوزراء رقم /4/م تاريخ 27/9/1986، وإلحاقها ثقافياً بوزارة الثقافة، فهذا التداخل والتشابك الإداري قد جعلها تقدم المنتج الإبداعي الثقافي، وكأنه عمل إداري ليس أكثر -كما يقولون؟!-
فماذا يقولون؟؟
تحقيق: نعيمة الإبراهيم/ جازية سليماني
مروة: برامج دون فعالية
إسماعيل مروة رئيس القسم الثقافي في جريدة الوطن يقول:
المفترض أن تكون المراكز الثقافية ذات فعالية، ورافداً ثقافياً مهماً في المدن والأحياء.
وقد مرّ وقت عليها كانت فيه خلية نحل، ليس على صعيد المحاضرات والندوات وحسب، بل على صعيد ارتياد المراكز الثقافية من المهتمين والمثقفين والطلبة، مضيفاً ربما كانت تحمل أهمية لأنها المتنفس الوحيد للمثقفين حينها.
أما اليوم، ومع تكاثر المراكز الثقافية في سورية بشكل كبير- وهذا التكاثر ظاهرة صحية- إلا أنها ليست في أحسن حالاتها عموماً، بل ليست حسنة الحال على الإطلاق، خاصةً من حيث برامجها، فهذه البرامج التي تُوزع من خلال مديريات الثقافة في كل محافظة، أو التي يتم إعدادها في مناسبات محددة من المراكز نفسها، مجرد برامج لا تقدم شيئاً للمركز ذاته، أو لمرتادي المراكز الثقافية... متسائلاً هل تتم دراسة البرامج دراسة دقيقة لتلبية احتياجات هذا المركز وهذه المحافظة وهذه المنطقة؟ هل يتم اختيار المشاركين في هذه الأنشطة بشكل يلبي احتياجات المنطقة؟.
هل تقوم مديريات الثقافة بالتعاون مع المراكز واتحاد الكتّاب العرب باختيار المحاضرين والأدباء المميزين للمشاركة؟.
من خلال التجربة والمعرفة، فإن مديري الثقافة يمتل
كون علاقات تحيط بهم، وهذه الأسماء التي يعرفونها هي التي تشارك في مجمل أنشطتهم، فإن كان الاجتماع إبداعياً كانوا شعراء وكتّاباً، وإن كان الاجتماع محاضرةً كانوا سادة المحاضرة، حتى إن كان الاجتماع لتكريم أديب حي أو راحل فإن الأسماء تبقى ذاتها ، حتى وإن لم تربطهم بالأديب أية رابطة!!!. ودون أية مجاملة أو تجنٍ فإن برامج المراكز الثقافية- عموماً- هي جدول يتم تطبيقه دون نظر إلى الفعالية، وإن جاءت الفعالية عرضاً لابأس بذلك.. وقد حضرتُ عدداً من الحوارات بين مديري الثقافة ومديري المراكز وشهدتُ كيف يتبرأ كل واحد من التبعات، المهم أنه طبق البرنامج!
والقول: إن هذه المراكز باتت أمكنةً دون محتوى يرى مروة : إن طرح الأمر بهذه الحدية يحمل ظلماً شديداً للمراكز وأهميتها ودورها، فلا يمكن أن يُنظر لهذه الصروح على أنها أمكنة دون محتوى، انما الأهمية في البرامج وما تقدمه، والدليل أن هذه المراكز عندما تحتضن أحياناً فعاليات ذات مستوى عالٍ، أو ذات توجه محدد تغصّ بالحضور، وهذا يعني أن المشكلة ليست في المكان، بل في نوعية النشاط الذي يمارس فيه، فما بالنا بنشاط مستعجل يشارك فيه ستة أدباء لا يحضره أحد؟ هل يقع اللوم على المكان؟ لقد ذكرت مراراً، وكتبت في هذا الموضوع أكثر من مرة، فالمكان لا يمكن أن تقصده إلا إذا ألفته وأحببته، وقدم لك الفائدة والمتعة، وهذا لايمكن أن يكون ضمن الظروف الحالية للمراكز الثقافية. فالمحاضر أو الأديب الذي لا يجيد النطق بالعربية، أو الذي لا يجيد سبك اللغة المقبولة، أو الذي لا يميز بين الخاطرة والقصة، قد يحضره الجمهور مرةً مجاملةً، أو بمعية اسم آخر... لكن عندما يكرّسه المركز، وهو يصدّق نفسه، فإن الجمهور لن يحضر.
لذلك ليس من حقنا أن نلوم الجمهور في أغلب الأحيان، وليس من حقنا ان نقرّعه بأنه لا يأتي إلى أنشطة المراكز. وحتى نكون منطقيين ونبحث عن حلول يجب أن نذهب إلى هذه الأمسيات لنقف بأنفسنا على جهل بعضهم وطاووسيته في الوقت نفسه.... وقد شاركتُ شخصياً في أمسية غصت نصوصها بالمنامات التي أُطلق عليها اسم الصوفية لإحداهن، وعند الانتهاء أردت مناقشتها، فقالت: نصوصي فوق النقد لأنها على صلة بالله! بالله عليكم كيف تُسلم هذه الميكرفون والمنبر الثقافي؟ وكيف سيحضر الجمهور مثل هذا اللقاء؟ ولو سألتُ المشرفين على المراكز عن الأنشطة النوعية، فإنهم يعبّرون عن استغرابهم لعزوف الأسماء عن المشاركة، فكيف يشارك اسم لائق في نشاط غير مرئي؟ وكيف يبذل المشارك جهداً لصناعة شيء متميز يأخذ مقابله ألفَ ليرة؟.
إنها أمكنة حميمة وذات جدوى، لكن غياب الخطط والاستخفاف بها جعلها مهجورةً يقتلها الصقيع.
إن أسهل إجراء يمكن أن يتم اتخاذه هو الإلغاء أو الشطب، فمثل هذا الإجراء لا يحتاج إلى جهد، وقد يمثل إنجازاً لدى بعضهم، لكن المراكز الثقافية- وهي في سورية أغنى من أية دولة وأكثر عدداً- وُجِدت لتسهم في رفع السوية، ولتقديم وجبة ثقافية وإبداعية مهمة، لكن الوضع المتردي الذي وصلت إليه المراكز الثقافية يحتاج إلى برامج تطويرية مذهلة ولا تقف عند حد معين، خاصة إذا ما وضع المعنيون بالثقافة في حسبانهم الوسائل التثقيفية الكثيرة التي تنتشر في أرجاء البلاد. لذلك، لا بد من التطوير الممنهج والرؤية الشمولية للمراكز الثقافية ودورها وخطورة هذا الدور، والتطوير الذي تأخر لم يعد قائماً على اختيار محاضر أو مبدع، بل لابد من البحث عن آليات تطويرية تتجاوز هذا الحدّ الأدنى. والأمر منوط بالمعنيين بالثقافة وشؤونها، وأصحاب القرار فيها، عندما يؤمنون بأهمية الثقافة ودورها الخطير!. يتم الحديث عن المراكز الثقافية الأجنبية ومشروعها، وبعضهم حين يعجز عن مجاراة هذه المراكز يبدأ بإلقاء الاتهامات لهذه المراكز... ولو نظرنا في برامجها، وتابعنا أعمالها، فإننا سنجد هذه المراكز تعمل على تعميم ثقافتها، فدورات اللغات- وبأسعار مقبولة- لا تتوقف، والمحاضرات عن أدباء تلك البلدان، والمشاركة الفاعلة للأدباء والموسيقيين وغير ذلك لا تتوقف..! وهذا الدور من المفترض أن تقوم به كذلك المراكز الثقافية السورية في الخارج، ولستُ قادراً على الحكم فيما إذا كانت تقوم به أم لا... لكنني لم أسمع- إلا في مناسبات محددة- عن استضافة أديب أو موسيقي أو تشكيلي أو مبدع سوري في مراكزنا الثقافية في الخارج... هذه المراكز رسمية ومفتوحة الأبواب، ولا يمكن المقارنة بينها وبين المراكز الثقافية المحلية، والمقارنة تكون بينها وبين مراكزنا الثقافية في الخارج، والتي يتولاها أناس يجب ألا يقلوا مكانةً عن السفراء، فهل هم كذلك؟.
أذكر أن المسرحي والناقد والأكاديمي الدكتور عبد العزيز حمودة كان مديراً للمركز الثقافي المصري في واشنطن، وأعرف أنه قدم للمثقفين أضعاف ما قدمه السفير عندما كان مديراً للمركز وطار اسمه في الآفاق... فمن من مبدعينا واسعي الأفق يشكل رسول ثقافتنا في الخارج؟ هذا هو السؤال المهم، إلا إذا أردنا أن نحمّل هذه المراكز ضعفنا. وحول شمولية برامج المراكز الثقافية وتنوّعها يقول مروة:لستُ أدري إن كانت الشمولية ضد التجانس أم معه، فأنا مع الشمولية في المراكز، لأنها ليست منبراً للشعر أو القصة أو المحاضرة، يجب أن تشمل أنشطتها كل الأصناف والأنواع بما في ذلك الفنون الشعبية والمسرح والسينما، ولكن ضمن رؤية متكاملة، أما ما نراه من خليط في مراكزنا اليوم فهو غير متجانس حتماً، إلا إذا أردنا ان نضع في حسباننا عنصر جذب الجمهور، وقد فعلت وزارة الثقافة هذا الأمر في رمضان عندما خصصت برامج للعوامة والحلويات ورقص المولوية في مراكز دمشق الثقافية في أمسيات رمضانية... هكذا رأوا مهمة المراكز، لهم رأيهم الذي نحترمه ونقدره، فهو على الأقل روّج للعوامة والمولوية، وأمّن سهرات رمضانية للأصدقاء بالمجان.
عندما نعرف معنى الثقافة الشمولية بإمكاننا أن نضع البرامج الشاملة، فالشمولية ليست فعلَ حاطب ليلٍ يضع في جرابه كل شيء، ولا بد أن يروق للإنسان شيء مما في الجراب..!.
غياب الرؤية أو حضورها هو الأساس في وضع البرامج، إن كانت خاصةً أم شاملةً، وإلا تحولت- وقد تحولت فعلاً- الثقافة الشاملة إلى ما يشبه الفنان الشامل الذي يمثل ويرقص ويغني ويهرج لكن في كل هذه الأصناف لا يحمل ربع موهبة.
د. المنلا: عمل وظيفي وملء فراغات
د. عبد القادر المنلا- إعلامي: أن هذه المراكز فقدت دورها الرئيسي في تفعيل الشأن الثقافي وتحريك الموضوعات الثقافية الشائكة أو الإشكالية، وبالتالي فقدت دورها ومهمتها الأساسية، وتحوّلت إلى شكل من أشكال العمل الوظيفي، الذي يهدف إلى ملء الفراغات ليس إلا. ويقول د. المنلا: إن هذه المراكز قد حافظت على وجودها كأبنية بمعدّات وموظفين وكوادر، وهي غالباً أحادية التوجه... لا تفكر بتطوير أدوات المحاضرة أو الأنشطة الأخرى...؟! وغالباً هي واقعة فيما يشبه القطيعة بين فعالياتها ومتطلبات واحتياجات الجمهور العام، فضلاً عن أن النشاط الثقافي غالباً ما يقتصر على البعد النظري والأسلوب الكلاسيكي القديم للمحاضرة، إلى بعض الأمسيات الشعرية والقصصية البائسة التي لا تلامس شغف الحضور فعلاً، مما لا يشجع لاحقاً على ارتياد هذه المراكز...؟! مشيراً إلى أن أهم ما في هذه المراكز انتشارها على مدار القطر ومناطقه في المحافظات، هذا يعني آن مهمتها أساسية في التعريف بالثقافة ونشرها لعموم الناس ...ولكن هذه الوظيفة ليست موجودةً الآن في مراكزنا الثقافية بدليل درجة إقبال الناس عليها إلا فيما ندر وباستثناءات قليلة.
مضيفاً: من هنا، لا بدّ من البحث عن أسلوب يتماشى مع مستجدات المرحلة، بحيث يجذب الجمهور، لاسيما جمهور الانترنت، من خلال صيغ حديثة وعصرية تحقق التفاعل الحقيقي. وبمقارنة مراكزنا الثقافية مع مثيلاتها الأجنبية، نجد أن الأولى لا تملك أجندة محددة... أي لا تملك برنامجاً متكاملاً ومرتبطاً عضوياً ببعضه، فغالباً ما تكون برامجها مرتجلةَ، ولا تنطلق من خطة شاملة لاستيفاء احتياج ثقافي خلال العام...! في حين أن المراكز الأجنبية تضع ذلك في حسبانها، وتخطط لأنشطة هادفة وهامة، بدليل الحرص الشديد للمتابع على ارتياد تلك المراكز، وعدم التفريط بحضور برامجها. ومن وجهة نظر د. المنلا فإن من الأفضل إلغاءَها لأنها فقدت ضرورة وجودها، طالما لا تقدم قيماً معرفية حقيقية ومعاصرة.
جوان جان: إعادة النظر بدورها
الناقد المسرحي جوان جان يؤكد انحسار دور الثقافة الرسمية والمراكز الثقافية السورية انحساراً كبيراً لاسيما في السنوات الثلاث الأخيرة لتحل محلها ثقافة المراكز الثقافية الأجنبية التي تستوعب حالياً، أكثر من 80٪ من النشاط الثقافي، كما أنها أصبحت مقصداً للسينمائيين والفنانين التشكيليين والموسيقيين والمسرحيين الذين تركزت نشاطاتهم في هذه المراكز، ولم يعد التعامل مع المؤسسة الثقافية الرسمية من ضمن اهتمامتهم، وبطبيعة الحال، فإن انحسار دور المراكز الثقافية المحلية يرتبط ارتباطاً مباشراً بتقهقر الأداءالثقافي، الذي أصبح يهتم بالشكل على حساب المضمون، الأمر الذي فرغ الفعاليات الثقافية عامةً، وتلك التي تقيمها المراكز الثقافية خاصةً من محتواها. وباعتبار أن الحديث الممجوج عن الاستراتيجية الثقافية أباح العمل الثقافي لأي عابر سبيل، فقد أصبح أمراً عادياً في مراكزنا الثقافية أن نحضر أمسية عن الاقتصاد المنزلي مثلاً أو عن شك الخرز أو الصحة الإنجابية، بل وحتى عن الحسد والتنجيم وتفسير الأحلام، وهذا الواقع لا أراه مرتبطاً بإدارات هذه المراكز، بل بالتوجه الذي يريد تسطيح العمل الثقافي الحقيقي وتجريده من خصوصيته، وجره نحو العقلية السائدة في القرون الوسطى، لذلك لم يعد من المستغرب أن نعدّ على أصابع اليدين عدد رواد المراكز الثقافية المحلية، في الوقت الذي تمتلىء فيه قاعات المراكز الثقافية الأجنبية.
المطلوب الآن إعادة نظر جذرية بدور هذه المراكز وبالأداء الثقافي عموماً، والبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع، بعيداً عن الشعارات والخطب العصماء.
عبود: «القفز فوق المشكلة يكرّسها»
الأديب جمال عبود رئيس تحرير الحياة المسرحية
في ظل غياب مشروع ثقافي لابدّ من مرحلة إرهاص وتحضير أرضية ثقافية ستكون سلبيتها في إيجابيتها، أن تكون متاحةً للجميع، كل بما يقدر عليه، أو ما يرغب به، والإيجابي هنا أن الجميع يشعر بأنه مشارك وفاعل، وكلمة فاعل هي الإشكالية هنا، وهي التي تحيل إلى ما نحن فيه من سلبية الواقع الثقافي وأزمته الراهنة.
فما دمنا لم نتجاوز بعد مرحلة التهيئة للمناخ الثقافي، الذي سوف يُنتخب (بالتدريج والممارسة الفاعلة/ نخبته الفاعلة التي تشكّل رموزها الثقافية، وتؤسس لمشروعها الثقافي، فإننا سوف نظل نراوح فيما نحن فيه ولن تكون لدينا من فرص النهوض والتجاوز إلا ما كان مرهوناً بالمصادفات السعيدة التي قد تحصل، / إذا أحسنّا الإعداد لها بالمهرجانات والندوات/، أو لا تحصل. مشيراً عبود إلى أن الثقافة لا تكون إلا بعنصرين أساسيين: الوعاء ثم الوعي، دون أن يكون هذا الترتيب مقصوداً لذاته، أو لنقل بأن الوعي غالباً ما يستبق الوعاء أو الوسيلة، وفيما يتصل بحالنا الراهن، فإن الوسائل الثقافية كثيرة ومتنوّعة، وتكاد تغطي حتى أبعد القرى عن العاصمة أو آخر محافظة في بلدنا، وهذا أمر جيد جداً فقد ترتب عليه أن النشاط الثقافي بما فيه النشاط النوعي: مهرجانات المسرح ومهرجانات القصة والرواية والشعر وغيرها، وصلت إلى كل المحافظات من خلال المراكز الثقافية وفروع اتحاد الكتّاب العرب.
إذاً فما الذي ينقصنا الآن نحن الذين لا ينقصنا الوعي بالتأكيد: الوعي بحساسية المرحلة التي نعيشها وخطورة الدور الثقافي في تأثيره المباشر في صياغة وعي المجتمع.
إننا بحاجة إلى اكتشاف أزماتنا الفكرية والإعلان عنها بجرأة ومناقشتها بكل وضوح، وعندها سوف تغتني حواراتنا الثقافية وسوف يغتني مشهدنا الثقافي بكل ما هو مفيد وجديد. وعلينا أن نكف عن الاعتقاد بأننا مجتمع بلا أزمات أو بأننا نخبة بلا أخطاء، لأنه لا مجتمع بلا أزمات ولا تجديد دون أخطاء، والمطلوب مناقشة كل ذلك وليس القفز فوقه، لأن القفز عن أية مشكلة يكرّسها ويجعلها واقعاً مفروضاً على الجيل الحالي وربما الأجيال التالية أيضاً. إن مهمة المراكز الثقافية السورية الإحاطة بكل ما يتصل بالنشاط الثقافي، فالصحة ثقافة والتربية وعلوم المجتمع والتنمية الى جانب الفعاليات الأدبية بكل أجناسها، وعلينا أن نغتنم كل ما يمكن الاستفادة منه من هذه المراكز، فهي لكل الناس وليست للصفوة منهم، وقد لا نجانب الصواب إذا أخذنا على العاملين في هذه المراكز السورية غياب أصحاب المشروع الثقافي لحساب الموظف الإداري بالدرجة الأولى، وهنا جزء غير يسير من المشكلة، وعلى سبيل المثال الاستاذ حمود الموسى - مدير الثقافة: الرقة أنموذج يجب أن يحتذى .
التيناوي: اقفلوا الأبواب واعترفوا..؟!
أحمد التيناوي - مدير صحيفة بلدنا يؤكد وبشكل قاطع انتهاء دور هذه المراكز ويقول: إن المراكز الثقافية إحدى أدوات نشر الثقافة، وهي جزء من حقبة ثقافية سابقة قد انتهى دورها...؟
أي إن النمط الثقافي الذي كان سائداً لغاية التسعينيات كان يستدعي وجودها كمراكز إشعاع حضاري وثقافي، كما أن طريقة الأداء الثقافي كانت تتطلب هذا، أما الآن فهناك متغيّرات ضربت الثقافة كمفهوم في الصميم... فلم تعد الثقافة هي المحاضرة او الأمسية الشعرية، ولا أياً من هذه التعريفات التي سادت لفترة طويلة. مشيراً إلى أن معايير الثقافة اختلفت بوجود مفرزات عصر التكنولوجيا «الانترنت» وتراجع الكلمة والكتاب الورقي، من هنا... فإن هذه المراكز لم تعد تؤدي الوظيفة التي أُسست من أجلها لاسيما في المدن الكبرى . وما يحصل الآن هو استخدامها رغم « المتغيّر الحاصل » وكأنها أداة تصلح لكل الأزمنة والأمكنة، وكما صممت بالأساس. ويلفت التيناوي إلى ضرورة معالجة هذا الخلل، الذي ربما انتبه إليه القائمون أولاً، ويقول: أعتقد أنهم لم ينتبهوا لأنهم -أساساً- غير معنيين بالثقافة ومفهومها إلا بشكلها الإداري، وهؤلاء ليسوا حاضرين على مائدة الثقافة ... وعندما يكون أحدهم حاضراً يتغير نشاط المركز كلياً، كما يحصل في محافظة الرقة على سبيل المثال...؟! إذاً، هي روح الإنسان الذي يدير المركز، فعندما يكون مجرد موظف إداري فإنه غير معني، وسيكرر ما حدث. وينوّه التيناوي إلى عامل آخر لتراجع أداء المراكز الثقافية، وهو تبعيتها للإدارة المحلية لا لوزارة الثقافة، متسائلاً: لماذا هذا الخلط؟.. لافتاً الى ضرورة التفكير في دور آخر لهذه المراكز تبعاً لرؤية وطريقة جديدة في آلية التفكير... مع الإقرار بوجود ركود ثقافي عام: إلا أن هذه المراكز بطريقة عملها يبدو أنها لم تستوعب الصدمة... صدمة ما بعد الثقافة... لذلك هي تعيد إنتاج وتكرار فكرة ما وُجِدت من أجله، وهذا أحد أهم أسباب إحجام الناس عن حضور فعالياتها . وحول مدى فعالية المراكز الأجنبية يقول التيناوي: إن المراكز الأجنبية هنا تمتلك أجندة ثقافية تعمل عليها، اعطني مركزاً ثقافياً محلياً يملك أجندة، ليس بالمفهوم البرامجي، لكن أجندة ثقافية... هناك خليط غير متجانس من المحاضرات والأمسيات تفتقد إلى خطة ثقافية وهدف تعمل عليه، وتستقطب أسماء تُعنى به وتشكل حضوراً ثقافياً. ماذا نريد من محاضرة يحضرها /10/ أشخاص ....؟! ويدعو التيناوي إلى الاعتراف، والإقرار، بجرأة، بانتهاء دورها... ويقول «اقفلوا الأبواب واعترفوا بأن دورها الثقافي انتهى، لنحوّلها لشيء آخر أكثر فاعليةً، فهي معدومة الفاعلية والتأثير في المشهد الثقافي، وليس لها حضور، خاصةً في المدن الكبرى، بخلاف الأرياف... فالمدينة لم تعد ترغب بهذه العباءة السائدة».
لذلك يرى التيناوي أن ما نتجاهله أننا في زمن الأدوات والحوامل الثقافية فيه قد تغيّرت، وإذا لم نستوعب تغيّر هذه الحوامل واستبدالها بأخرى لا نستطيع فعل شيء. إذاً علينا قراءة المفاهيم من جديد، ماذا نريد منها، وما ضرورة وجودها.... وعلى وزارة الثقافة دعوة المثقفين للجلوس إلى طاولة مستديرة لمناقشة كيفية تفعيل هذه المراكز... ولماذا هي بحكم الميت، وما هي خيارات التجديد؟!! .... وهو مطلب ملح.
ولكن ماذا يقول أصحاب الشأن القائمين على عمل هذه المراكز والمطلوب أن يكون دورهم أساسياً بتفعيل عملها، أكثر من غيرهم بتفعيل الحركة الثقافية :
العمل الروتيني
حامد عمران- مدير ثقافي المزة يقول: ما يهمني كمدير لمركز ثقافي هو تجسيد ونشر الثقافة القومية-الوطنية، وإيلاء اللغة العربية الاهتمام الكافي، وكذلك استقطاب المفكرين والمثقفين والفنانين، كما نهتم في المركز بإقامة الأنشطة الطفلية- اللاصفية، وبرامجنا الثقافية متنوعة ومتعددة بحيث تكون شاملةً لكل المجالات والتخصصات العلمية:/اقتصاد، سياسة، صحة../، إضافةً إلى استضافة المهرجانات والمؤتمرات والبعثات الدبلوماسية في دمشق. و هي منبر لكل الفئات والشرائح وليست حكراً على أحد، مؤكداً أن ثقافي المزة هو خلية نحل، حيث يُخرّج المركز كل أربعة أشهر/400/ متدرب في اللغات وعلوم الكمبيوتر والمهن اليدوية، ويستقبل القراء في قاعات المطالعة، والمكتبة متاحة للجميع، وهو يستقبل كل المؤسسات والأفراد.
ويضيف ضمن المعطيات المتوفرة «أنا راضٍ» عن أداء المركز ونطمح ليكون أكثر فاعليةً، ونسعى لذلك مع حرصنا أن يشمل البرنامج موضوعات متنوعة من المسرح والسينما الى الموسيقا ومعارض الفن التشكيلي..وأشار عمران إلى بعض العوائق التي تقف حائلاً دون تطور أداء المراكز الثقافية أهمها: عدم الاستقلال المالي والإداري، مما يكرّس العمل الروتيني من خلال تبعية هذه المراكز لوزارتي الثقافة والإدارة المحلية/، علماً بأن الأخيرة لا تتدخل بالبرنامج الثقافي، حيث يقتصر عملها على الأمور الإدارية فقط. وفيما يخص ميزانية المركز يقول عمران: أنا لا أعلم ما هي ميزانية المركز، وكنت سابقاً مديراً لثقافي (أبو رمانة) ولا أعلم الميزانية، وعلى سبيل المثال فالمراكز الثقافية الأجنبية تمتلك استقلاليةً تامة، بينما نحن حتى الإعلان عن فعالياتنا هي مهام مديرية الثقافة، وأنا لا أملك القدرة على إرسال بطاقات الدعوة.للصحف آو توجيه الدعوة لأي مبدع. ويرى أن عمل المراكز الثقافية الأجنبية لا يتعدى «البرستيج» وهو عمل دبلوماسي.
وإحجام الناس عن الحضور يعود إلى انشغالهم بهمومهم اليومية، إضافةً إلى أن الإعلان وعنوان المحاضرة والمحاضر نفسه يلعب دوراً في هذا المجال، مضيفاً أن العمل الثقافي هو مسؤولية الجميع ولا يقتصر على مركز ثقافي، متسائلاً: ما هو المطلوب من المركز الثقافي؟.. هناك شهرياً/4-5/ ندوات وأمسيات شعرية وأدبية، وهو ليس مركزَ أبحاث يفعّل بتعاون الجميع.
تأرجح الإقبال
سماء صبري مديرة ثقافي العدوي تؤكد ما ذهب إليه/عمران/ وتشاطره الرأي من حيث الإعلان عن الفعاليات وعدم استقلالية هذه المراكز المالية والإدارية، موضحة أن ثقافي العدوي يقيم أنشطة متنوّعة، فهناك أفلام وثائقية عالمية-سورية، وفيلم للأطفال كل خميس، وآخر للكبار كل اثنين، وشهرياً لدينا ندوة نقد وإبداع، إضافةً إلى الدورات التعليمية والمهنية التي تُقام ضمن معاهد الثقافة الشعبية، ودورات صيفية ترفيهية وتثقيفية، وهناك لقاءات علمية مع جمعيات الطب النفسي، المكفوفين، التنمية الاجتماعية/، وتشير صبري إلى تأرجح الإقبال تبعاً لنوع الفاعلية، وكذلك يلعب جهد المحاضر دوراً في ذلك، منوّهة بأن الإقبال على الفعاليات الأهلية ليس دقيقاً ويعود إلى ضيق المساحة التي يُقام فيها النشاط فيوهمنا بالإقبال الجيد بخلاف المراكز الثقافية ذات القاعات الكبيرة والواسعة، مشيرةً إلى أنهم في المركز يعملون لاستقطاب المحاضرين الجيدين ومن حيث المكافأة حدها الأقصى/2000/مقبولة نوعاً ما.
تسرق الجمهور
إلهام محمود سليمان مديرة ثقافي (أبو رمانة) ترى أن المراكز الثقافية هي الحاضن لأي حراك ثقافي ويجب أن تكون بتصورات إدارتها خطةً ومنهجاً لتغطية كل الاهتمامات والأنشطة الثقافية والأدبية، ونحن كمركز ثقافي نركّز على النوع ونحضّر جيداً لبرنامجنا الشهري، وإذا أجرينا مسحاً لنشاط السنة يجب أن يكون هناك حضور مهم ومدروس لأسماء مثقفين لامعين وفاعلين، سواء في المجال السياسي أو الأدبي أو في مجال العلوم، نحاول قدر الإمكان أن تكون الأسماء والمواضيع مهمةً ومدروسةً ونأخذ باعتبارنا موضوع الحضور والجمهور.
ونعترف بأن المراكز الثقافية الأجنبية تسرق الجمهور بسبب نقص الإمكانيات لدينا مقارنةً بالمراكز الأجنبية، من طباعة البروشورات إلى وجود مراسلين لإيصال البطاقات للصحافة. ومعالجتنا للأمر تتم بطريقة بطيئة لا تغطي الثغرات، وليست لدينا إمكانية بدعوة مثقف من بلد عربي آخر، وسقف المكافآت للأمسيات والنشاطات متواضع يتراوح ما بين(1200ليرة سورية إلى 2000ليرة). ورغم ذلك لدينا رغبة حقيقية في تطوير العمل عبر التعاون مع المثقفين باختيار موضوعاتهم، التي تهم الجمهور والاهتمام بالشباب بغية التشجيع. ورغم أننا أحياناً نواجه مشكلةً، هي أن المحاضر يكون جديداًعلى الساحة، واسمه غير معروف وذلك يؤثر على الحضور، وبالنسبة لمركزنا فقد درسنا باهتمام الأسباب التي تؤدي إلى عزوف الجمهور عن حضور النشاطات الثقافية، وعملنا استبياناً حول موضوع الحضور والمتابعة، ووزعناه على المهتمين وأصبحنا نراجع ونطلع على نسخة المحاضرة مع المحاضر قبل الأمسية، وأحضرنا تقنيات مساعدة للمحاضرين مثل أجهزة الإسقاط والشاشات الخلفية للصور التوضيحية وغيرها، وفي إطار التأكيد على الشباب لدينا محاولات مستمرة للاتصال بعمداء الكليات والطلبة واتحاد الشبيبة، ولاحظنا أن الحضور لدينا في مركز (أبو رمانة) أصبح مقبولاً وأفضل من السابق، وأرى أن التنسيق بين المراكز الثقافية مهم جداً لمتابعة وتركيز آلية عمل موحدة وتطويرها.
خلية نحل
مدير المراكز الثقافية مجيب السوسي يرى في هذا الطرح منتهى الحدية وما يشبه الشائعة أو الطابور، حيث يقول: وزارة الثقافة تضع خطتها العامة وتوزع على المراكز الثقافية، وتقوم مديريات المراكز في المحافظات بتوجيه مراكزها الثقافية، وتكون خطةً أسبوعيةً أو شهريةً أو فصليةً متضمنة مختلف الأنشطة الثقافية، وتستعين هذه المراكز باعتماد فعالياتها من قِبل لجنة أصدقاء المركز، ليس لإملاء الفراغات كما يشاع، وإنما لتقديم منتج ثقافي جيد آخذين بعين الاعتبار أهمية استقطاب المثقفين، والتأكيد على الحالة التشاركية مع المجتمع الأهلي، يراها السوسي بمثابة «بيوتات» للجميع من أفراد ومؤسسات ومن مختلف الاتجاهات الفكرية والشعبية، تسعى إلى تطوير رفع الذائقة الثقافية العربية، لأنها تنطلق من مبادىء وأهداف نشر الثقافة وبث الوعي وتعزيز مفهوم العروبة وفق قاعدة التنوّع، لأن التعددية مطلوبة وإلا ستكون برامج ذات قوالب جامدة ومكررة، وليس من المنطقي أن تكون هذه الصروح الحضارية قد باتت تشكّل عقبةً وحائلاً في اكتساب المعرفة ، وخير دليل تحوّلها إلى «منارة» خلال احتفالية دمشق عاصمة الثقافة لعام 2008 واستقطاب المهرجانات والمؤتمرات خاصةً في المحافظات، تؤكد تميّز المشهد الثقافي واستقطاب عدد كبير من المثقفين والأدباء العرب، ما يشير إلى حراك ثقافي ومنتج إبداعي كبير تساهم فيه المراكز الثقافية.. ويدلل عبر حواراته وفعالياته على أنها «خالية الوفاض»، ويزعم أن مراكزنا هي أشبه «بخلية نحل» في تحركها ونشاطها وحضورها.
وعن فعاليتها في المحافظات قال السوسي: ربما لتعدد المراكز في العاصمة وتنوّع الأنشطة في التوقيت نفسه، فتعدد المراكز في مدينة دمشق والأنشطة مسائية، حيث يحار المتلقي أين يحضر في كفرسوسة.. أم في ثقافي المزة، أم جوبر....أما السبب الآخر فهو وجود القنوات الفضائية والانترنت وتطوّر عالم الاتصالات إلى جانب مشاغل الحياة اليومية، ويعزو ضعف أداء بعض المراكز كما أكد مديرو المراكز بسبب تبعيتها إلى الوحدات الإدارية، حيث يرأسها مدير تابع للإدارة المحلية، ويقضي جل وقته الوظيفي في متابعة الأمور الخدمية والإدارية، وهذا التشابك والتداخل في الإشراف على عمل المراكز بين الثقافة والإدارة المحلية وولاءات أخرى يعيق تقدم العمل فيها.
http://www.albaath.news.sy/user/?id=636&a=58993