القيم الاساسيةبين مطرقة التاريخ وسندان اوسلو
بقلم: عماد موسى
إن نظرة الناس في أي مجتمع من المجتمعات إلى الحياة، غالبا ما نجدها تتكئ على ثقافتهم، وتراثهم ، أو فلسفتهم، أو معتقداتهم الدينية (السماوية)، أو معتقداتهم الدينية الشعبية، وهي التي تشكل القيم الإنسانية والمجتمعية، التي يؤمنون بها، وهذه القيم تصبح مع الوقت محددات لهم، وقيم معيارية يقيسون عليها مجمل التحولات التي قد تطرأ على القيم الموروثة،لأنها في الأصل جاءت تعبيرا عن الرغبات، والطموحات، والامال.
فقيم الناس هي التي تحدد لهم، ماذا يحبون؟ وماذا يكرهون؟. وفيم يرغبون؟ ومم ينفرون؟. ومن ثم تأتي الوسائل لتحقيق هذه الرغبات. فمن هنا، يمكننا القول: أن المجتمع الفلسطيني، قد مر بمراحل تاريخية صعبة،إذ تعرض للغزو، والاحتلالات الأجنبية، والتي كان آخرها الاحتلال الصهيوني الاستيطاني، والذي تمخض عنه قيام اسرائيل في عام 1948م، وتشريد غالبية السكان الاصليين في وطنهم، وخارج وطنهم، مما أدت كل مرحلة إلى إضافة قيمة مجتمعية أو أخلاقية، أو موت قيمة، أو تراجع قيمة، فالقيم الأخلاقية، والاجتماعية، والإنسانية المستمدة من التاريخ، والدين، والتراث، ظلت إلى اليوم هي المهيمنة، والمسيطرة، ولما كان المجتمع الفلسطيني خاضعا للاحتلالات؛ شهدت فيها القيم مدا وجزرا؛ مما أدى ذلك إلى إعلاء قيم محددة مثل: قيمة التضحية والاستشهاد، والفداء، والبذل، والعطاء، والشجاعة، والاقدام، وفي مرحلة تاريخية لاحقة، جاءت النكبة، فدخلت قيم فكرية قومية أو تقدمية "يسارية" من الماركسية اللينينية.
ولما عرفت فلسطين الحداثة، والتنوير، على أيدي مفكرين ومبدعين مثقفين فلسطينيين من الاخوة المسيحيين،حيث تمكنوا من ادخال القيم الحداثية،والتنويرية إلى القيم الفلسطينية، نظرا لتعقيدات الصراع العربي الاسرائيلي. وعلى وجه التحديد الصراع الفلسطيني الاسرائيلي؛ فتم تداول قيم العدالة الاجتماعية، التي تعتمد على قيم المساواة، وعدم التمييز ، وقيم الحرية، ورفض الظلم، وكره الاستعباد، والعبودية.، وحب الوطن،وحب التحرر، ومع الارهاصات الاولى للعولمة في فلسطين، والتي نعتقد أنها بدأت فلسطينيا -على وجه التقدير- مع مؤتمر مدريد.
ونلاحظ هنا كيف ، كيف أصبح التصعيد في العلاقات الثقافية، واضحا، وباديا للعيان،حيث حصل هذا التصعيد من خلال تطوير شبكات الاتصال، ووسائل الإعلام العامة، ، الأمر الذى أدى إلى الاختلافات القائمة بين الثقافات.
أما من جهة أخرى، فإننا نواجه، ومن جراء التوسع في الثقافة الحديثة، المسائل الثقافية الجديدة، ومباحثها مثل: عولمة الثقافة، أو بعبارة أخرى عولمة القيم.
وإحداث تغيير في البنى القيمية، إذ أصبح هذا التغيير ينتهي إلى تغيير النظام الثقافي في المجتمع.
فعلى سبيل المثال لا الحصر،قد تبيّن أن مطالعة بعض الدراسات التجريبية حول الاسلام السياسي في فلسطين،مثلا: أنها تدلّ على أن الواقع الثقافي للنظام السياسي الفلسطيني آخذ في التغيير، والذي كان من أهم أسبابه نجاح حماس في الانتخابات، والسيطرة على غزة لاحقا، فقد قامت حماس بارساء قيم القدرة على التضحية المتواصلة المستمدة من العقيدة الاسلامية، لأجل تحقيق هدف منشود، وهو تحرير فلسطين، وبناء دولة إسلامية، في وطن محرر جزئيا أو بالكامل، لذا اختلطت قيم التحرر، مع قيم بناء الدولة، والمشاركة في الحياة السياسية، وإن كان سقفها أوسلو، فكلما وجدت حماس نفسها غير قادرة على التكيف، تقوم بإعلاء قيم التحرر والمقاومة، لتصبح الدماء هنا، ليست نزهة على رمال قطاع غزة، بل، يصبح تقديمها يحقق المتعة، لهذا الجيل, بل نار ثورية، تزداد اشتعالا، كلما تعاظمت الدماء على جدار الوطن وترابه, فما يقرب من عدة الاف شهيد كلهم، ذهبوا من أجل الهدف المنشود.
وفي المقابل تقف القيم الوطنية والقومية والدينية المعتدلة، وفقا لبرنامجها السياسي، ولفهمها للتحولات الدولية، والتي اعتراها التغيير بعد ان اجتاحتها قيم العولمة،
ومن أبرز هذه القيم التي حملتها العولمة الى المجتمع الفلسطيني، القيم اللبرالية: واللبرالية في اللاتينية ( līberālis ليبِرَالِس) وتعني "- الفلسفة السياسية أو النظرة العالمية التي تقوم على قيمتي الحرية والمساواة وتختلف تفسيرات الليبراليين لهذين المفهومين، وينعكس ذلك على توجهاتهم، ولكن عموم الليبراليين يدعون في المجمل إلى دستورية الدولة والديمقراطية والانتخابات الحرة، والنزيهة، وحقوق الإنسان، وحرية الاعتقاد،والسوق الحر، والملكية الخاصة.
وبالتالي، فإننا نجد: ان القيم الديمقراطية، وقيم حقوق الانسان، وقيم التسامح الديني والاجتماعي، متأ سسة على قيمتي الحرية والمساواة؛ وهما أساس القيم اللبرالية،والتي تم ادخالها إلى المجتمع الفلسطيني بعد أوسلو ، حيث أصبحت تشكل جزءا كبيرا من المنظومة القيمية في المجتمع الفلسطيني.
وكما تعمل العولمة أيضا، على عولمة القيم المستندة اليوم على "ثنائي" العنف، والجنس في وسائل الإعلام، وفي السينما العالمية، وفي القنوات الفضائية التي دخلت اليوم إلى كل بيت.. وكذلك على تنميط هذه القيم، ومحاولة جعلها، واحدة لدى البشر في المأكل، والملبس، وفي العلاقات الأسرية، والعلاقات بين الجنسين، والعلاقات بين الجنس الواحد حيث بدأت تتضح صور العلاقات الجنسية المثلية في المجتمع الفلسطيني، وتحظى برعاية دولية، ورعاية المجتمع المدني، والذي يعني دخول قيم خاصة الى المجتمع مرتبطة بالمثليين، ويبدو أن طرح هذا الموضوع بشكل علني من قبل المؤسسة الاهلية، يعد توطئة للقبول بالآخر المثلي.
و تعمل العولمة على كل ما يتصل بحياة الإنسان الفردية، والجماعية.. وخصوصا قيم الاستهلاك ، والتي أفرزتها ثقافة الاستهلاك والتي ": تعني تصدير ثقافة ما إلى بلد آخر، عن طريق التسويق , أي طريق الترويج لها لتصبح محببة ومقبولة، وغير مستهجنة, وأيضا نقل العادات، و طريقة الحياة، و أسلوب تناول الثقافة الاستهلاكية المرتبطة بالعولمة ..ومن هنا،فإننا نلاحظ، أنه مع البدايات الاولى للسلام العربي الاسرائيلي، ولنكون أكثر تحديدا، منذ انطلاقته في مؤتمر مدريد، والتي تزامنت هذه الانطلاقة مع اجتياحات العولمة الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية،إلى الوطن العربي،والتي أدخلت قيما انسانية على القيم الفلسطينية،مثل: قيم العدالة، وقيم التسامح، والذي يعني هذا المبدأ "مبدأ التسامح" في مجتمعنا و المجتمعات المعاصرة. هو السعي إلى الوصول الى ما تحمله المادة الأولى في تعريفها الوارد في إعلان التسامح:وهي:
- إن التسامح يعني الاحترام، والقبول،والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة، والانفتاح، والاتصال، وحرية الفكر، والضمير، والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي، وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، والذي يساهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.
وأن التسامح لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل التسامح؛ هوأولا وقبل كل شئ، اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان، وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية. والتسامح ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد، والجماعات، والدول.
- ليصبح التسامح مسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان، والتعددية (بما في ذلك التعددية الثقافية) والديمقراطية، وحكم القانون. وهو ينطوي علي نبذ الدوغماتية والاستبدادية، ويثبت المعايير التي تنص عليها الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
بحيث لا تتعارض ممارسة التسامح مع احترام حقوق الإنسان، ولذلك، فهي لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي، أو تخلي المرء عن معتقداته، أو التهاون بشأنها. بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته، وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني: الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم، وأوضاعهم، ولغاتهم، وسلوكهم، وقيمهم، لهم الحق في العيش بسلام، وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض علي الغير." فمن خلال هذه المادة يتضح ثراء المفهوم مما يجعل من الصعب تحديده في تعريف جامع مانع.
وهذا يجعل امكانية التعايش، وحسن الجوار، ورفض العبودية، والاستعباد للمرأة،وقيم الحرية،أمرا ممكنا في المجتمع. فانتشرت منظمات العمل الاهلي في المجتمع الفلسطيني، وتوسعت أنشطتها لتأخذ مكانها داخل المجتمع، ما أدى الى تراجع العمل الحزبي،وبالتالي تراجع القيم الحزبية ، وهذا راجع الى قيام بعض الاحزاب بخصصصة ذاته، والتحول إلى منظومة التفكير، والقيم الجديدة، والوافدة ببرامج، وأجندات، وتمويل وفير.
وأصبح المجتمع منشغلا بتحقيق العدالة تحت بساطير الاحتلال ، العدالة الاجتماعية،والعدالة في التوظيف، والعلاج ، والعدالة الجنائية، مع غياب لتطبيق العدالة الانتقالية... والبحث عن تكافؤ الفرص ،لهذا انداح المال في المجتمع الفلسطيني، فتم خصصة الأحزاب السياسية، ومع تحول نوعي على تفكير الكوادر الذي دفع بهم إلى مغادرة هذه الأحزاب للانضمام إلى المجتمع المدني وهناك بعض الاحزاب قد غادرت الى المجتمع المدني، فنتج عنها بروز فئات اجتماعية جديدة شكلت منها طبقة اجتماعية ذات مصالح مشتركة، فتعززت قيم المحسوبية والواسطة،والقيم الأسروية والعائلية والعشائرية والمناطقية،في الانتخابات، وفي شتى الحقول، وبهذا يتم تلبية رغبة الافراد والجماعات. فبتنا نشاهد اليوم ان التوزيع الوظيفي، والمحاصصة الوزارية، تستند الى المناطقية،وقد تم توجيه ضربات متتالية للقيم الفلسطينية التي تبنتها منظمة التحرير، وكان آخرها التخلص من كوادر منظمة التحرير بتقاعد كامل بحيث يتمكن الفريق الجديد استلام جميع المفاصل الوظيفية في جميع مؤسسات السلطة، وتحويل منظمة التحرير الى رزمة بالية بلا قيمة نضالية او تاريخية، حيث يتم احالتها الى متحف التاريخ الذي لم يكتب ، والمتحف الذي لم يشيد بعد،وهذا يعني التخلص من المنظومة القيمية الثورية، والتحررية، واستبدالها بقيم السوق، ونشاهد اليوم عمليات التمجيد، والاشادة بثقافة الاستهلاك؛ بحيث تحول الفلسطينيون إلى كائنات استهلاكية من الطرازالأول،لأنها تستهلك كل السلع، والمنتجات المقدمة إليه،سواء المادية أم المعنوية(القيمية) دون تحفظ . وهذا يعني أن الوضع الاقتصادي الفلسطيني البائس، وتعاظم أرقام البطالة، وارتفاع نسبة المستهلكين، سيؤدي بالضرورة الى تقسيم المجتمع الفلسطيني في الداخل، والخارج على أساس قيمي، إلى مجموعات بشرية متناقضة في المصالح، ومتناقضة في القيم، ومتناحرة على السلطة السياسية، لفرض سلطة القيم اليومية ، فالمشاهد والمراقب لتطورات هذا المجتمع يمكنه أن يصنف هذا المجتمع الى مجموعات ذات قيم اجتماعية، وسياسية، واخلاقية متباينة، وأحيانا متناقضة، وفقا لخصوصية كل مجموعة بشرية، كما يلي:
1- مجموعات بشرية في الضفة، وتتألف من الطبقة الاجتماعية التقليدية،والتي تتمسك بالقيم التقليدية للحفاظ على وضعها،وخصوصا القيم الاجتماعية المعززة بالقيم الدينية،ومجموعة بشرية ناشئة طبقيا وقيميا ،وتتكون من مركب المجتمع المدني ومن السلطة، وهي تعيش حالة صراعية.
2- مجموعات بشرية في غزة وتتكون من النظام الاجتماعي الاقتصادي التقليدي، ومن النخب والفئات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، التي انتجها اوسلو، والتي اوجدها الاسلام السياسي، وما تركه الانقلاب من ولادة قيسرية لظاهرة الاثرياء المليونيرات: الناتج عن تجارة الانفاق،وغيرها.
3- المجموعات البشرية الفلسطينية تحت الاحتلال، وتتكون من سكان القدس، ويحملون البطاقة الزرقاء، ولهم مصالحهم المتناقضة مع السلطة ومع المجموعة البشرية في الضفة، فهم يدفعون الضرائب لإسرائيل مقابل الضمان الصحي، والاجتماعي، نظير الحصول على بعض المنافع في التعليم .ويشاركون في الانتخابات العامة الفلسطينية،ولهذا ،نجد أن لهم قيم مختلطة تتراوح ما بين القيم الدينية، والقيم الموروثة اجتماعيا واخلاقيا وبين قيم الاسرلة والاحتلال،والمجموعة البشرية في الارض الفلسطينية المحتلة عام 1948م.لها قيميها الفلسطينية الموروثة، والتي تعتز بها وتمارسها وتتمسك بها بوصفها جزءا من الصراع على الهوية، فترفض التهويد،وتعزز من مكانة قيمة الانتماء الاجتماعي والوطني والسياسي الفلسطيني المعززة بالقيم الدينية والقومية، وتدخل في اشتباك مع قيم المحتل الاسرائيلي.وهناك فريق تنازل عن هذه القيم وانخرط في المجتمع العبري.
4- المجموعات البشرية خارج فلسطين، وتنقسم الى عدة مجموعات:
مجموعات بشرية في سوريا ،وفي لبنان ،وفي الاردن،ولكل واحدة منها الخاصة،قيمها الوطنية المتوارثة والمختلطة بقيم المجتمعات المضيفة، وبقيم العولمة،وتعيش هذه المجموعات حالة صراعية مع القيم الوافدة، وقيم المجتمعات التي يقيمون فيها.
وهذه المجموعات لها ثقافتها، ولها قيمها الاجتماعية المتوارثة، والتي اخذت بالتفكك والاندثار التدريجي نظرا لعدم التواصل والاتصال، فتشكلت بمرور الزمن قيم جديدة مكتسبة من المجتمعات التي يعيشون فيها، وفقا للجغرافيا، فكان لها ثقافتها أيضا.والتي تحتفظ بقيم الهوية وقيم الانتماء والوطنية، والتضامن إلى حد بعيد.
وإزاء هذه الموجة العالية والمتسارعة من انتشار قيم العولمة، ثمة من يدعو إلى الأخذ بها جملة وتفصيلا، على اعتبار أن ما يحصل هو نتاج إنساني متقدم، لا يصح معه الحديث عن خصوصيات تؤدي إلى العزلة، والتهميش، وبالمقابل ثمة من يدعو أصلا إلى عدم التفاعل مع هذا النمط من القيم الدخيلة.

إلا أن المشكلة مع ذلك، تبقى على المستوى القيمي والأخلاقي مشكلة أساسية بالنسبة إلى المجتمع الفلسطيني، لأنه بدأ يفقد القدرة علىى التحكم، والسيطرة على الإدارة في الاقتصاد والسياسة، ووسائل الاتصال، ومصادر المعرفة، ومصادر الأخبار، والمعلومات، مما تجعله عرضة للتأثر بقيم العولمة.
وتجعل هذه العولمة تسير باتجاه واحد هو المجتمع الخاضع للاحتلال، وليس باتجاه التفاعل بين شعوب العالم ، ويتنافى هذا الاعتقاد في الواقع مع ما يجري في كثير من مناطق العالم، وبلدانه من انبعاث للروح القومية، والتشدد في طلب الحقوق المتعلقة بها إلى انبعاث الصحوات الدينية، في أنحاء العالم كافة إلى صعود اليمين القومي المتطرف في أوروبا نفسها، وهذا يعني أن العولمة سواء تعمدت تجاهل الخصوصيات الثقافية أم أنها فعلت ذلك "انسجاما" مع منطق السوق، والاستهلاك، الذي يتحرك من دون حواجز على مستوى العالم كله، فليس بمقدورها اقتلاع هذه الخصوصيات لأسباب كثيرة.لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
ولذا فقد تتباين عوامل التمسك بهذه الخصوصيات، وعوامل الممانعة، والرفض لقيم العولمة بين أمة وأخرى، فترجع معارضة العولمة على الطريقة الأميركية في أوروبا إلى أسباب قومية أو عنصرية أو اقتصادية، فإن الممانعة في العالم الإسلامي مصدرها الدين والثقافة التي تتشكل بواسطته على مستوى نظرة الإنسان إلى الكون، إلى نفسه، ورغباته وإلى الآخر، أي إلى علاقاته الأسرية والزوجية والاجتماعية، من دون أن ننسى الشعائر اليومية، والأسبوعية والسنوية، التي يفرضها الدين ويصعب على العولمة اختراقها، أو تغييرها مهما أصاب أطراف هذه الثقافة من تبدل لا يمكن أن يطال الجوهر أو النواة الصلبة.
من هنا تلعب المنظمات الدولية والإقليمية دورا "مباشرا" في المجتمع الفلسطيني في محاولة تثبيت مرجعية للقيم الديمقراطية وحقوق الانسان،وهكذا تقوم تلك المنظمات بنشاط مشترك مع الهيئات والجمعيات المحلية (ندوات ومؤتمرات..) للبحث في حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والعنف الأسري، والمجتمع المدني وغيرها من قضايا يكثر الحديث عنها منذ سنوات، وعلى الآخر غير الغربي أن يتعلم منها، ويتبناها لكي ينتقل إلى حالة أفضل من الحالة التي هو عليها بغض النظر عن القيم التي تنظم حياته، وعلاقاته الأسرية، والعاطفية، والاجتماعية.
وما يستدعي التحفظ هنا، ليس على مبدأ العلاقة مع هذه المنظمة الدولية ، أو تلك من المنظمات الدولية أو الإقليمية، التي تتيح العلاقة معها التعرف إلى تجارب الشعوب، وخبراتها. إنما يأتي التحفظ مصدر من طبيعة العلاقة التي تسير باتجاه واحد (دول مستقلة ذات سيادة مع مجتمع قابع تحت الاحتلال. لذا، فإن مضمون العمل المشترك والندوات المشتركة التي تحصل بين طرفين واحد غني وقوي ويمتع بالسيادة والاستقلال ، وواحد ضعيف وفقير،وواقع تحت الاحتلال، فكيف لهما أن يبحثا "سويا" تلك القضايا التي أشرنا إليها عن الديمقراطية وحقوق المرأة والحرية الفردية، والمجتمع المدني، والتربية على السلام، والتسامح.
إن ما يجري على هذا المستوى له علاقة مباشرة بالقيم وبالخصوصية الثقافية، وهو أشد تسللا "إلى عقول النخب الاجتماعية والفكرية وأكثر تأثيرا" عليها من ثنائي العنف، والجنس .
إن ما يهم العولمة في مساراتها السياسية، والثقافية، هو إبراز الجانب القيمي، والأخلاقي بشكل واضح، سواء على مستوى التحيز إلى هذه الدولة أو تلك في قضية معينة، أو على مستوى تهميش الآخر، وعدم الاعتراف بخصوصيته. .
وبمراجعة التطور الحاصل في المجتمع الفلسطيني، نجد انه قد تشكلت في رحمه، طبقة اقتصادية اجتماعية ثقافية جديدة مخالفة بذلك النظريات المتعارف عليها في نشوء الطبقات الاجتماعية، وتطور المجتمعات، فلم تنشأ ثورة زراعية في المجتمع الفلسطيني بعد اوسلو، ولم يمر بثورة صناعية، ولا تكنولوجية، ولا ثورة رقمية، ومع ذلك تشكلت في رحمه طبقة باتت تهيمن على مجمل مناحي الحياة نتيجة التحول المفاجئ بعد اوسلو، وتدفق اموال المانحين.وارتفاع اسعار العقار واحتكار الوكالات الحصرية.
فهذه الطبقة الناشئة أفرزت مرحلة جديدة في تطور المجتمع الفلسطيني،أدى إلى بروز نموذج جديد من الأفراد الذين ألقوا جانبا القيم الأيدلوجية التي تنضوي تحت سمة الصراع الطبقي أو الصراع المسلح مع الاحتلال(المقاومة،او الثورة المسلحة)، والذين بدأوا مع مرور الوقت داخل مؤسسات الحكم في شطري الوطن في الانخراط في المجتمع المدني أو في المؤسسات الاقتصادية او البرلمانية والمؤسسة الأمنية والعسكرية والمؤسسة الحكومية، وتمكنت خلال فترة وجيزة من تشكيل مرجعياتها القيمية في المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. الخ..
وصارت مهمة اولئك الافراد البحث عن الرخاء الاقتصادي، وعن الرفاهية عبر الإقبال على المشتريات، وتحسين الوضع الصحي، ومستوى العيش، والبحث عن الماركات والولوج إلى عالم الاتصالات والمعلومات والانترنت، لتكريس التميز، وتعزيز الانفتاح على الخارج، مما دفع بعجلة التعاظم للنزعة القيمية التي تكرس الفردية، والتي دمغت المجتمع الجديد فيصبح المال عندهذه الطبقة وسواس يتعاظم أكثر فأكثر، ويشكل حالة قلق وخيبات أمل في ظل انعدام الأمن الوظيفي، وانعدام الأمن الاجتماعي.
ومن الملاحظ أن الطبقة الجديدة ماضية في تأسيس حياة، ومجتمع جديدين،والذي يساعد على ذلك؛ هو المغادرة الفردية أو الجمعية على شكل حزم لأفراد الفئات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السابقة، والدخول في الطبقة الجديدة من خلال مشاركتها دورها، ووظيفتها في المجتمع الجديد، وهذا يفضي إلى اندثار المركبات الاجتماعية السابقة التي كانت تقوم على
تأطير صارم للرغبات وللتطلعات الفردية)والجمعية.
إلا أن المجتمع الجديد يعيش حالات من تحقيق المتع، ويحظى بالرفاهية، لاسيما أن نوعية الحياة أصبحت هي الأفق الذي ينتظره، ويبحث عنه في شتى الميادين من السكن المريح والسيارة الفارهة، والنوادي، وآماكن تزجية الوقت .
في الوقت الذي نجد أن الطبقة الفقيرة والمهمشة ، والتي تتسع رقعتها يوما بعد يوم والتي تصاب فيه بثقافة العار وثقافة الإحساس بعقدة الذنب،والتأثيم، والتجريم على ايمانها وممارساتها لقيم دينية او اخلاقية اصيلة، وتتعارض مع قيم العولمة وقيم الاستهلاك، وتزداد معها ثقافة القلق الدائم، والحرمان، وارتفاع منسوب خيبات الأمل؛ فذلك تعززت لدى الطبقة الاجتماعية الجديدة داخل المجتمع الجديد ذهنية الإثراء السريع، والتي يستتليها ذهنية الاستهلاك مما جعل منها الفكر السائد والمسيطر على السلوك والممارسة، والذي حقق نجاحا في التغلغل في العلاقة العائلية والعقائدية والسياسية والنقابية. وأصبح المكون الأساسي في حقول الثقافة المجتمعية الجديدة، وخصوصا أن هذه الطبقة الناشئة قد بدأت بإحداث نوع من القطيعة مع المراحل السابقة، وإزاء هذا التطور المجتمعي ستجد الفئات الفقيرة نفسها أمام تحدي البحث عن الحماية من جميع النواحي، ولكنها على الرغم من الدور الذي يقوم به أفرادها على الصعيد الخدمي للطبقة الجديدة إلا إنها بمجملها ستتجه نحو العقيدة الدينية طلبا للصبر، والسلوان، والمواساة في أوقات الضيق، في إحالة نفسية بهقصد الاتقاء من القلق، والمرض، وعند العجز عن تلبية الاحتياجات، وتقوم هذه الطبقة باستخدامها كآليات نفسية للدفاع عن ما تبقى لها من فرص البقاء، ومن أجل منع تسرب خيبات الأمل، ومن أجل الحد من الشعور بالهزيمة الوطنية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية في ظل تكريس ثقافة الانقسام على شتى الصعد بين التجمعات الفلسطينية في الداخل والخارج، وفي ظل ارتفاع وتيرة الاستلاب، وضياع الأرض، وفقدان الأمل بالهوية، ونظرا لانعدام فرص السلام؛ فإن دور العبادة ستمتلئ مع استشراء فاضح للنزعة الفردية عند طبقتي المجتمع الجديد. وفي هذا السياق، يمكننا ان نستعير قول المفكر التونسي الدكتور فتحي بن سلامة والذي اطلق على هذه الطبقة( بقوى المتعة في الحكم) والذي فسرها بالاستمتاع بالحكم عند الحكام، وعند كل صانعي القرار كل في ميدانه وكل في مجاله.
ولمزيد من التوضيح نرى بأن النظام الطبقي الاجتماعي الجديد هو نظام ريعي في شطري الوطن ففي الضفة يعتمد في تمويله على المساعدات الخارجية، والضرائب الداخلية، والضرائب التي تقوم بتحصيلها إسرائيل(المقاصة)
وفي غزة تعتمد في تمويلها على الضرائب وعلى المساعدات من بعض الدول العربية الخليجية وعلى أموال الزكاة،واموال الانفاق.
فالطبقة الجديدة في غزة أنتجت مشروعها الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ وبالتالي القيمي، والذي قد يشهد تحولا دراماتيكيا وبراغماتيا ،بعد العدوان الإسرائيلي الاخير على غزة. حيث أعاد فتح قنوات القيم الاجتماعية والثقافية والاخلاقية والتي اغلقها الفعل السياسي بعد اوسلو، وهبوب رياح العولمة.حيث شهدنا طوال ايام العدوان تسارعا في عودة القيم المقصية مثل: التكافل والتضامن والتضحية والشهادة والتعاون،والوطنية والانتماء.
ويبقى السؤال مفتوحا، من الذي نجح في إحداث تغيير على السلوك الفلسطيني ؟وعلى سلوك هذه الأحزاب؟ هل هو العدوان المتكرر ؟ وهل هي عودة مؤقته لهذه القيم؟وهل يمكن أن تبدل القيم في سويعات باقصاء مؤقت لقيم العولمة اسجابة لمتطلبات الواقع الدامي، والذي يتطلب استحضار هذه القيم كآلية دفاعية نفسية.

وهنا نتساءل من هو المسئول عن هذا التحول القيمي في المجتمع الفلسطيني؟ هل هو الاحتلال أم الطبقات السياسية الممثلة بالأحزاب والنخب من المثقفين والأكاديميين ومن المجتمع المدني والناشطين،أم فئة من التجار وسماسرة الأراضي وغيرهم ؟ أم الاستعدادات الاجتماعية والثقافية والنفسية الفطرية، لقبول التحول السريع.
أن هذا الواقع يضعنا امام هذه القراءات، وأولى هذه القراءات أن الانتخابات هي مفتاح الحكم ومانح الشرعية، وثانيها: التمكين للمرأة بوصفهاعلبة المكيا ج لتجميل وجه الحزب ولتزيين صورته الديمقراطية، وإبراز التزامه بحقوق المرأة ولأن المرأة هي الخزان الممتلئ بالاصوات الانتخابية لهذه الأحزاب وهن اقل منافسة من الرجال وثالثها هو تحويل اللاءات الى نعمات لأنها المدخل السياسي لدخول النادي الدولي
إلا أن العدوان الاسرائيلي على غزة، قلب ظهر المجن في وجه قيم العولمة، فعادت القيم الفلسطينية الموروثة والمتمثلة، في العونة والمساعدة، والاغاثة، والتضحية، والوقوف بالدم مع ابناء شعبهم في غزة، وعادت القيم المقصية للتداول على المستويات الفردية، والجمعية، والرسمية، والشعبية، واخذت بالتفاعل من بداية العدوان ولغاية هذه اللحظة.
فبعد حدوث هذه الطفرة القيمية، والتي أدت إلى ايقاظ الشعور الوطني، والانساني العام، وإعادة الانتماء الى الحظيرة الوطنية،وانبعاث الكثير من القيم الفلسطينية التي اقصيت نرى اننا قد،دفعنا إلى التساؤل المشروع، ما هي القيم التي تنوي او ترغب او تريد الدولة الفلسطينية تبنيها؟
هل هي قيم العدالة الاجتماعية والمساواة وقيم التسامح والنزاهة والشفافية ، ورفع الظلم، وقيم التحرر وكره الاستعباد، ورفض العبودية،والاسترقاق بوسائل سلمية؟.وهل ترغب في ارساء قيم مكافحة الفساد؟ ام ستدخل في صراع قيمي مع القيم الدينية الاسلامية، كانعكاس للصراع السياسي والذي تجلى في الصراع على السلطة ا؟ وماذا عن القيم المسيحية المتوارثة؟.فهذا التنوع القيمي يحتاج الى إعادة تعريف للقيم الفلسطينية وتحديد مرجعياتها كمقدمة لاعادة تعريف الهوية في المجتمع الفلسطيني.وما هي وظيفة المشرع الفلسطيني، والقضاء الفلسطيني، والمجتمع المدني في تفريغ مكونات الهوية الفلسطينية العربية، وكذلك القيم الديمقراطية ... في تعريف الهويةالفسطينية؟.
imad.a.mousa@gmail.com