حوار خاص مع الدكتور بوبكر الجيلالي
24 حزيران (يونيو) 2012بقلم نور الدين علوش
س 1- بداية من هو الدكتور بوبكر الجيلالي؟
ج: مرحبا، أهلا وسهلا بموقع ديوان العرب وبالقائمين عليه، أتمنى له المزيد من العطاء والتألق.
جيلالي بوبكر من مواليد عام 1962 بأبي الحسن، ولاية الشلف، بالجزائر. أستاذ بالتعليم الثانوي ومفتش التربية الوطنية سابقا، أستاذ الفلسفة بجامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف بالجزائر حاليا، حاصل على شهادة الماجستير تخصص فلسفة الحضارة، وعلى شهادة الدكتوراه تخصص فكر عربي إسلامي معاصر. يشتغل بالبحث في قضايا التربية والتعليم، وفي إشكاليات الفكر والثقافة والفلسفة في الواقع العربي والإسلامي المعاصر. من مؤلفاته كتاب العولمة مظاهرها وتداعياتها نقد وتقييم، وكتاب التراث والتجديد بين قيّم الماضي ورهانات الحاضر، وكتاب الإصلاح والتجديد الحضاري لدى محمد إقبال ومالك بن نبي بين النظرة الصوفية والتفسير العلمي، وكتاب إستراتيجية البناء الحضاري عند مالك بن نبي، وكتاب الإصلاح ونظرية الحضارة في فلسفة محمد إقبال، وكتاب أصول الفقه في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر ترديد أم تجديد، وكتاب العولمة العقيدة وفلسفة النهايات، وكتاب إشكالية تجديد علم أصول الفقه عند حسن حنفي دراسة تحليلية نقدية، وكتاب "من النص إلى الواقع" مُصنّف أُصولي معاصر بين حاجات التراث وتحدّيات العصر،وله مؤلفات أخرى تحت الطبع.
س 2- باعتباركم من الباحثين في المجال الفلسفي ,مارأيكم في المشاريع الفلسفية المطروحة( مشروع الجابري رحمه الله وحسن حنفي وطه عبد الرحمان..)؟
ج – الحديث عن المشاريع الفلسفية في العالم العربي والإسلامي المعاصر يعني الحديث عن ممارسة الفلسفة واحتراف التفلسف من قبل النخبة في الجامعة وخارج الجامعة، والفقر وقلة الاهتمام هو سمة تعاطي النخبة والعامة مع الفلسفة، فالمشاريع الفلسفية في عالمنا العربي تُعد على أصابع اليد الواحدة، وهي في أغلبها تفتقر إلى الأصالة والإبداع لكونها مجرد قراءات للموروث الثقافي وللوافد القديم والحديث بمقولات وآليات ومناهج مستعارة من دون اعتبار للخصوصية الثقافية العربية والإسلامية، وبعضها لم يخرج عن تكرار واجترار الموروث، وبعضها الآخر يحاول أن يجمع بين الموروث والوافد بأسلوب فيه التعسف والتلفيق لا التوافق والتكامل.
إذا تجاوزنا الاختلاف بين المتفلسفة في طبيعة تكوين وبنية المشروع الفلسفي من حيث الأصول والمنهج والمفاهيم والأهداف على سنّة الأقدمين إغريق أو مسلمين، أو على شاكلة المحدثين والمعاصرين تأسيا بمشروع النهضة ومشروع الحداثة ومشروع التنوير وغيرها، يمكن اعتبار مشروع نقد العقل العربي للجابري ومشروع التراث والتجديد لحسن حنفي ومشروع التراث والثورة لطيب تيزيني ومشروع نقد العقل الإسلامي لمحمد أركون ومشروع النهوض وتجديد الفكر الديني والفلسفي لطه عبد الرحمان من أبرز وأهم القراءات الفلسفية للواقع الفكري والسياسي والثقافي العربي الإسلامي المعاصر بمناهج قديمة ومعاصرة عادة ما تمزج بين التراث والوافد، لكن هذه المشاريع التي تميّزت بشيء من الأصالة والجدّة والجرأة لم تعرف طريقها إلى الوعي العامي ولا حتى لدى المشتغلين بالفلسفة، ناهيك عن انقطاع صلتها بالحياة السياسية في مجتمعاتنا، فلا أثر لها في واقع المجتمع، وهذا الوضع يحدد مكانة الفلسفة وأهلها في بلادنا.
س 3- سيدي الكريم ما هو وضع الفلسفة اليوم؟
ج: الفلسفة في العالم العربي المعاصر تمرّ بنكسة بالقياس إلى الفكر الفلسفي الإسلامي في العصر الوسيط، وتعيش أزمة حادّة معقدة خيوطها متشابكة، هي جزء ومظهر من مظاهر أزمة العالم العربي والإسلامي ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وحضاريا، لم تفلت الفلسفة كغيرها من مظاهر الثقافة من الضعف والانحطاط في واقعنا المعاصر، في مقابل ازدهار فكري وفلسفي وعلمي متواصل شهده ولازال يشهده واقع الأمم المتقدمة في الغرب الأوربي وفي أمريكا وغيرها.
يرتبط ضعفنا في الحياة عامة بأسباب تاريخية أبرزها الاستعمار ومخلفاته، وأخرى سياسية واجتماعية على رأسها غياب الحرية وما يلزمها وانعدام الإبداع وما يشترطه باعتبار الحرية والإبداع هما أساس كل تجديد وتحضر، ناهيك عن كون المجتمع العربي والإسلامي يحيا على التراث والماضي، وكل محاولات الإصلاح والتجديد الحديثة لم تخرج عن كونها تراثية محضة أو وافدة بحتة أو توفيقية تلفيقية بين ما هو تراثي وما هو وافد، ولم يظهر حتى الآن تفكير فلسفي تجسّد في قراءات ورؤى ومشاريع استطاعت أن تنهض بالفكر والفلسفة والثقافة في حياتنا، وأن تؤسس لحركة فلسفية تتصدى للتخلف وتكون وراء نهضتنا، فالفلسفة في الوطن العربي والإسلامي تئن تحت سلطان التراث وتحت وطأة التكرار والاجترار للموروث أو للوافد، كما تقوم هموم السياسة والواقع الاجتماعي وسلطة الاستبداد بتغييب أيّة بداية جادّة في سبيل فعل التفلسف وتفعيل دور الفلسفة.
الفلسفة في ازدهارها عبر العصور قامت على إعمال العقل والتأمل في عناصر الوجود بحرية وفي إطار منافسة وتكافؤ الفرص بين الكائنات المتفلسفة، ووفق مسار ينطلق من الحيرة والشك والتساؤل ويقوم على المشكلة -بفتح الميم- والبرهنة، ويحتاج الأمر إلى جوّ من الهدوء والتروي يضمن لفعل التفلسف ولدور الفلسفة حضورا قويّا وتأثيرا فعّالا في عامة الناس وخاصتهم، هذا حال الفلسفة لدى اليونان القديم في الفكر السفسطائي وفلسفة سقراط ومن جاء بعده، وحالها لدى المسلمين في الفكر الأشعري وفلسفة الاعتزال، وحالها حديثا في الغرب الأوربي في فلسفة الحداثة التي أسست للثورة الفكرية والعلمية والصناعية أصل النهضة الأوربية، كل هذه التجارب الثقافية والفلسفية عبر العصور ولا الواقع الراهن المأزوم المهموم دفع إلى الاعتبار والاقتداء والتأسي لإخراج الفلسفة والتفلسف من عقمهما داخل المدرسة والجامعة وفي المجتمع ككل.
مازال يتهيب الكثير ممن يُحسبون على النخبة في المجتمع العربي المعاصر من الفلسفة والتفلسف جهلا منهم، إمّا باسم الإلحاد والكفر بالإسلام والمروق عن قيّم المجتمع وتقاليده، وإمّا باسم الثرثرة ومضيعة الوقت، وإمّا باعتبار الجدل العقيم والسفسطة والنقاش البيزنطي، وإمّا بحجة الصعوبة والتعقيد،وغيرها من المبررات لدى الخاصة ولدى العامة الأمر أشد وأخطر، وللأسف الشديد من هؤلاء هم صناع مناهج التربية والتعليم والتكوين ببلداننا، وإدخال الفلسفة كمادة دراسية في التعليم الثانوي أو الجامعي من باب تقليد العالم المتقدم، لأنّ المغلوب ثقافيا وحضاريا ملزم إن لم يكن مولعا طوعا أو كرها بتقليد الغالب، والغالب لا يزال يفرض حضوره على المغلوب حتى يحوّله إلى نسخة منه إن وجد هشاشة في هويته ولم يجدها ذات قوّة ومنعة.
إنّ الشكلانية التي تميّز بها تعاطي نخبة وساسة وأعيان المجتمع العربي الراهن مع الفلسفة والتفلسف ليس من باب الاهتمام الصحيح الصريح بل على سبيل الإتباع والتقليد ودفع شبهة التخلف والانحطاط أمام الآخر المتقدم وفق فلسفة قامت على نور العقل وحكمته ومناهج العلم ونتائجه وعلى استبعاد كل ما يعارض العقل والعلم من رأي أو معتقد أو خرافة أو أسطورة أو شعوذة أو غيرها، هذه الصورية المفرطة واهتمامها المزيف بالفلسفة كشعارات وأرقام وأطر لا مضامين وممارسات زادت في ضعف الوعي الفلسفي بأهميتها وقيمتها في حياة الإنسان.
وتحت نير ضربات التصورات المُهينة للفلسفة والعابثة بقيمتها تفاقم نفور الناس منها إلى درجة اعتبارها المادة الدراسية المُسقطة في الامتحانات الدراسية الفصلية والرسمية النهائية الفاصلة بين الأطوار مثل امتحان البكالوريا، وإلى درجة الدعوة إلى إلغائها من المناهج التعليمية واستبدالها بمادة تعليمية أخرى مثل مادة الحضارة الإسلامية أو غيرها فهو أمر أيسر على الطالب، هو ما أدّى إلى نفور الطلبة منها عند التوجيه في الاختصاصات، ولم يعد المعيار العلمي الذي يعتبر الفروق الفردية هو الفيصل في التوجيه بل أصبح شأن التوجيه تحكمه معايير الآراء الذاتية خاصة تلك التي تقف من الفلسفة موقف الرفض لجهل تارة ولعناد تارة أخرى وبحجة توجّه العالم المعاصر نحو العلوم الدقيقة والعلوم التجريبية والتكنولوجية، من غير اهتمام بإفرازات وتداعيات هذا التوجه التجريبي المادي التكنولوجي على الجانب الروحي والأخلاقي والإنساني وما فيه من عوار وما أحدثه من اختلال في بنية الإنسان وفي حياته عامة.
وبتآمر أهل الحل والعقد في بلاد التخلف والفساد والاستبداد على المتفلسفة جهلا أو عمدا، لأنّ الفلسفة باعتبارها منهجا ونمطا متميزا من التفكير له خصوصياته وصلته بكل أنماط التفكير البشري وله دوره وتأثيره في حياة الإنسان، يقوم على التأمل العقلاني الحر المتجدد الذي لا سبيل فيه للجمود والتعصب فهو لا شك يضر بالفكر المتحجر ويجرف كل ما من شأنه يقف أمام العطاء والتألق في فضاء الإبداع بمختلف ميادينه، ولما كان التفلسف على هذا النحو من الأهمية في تغيير الأوضاع يتطلب قدرا معتبرا من الحرية، حرية الفكر وإبداء الرأي، والتعبير عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والسعي إلى تغييرها باستمرار وفق متطلبات العصر وتحدياته والإمكانيات المتاحة، فالسلطة الحاكمة المستبدة لا يروق لها اهتمام بالفلسفة واحتراف التفلسف، فإلى جانب الفساد الاجتماعي والإرهاب البوليسي والاستبداد السياسي تمتهن القمع الفكري والفلسفي، وفي كل الحالات في النظام الطاغي الفاسد لا يجتمع الاستبداد مع التفكير الواعي الحر الناقد المبدع المجدد الذي يكون وراء كل تحوّل في الفكر والنظر أو في التطبيق والممارسة علميا وتكنولوجيا وسياسيا واقتصاديا وحضاريا، هذا التفكير هو روح الفلسفة وجوهر التفلسف.
إنّ معاناة الناس من القمع وحرمانهم من الحرية ومآسي الفقر والمرض والجهل وانشغالهم بهموم الحياة التي أصبحت كثيرة ومعقدة مشكلة البطالة وأزمة السكن ومصاريف العلاج وغلاء المعيشة ومشاكل المدينة من ازدحام في الطرقات سيارات وحافلات وراجلين ، هذه الأسباب وغيرها جعلت الفلسفة كغيرها من المظاهر الثقافية الأخرى مثل العلم والتكنولوجيا والسياسة والدين والفن وغيره لا تنال نصيبها من الاهتمام وحقّها من العناية نظرا وعملا، لا في مؤسساتنا التعليمية ولا في حياتنا اليومية ولا في حياتنا الفكرية والثقافية عامة، فلا نوادي فلسفية نشطة، ولا ملتقيات أو مؤتمرات فلسفية تخرج بتوصيات تتحقق في الواقع، ولا مراكز وجمعيات فلسفية فاعلة، وإن وجدت بعض الجمعيات فهي تعمل على الشعارات ولا تتجاوزها فصارت الفلسفة حملا ثقيلا على طلبتنا وعبئا زائدا على مجتمعاتنا، وصارت مجتمعاتنا هي الأخرى عبئا على الفلسفة تشوّهها وتعبث بها، فلا يهتم بها إلا قليل من الباحثين والجامعيين في جوّ مشحون بالرفض والعزوف عن دعاة الفلسفة والتفلسف وفي حال انصرف فيه الإنسان إلى البحث عن لقمة العيش أو الانغماس في ملذّات الحياة المادية أو الاشتغال بتكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي والبحث عن الحاجات لتحقيقها في أوقات قصير وبجهود قليلة وبمسافات قصيرة، في عصر تميّز بالبراغماتية المتوحشة وبالتطور العلمي والتقني الرهيب وبالرفاه المادي الهائل على حساب حاجات الحياة الروحية ومطالبها الأخلاقية.
يحتاج وضع الفلسفة وحال التفلسف في مجتمعاتنا العربية الراهنة إلى الرثاء والبكاء، فالفلسفة إذ تحرم في مجتمع موقفه متناقض منها يعيش على أنماط من التفكير الفلسفي يتعامل معه سياسيا واقتصاديا وحضاريا وبمنتجات حضارة هي من صنيع فلسفة الحداثة والعصرنة يستهلكها بنهم وشراهة من غير بذل الوسع في الإسهام الحضاري لا المادي ولا الروحي ولا الاثنين معا تجمع بشري يستهلك منتجات حضارية اشتراها بالمال لأمم متقدمة لها فلسفتها في الحياة هي وراء حضارتها، ونجد الفلسفة تُشوّه في المؤسسات التعليمية ويُهدر وقتها في مجتمع آخر فيما لا يفيدها ولا يفيد الإنسان فردا أو جماعة بسبب الجهل والإهمال والتهاون واللاّمبالاة وعدم مسايرة الركب الثقافي والفكري، بين عالمنا المتخلف والعالم المتقدم مسير مقدار سنة ضوئية.
ما ينطلي على الفلسفة من الانتكاس والتأزم ينطلي على جميع مظاهر الحياة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، وصارت الأزمة تتفاقم وتتعمق أكثر فأكثر مع مرور الوقت، أزمة وعي وشعور وإيمان وفكر وسلوك وخُلق، أزمة هوية وأزمة ثقافة وحضارة، تناقض بين القول والفعل، بين الخطاب والممارسة، خطاب التعالي في الدين والأخلاق وفساد واستبداد عمّ جميع قطاعات المجتمع من دون استثناء، فكيف للفلسفة أن تنهض في وعاء اجتماعي العلاقات فيه قائمة على أساس رأسي الأعلى أقوى وأفضل وصاحب الأمر والنهي والمُطاع والأدنى أضعف وأقل شأنا والسامع المطيع، لا مكان للضعفاء، قانون الغاب، القويّ يأكل الضعيف، السمك الصغير له الحق في أن يسبح أما السمك الكبير فله الحق في أن يأكل.
ما زاد الوضع اختلالا تمسك فئة في كل مجتمع من المجتمعات العربية بالبقاء في السلطة بمختلف الأساليب الشرعية وغير الشرعية، ولقيت التأييد الكامل من جهات خارجية قوية ترى في بقائها صونا لمصالحها من غير اهتمام بمصالح الشعوب وحقوقها الأساسية، الأمر الذي انتهي بحراك شعبي ثوري عربي على أنظمة الحكم فيها وعلى الأوضاع الفاسدة على الرغم من توفر هذه المجتمعات على طاقة بشرية هائلة وعلى ثروات طبيعية كبيرة تُحسد عليها وتزداد أطماع القوى الدولية الكبرى فيها، وهو ما عرّض أغلب أرض البلاد العربية إلى الاحتلال ومازالت الشعوب العربية وأنظمتها وقياداتها ترزح تحت وطأة الاستعمار السياسي والاقتصادي والفكري والثقافي واللّغوي وبعضها لازالت تحت الاحتلال العسكري الأوربي أو الأمريكي أو الصهيوني الماسوني.
مازال الإنسان في العالم العربي المعاصر يبحث عن مكان له في الوجود، واحتار بين حاله المغلوب الضعيف المكسور الشعور والهمّة على الرغم ممّا له من ثروة هائلة في البشر والطبيعة والتراث وحال الآخر القويّ الغالب المزدهر المتطور باستمرار على الرغم من كونه لا يملك الثروات المتنوعة والكثيرة التي تملكها العوالم المتخلفة، فالفرق بين الاثنين في منطق التفكير وفي منطق التدبير وفي فلسفة العلم والعمل في حياة الفرد والجماعة والأمة والإنسانية جمعاء، فلسفة رؤيتها واضحة ومنهجها دقيق ومضبوط وأهدافها تجتمع على خدمة الإنسان، الرجل والمرأة على السواء من غير تمييز، الأسرة والفئة والزمرة والجماعة، لا مكان للطائفية والعرقية والمذهبية، حيثما كان الإنسان ووجد فثمة الهدف والمصلحة، وكل ما يخدم الإنسان ويرعى حقوقه الأساسية والكمالية فثمة المصلحة، فكان نتيجة ذلك النبوغ والعطاء والتألق.
على الرغم من الاختلال الذي تشهده الحياة في البلاد المتقدمة التي تعتبر الفلسفة وتبني حياتها السياسية والثقافية والاجتماعية عامة عليها، فإنّها لم تصل إلى مستوى الاختلال في العالم العربي المعاصر، وعلى الرغم من انقلاب ثقافة العالم المتقدم وممارساته على فلسفة الحداثة ودلالاتها في توجهها نحو العولمة وانقلاب العولمة الثقافية والاقتصادية والسياسية على أصحابها لم يبلغ مستوى الخلل في فكر وثقافة واقتصاد واجتماع الأمم المتقدم ما آل إليه الوضع في البلاد العربية من تدهور وانحلال وتفسخ، ففلسفة الحداثة عملت على توطين القيّم الإنسانية في الثقافة الأوربية والعالمية فكرا وممارسة وسلوكا، وعلى إعمال العقل وإطلاقه من سائر القيود التاريخية والسياسية والدينية والثقافية البائدة الفاسدة، فأسس ذلك للعقلانية والتنوير، وعلى انتهاج المنهج العلمي بشقّيه العقلي الرياضي والحسي التجريبي فأسس ذلك للروح العلمية بجميع مقوماتها، وفصل كل ما هو مقدس ديني أو أخلاقي عمّا هو دنيوي سياسي، حتى لا يتكرر الماضي ويقف المقدس أمام اللاّمقدس يمنعه من الحركة والتجديد والتطور، فكان نتيجة هذه الفلسفة ومن دون تراث علمي أو فلسفي أو ديني ثورة علمية وصناعية قلبت الحياة رأسا على عقب في تطور وسائل وأساليب العمل في مختلف جوانب الحياة ومن دون استثناء.
أما إنكار دور الفلسفة والحط من شأنها وتهميشها بقصد أو بغير قصد مثلها مثل الكثير من المظاهر الثقافية في عالمنا العربي المعاصر هو الذي انتهى بنا إلى ما نحن عليه من مرض حطّم كل أمل في الشفاء والاستنهاض، فلم نستغل قيّم ودلالات تراثنا العتيد والزاخر بالمواطن المشرّفة والموقف المشرقة، ولم نستثمر قيّم ومعاني الحداثة وفلسفتها كما عرفها الغرب مع اعتبار قيّمنا التاريخية والحضارية، ولا نحن استطعنا أن نجمع توفيقا لا تلفيقا بين تراثنا ونحن أمة تراثية تاريخية التراث لدينا عصب الحياة في الحاضر والمستقبل وبين قيّم الحداثة والعصرنة، فلا عشنا ماضينا في حاضرنا ولا عشنا حاضرنا ولا نملك رؤية تجاه المستقبل فالحاضر سقيم مظلم والماضي غائب مفقود وإن حضر فهو عليل والمستقبل مجهول.
الفلسفة كمادة تعليمية في البلاد العربية الراهنة وكفكر نخبوي تشكو ألاما حادّة وأمراضا فتّاكة وخطيرة ومزمنة لا تسمح لها البتّة بأداء رسالتها وتحمّلها المسؤولية ولتلعب الدور المنوط بها الذي لعبته عبر التاريخ أو في العصر الحديث، لكونها أسّست للحضارة والنبوغ والإبداع والعبقرية، فإذا كان الطبيب معلولا لا يجد الناس من يفحصهم طبيا، فغياب الحرية، حرية الفكر والرأي والتعبير، وانصراف العامة والخاصة عن الفلسفة لأسباب عديدة، والتعاطي معها باهتمام مزيّف وصورية مفرطة، وغياب فضاءات فلسفية حقيقية مراكز وجمعيات ونوادي وغيرها، وغياب مشاريع فلسفية ولا حتى مواقف فلسفية مؤسسة، فكل ما في الأمر توجد قراءات وأراء اجترارية وفق مفاهيم ومناهج من الموروث أو الوافد القديم أو الجديد والمعاصر إذا استثنينا بعض المشاريع الفكرية التي تميّزت بالجدّة والأصالة والجرأة، لكن لا وزن لها في الواقع الاجتماعي والسياسي، فهي حبيسة الصفحات التي كُتبت عليها لوجود قطيعة بين الفلسفة وسياسة الدولة، فمتى تصحّ الفلسفة بعد سقمها الذي طال وتُفطر بعد صومها الذي كبّل وقتل.
4- هل تتفقون مع الذين يقولون بأننا نعاني من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع فلسفية؟
ج: لا يمكن الفصل في الفلسفة أي فلسفة بين المشروع الفلسفي والمنهج، فكل مشروع فلسفي يستخدم منهجا ما أو أكثر يتحدد بمفاهيم ومعجمية وبآليات وخطوات في القراءة والطرح والتناول وحل المشكلات وبناء الاستدلالات وضبط الأهداف وغيرها، والمناهج السائدة في عصرنا ولدى مفكرينا وباحثينا في الدراسات الإنسانية والاجتماعية والفلسفية بنت النهضة الأوربية ناهيك عن المناهج التراثية، ونحن أمة تراثية تاريخية، التراث عصب حياتنا النفسية والاجتماعية وأساس الماضي والحاضر والمستقبل عندنا، فتوزع منهج التفكير لدى النخبة والعامة على المناهج التراثية والمناهج المعاصرة والمناهج التي تعمل على التوفيق بين الاثنين.
أعتقد أن الأزمة في الفكر الفلسفي لدينا هي جزء ومظهر من مظاهر أزمة النهضة ومشكلة التخلف والانحطاط، وهي أزمة عميقة تزداد تفاقما باستمرار، فالفكر عامة في بلادنا يعاني من أزمة حادّة وخطيرة سببها التناقض الفظيع بين الخطاب الثقافي والسياسي والفلسفي وبين الممارسة في الواقع، فأزمة المنهج قائمة في الفلسفة لغياب محاولات جادّة تفلت من ربقة التراث لتستثمره أحسن استثمار وتفلت من ربقة الوافد لتستغلّه أفضل استغلال وتفلت من قيود التلفيق لتضمن التجانس المطلوب والكافي للنهوض بالأمة في اتجاه التقدم والازدهار، وأزمة المنهج ترتبط بها أزمة المفاهيم والمرجعيات والأصول، ومن ثم أزمة المشاريع من حيث التكوين والبنية ومن حيث آلياتها وأهدافها ومن حيث صلتها بالواقع المعاش على المستوى الرسمي والشعبي معا، فمشروع التراث والتجديد المغيّب هو مشروع ثوري تثويري إلى أي مدى كان حاضرا في الحراك الثوري العربي عامة والمصري خاصة.
5- كما تعرف فقدت الساحة العربية والمغربية الكثير من رموز البحث الجامعي في مجال الفلسفة : محمد عابد الجابري ، محمد أركون، فؤاد زكرياء،عبد الرحمان بدوي، لكن هناك من الباحثين الشباب من يحاول أن يكمل المسير، هل انتم متفائلون بمستقبل البحث الفلسفي؟
ج: منذ وجد الإنسان حتى الآن وهو يفكر ويعمل ويكبو ويفيق ويفنى ويخلفه غيره وهذا من سنن الكون، والخلافة قائمة بين بني البشر في جميع مجالات الحياة، لكن الخلافة قد تكون نحو الأعلى كما قد تكون نحو الأسفل، فغياب مفكري النهضة ومفكري التحرر من الاستعمار في العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث خلفه مفكرو التحرر من التراث أو من العصرنة في جانبها السلبي وخلفه مفكرو أزمة العالم العربي والإسلامي وهي أزمة عقل وفكر ومنهج بالدرجة الأولى وأزمة أخلاق وممارسة بالدرجة الثانية وأزمة تواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، في وقت تزداد فيه الأمم المتقدمة ازدهارا في مجال العلوم والتكنولوجيا والسياسة وتنظيم المجتمع.
شغلت أزمتنا بال المفكرين المعاصرين والباحثين الجامعيين وكانت نتيجة ذلك ظهور عدد من الاتجاهات الفكرية والفلسفية التي انبثقت عن تأثر المفكرين والباحثين الجامعيين بالثقافة الغربية الحديثة وبفلسفة الحداثة وما ترتب عنها من أفكار وتيارات، ناهيك عن التيارات والاتجاهات التي بقيت مدينة لرواد ومفكري النهضة تعيش على إرث الحركة الإصلاحية التجديدية في عالمنا العربي، فكل الاتجاهات الفلسفية في أروبا وجدت من يمثلها عربيا، وسار التلاميذ في نفس الدرب مع بعض المحاولات المختلفة عن سابقتها لمسايرة المستجدات والتحولات في البحوث والدراسات الفلسفية لكن لم يكن لها باع في الجدّة والجرأة والخصوصية، ما إن تظهر حتى ينطفأ إشعاعها لكونها تقوم في روحها وصورتها ومنهجها على التكرار والاجترار ومن دون اعتبارها للهوية الثقافية العربية الإسلامية.
أما جيل الشباب المشتغل بالفلسفة فهو موزع على فئات، فئة لا يهمّها من الفلسفة سوى كسب القوت اليومي وهي الفئة الغالبة، وفئة مريدة مازالت تعيش على إرث الشيوخ تتقرب منهم في حياتهم وتبقى وفيّة لهم بعد مماتهم ركنت إلى القراءة والعرض والدفاع والبكاء على الأطلال، وفئة صغيرة جدّا تمارس التفلسف خارج القوت اليومي وخارج الإتباع والتقليد وتحاول أن تنهض بالفلسفة والتفلسف في الأصول والمناهج والأهداف وفي عالم الأفكار وعالم الواقع في اتجاه يسمح ببعث حركة فكرية حقيقية تضطلع بوعي الواقع والتاريخ والحاضر والمستقبل وتشخيص الهموم والمشكلات والبحث عن الحلول ضمن أفق رحب من التفكير الحر والأصيل والإبداعي والجريء، لكن هذه الفئة التي تمثل الأمل في نهوض فلسفي حقيقي تصطدم بقوى العبث بطاقات الأمة المادية والثقافية والإبداعية على المستويين الرسمي والشعبي.
6- هناك الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، في المقابل لا نجد مراكز مختصة في الفلسفة. إلى ما ذا تعزو في نظرك هذا الغياب؟
إنّ عدد مراكز الدراسات والأبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية قليل جدّا بالمقارنة مع ما هو موجود لدى الأمم المتقدمة، أما بالنسبة لنوعية هذه المراكز فهي لا تقدم بحوثا ودراسات بمستوى الجودة والإبداع المطلوب، وعاجزة تماما عن مسايرة التحوّلات العلمية والمعرفية الجارية في العالم المتقدم، وهي قادرة على الدخول في سوق المنافسة العلمية والبحثية والدراسية العالمية، وليست مرتبطة بالواقع، فهي لا تؤثر فيه ولا تغييره، ولا وزن لها في اتخاذ القرارات التي تخص المجتمع والدولة.
فإذا كان حال مراكز البحوث والدراسات الإنسانية والاجتماعية في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر بهذا الوصف من التهميش والصورية في أعمالها من مؤتمرات وملتقيات وندوات وغيرها، فحال الفلسفة وأهلها أدهى وأمرّ، فالفلسفة لا تملك مراكز وهيئات بحث إلاّ بعض الجمعيات القليلة جدّا المغمرورة التي لا يسمع عنها إلاّ القليل رغم توفر وسائل وأساليب الحصول على المعرفة بتطور وسائل وتقنيات البحث والدراسة والإعلام والإشهار والتواصل، وغياب جدوى مراكز البحث والدراسة في العلوم الإنسانية والاجتماعية في بلادنا وانعدام المراكز المتخصصة في الفلسفة يعود أصلا وأساسا غياب الاهتمام على المستوى الرسمي والشعبي بالفلسفة والفلاسفة وبعلماء الاجتماع والنفس والآثار والتاريخ وغيره، وتركيز الاهتمام على العلوم التجريبية والدقيقة والتكنولوجية على سبيل نقلها واستغلاها لا على سبيل الإسهام في إنتاج المعرفة العلمية واختراع التكنولوجيا وامتلاك شروطها ولوازمها، وما زاد في تهميش الفلسفة وأهلها كون المجتمعات العربية والإسلامية تراثية تاريخية دينية ترى في التراث والدين والماضي عموما السبيل الأوحد للحياة في الحاضر والمستقبل.
جيلالي بوبكر، الشطية، الشلف، الجزائر، يوم 20 -06-2012