لعل الأحداث المتسارعة التي عاشها العالم، ومعه البلاد الإسلامية والتي لم يسلم منها المغرب، أضحت تستدعي وضع المسألة الدينية تحت المجهر، وذلك في علاقتها ببعض الحركات السياسية الإسلامية من حيث سلوكاتها ومواقفها و طروحاتها الفكرية والمرجعية التي تنهل منها.
ومن هنا أصبح الفكر الديني في موضع اتهام بعد السلوكات الشادة التي ارتبطت ببعض التنظيمات الإسلامية في العقود الأخيرة، مما جعل عملية النقد والتجديد والتحديث وما شابه ذلك من المفاهيم ضمن أولوية الأولويات.
صحيح، لقد عرفت عملية تجديد الفكر الديني عدة محطات تاريخية خاصة منها تلك التي شهدتها البلاد الإسلامية في بدايات القرن الماضي، لكنها لم تستمر لعوامل متعددة وليتوقف بالتالي هذا الإصلاح فاتحا الباب في وجه الانغلاق والرجوع إلى الوراء. وعلى الرغم من بعض الأحداث المأساوية التي شهدتها المنطقة الإسلامية في
السنوات الأخيرة فإن بروز حركة إصلاحية ثقافية ودينية لها امتدادات مجتمعية على غرار عصر النهضة لم يشهد لها اليوم مثيلا ليبقى الظلام سيد الموقف باستثناء بعض الإجتهادات الفردية التي يقوم بها مثقفون هنا وهناك. لكن أحداث الحادي عشر شتنبر بالولايات المتحدة الأمريكية، أعادت سؤال تجديد الفكر الديني إلى الواجهة، وتأكدت هذه الحاجة وبشكل أكثر بعد العمليات الإرهابية التي عاشتها الرياض والدرا البيضاء، والتي كان أبطالها ـ كما هو معلوم ـ عناصر تنتمي إلى جماعات إسلامية متطرفة، فهذه الأحداث إذن، أعطت شرعية جديدة لعودة هذا السؤال والبحث عن معالجة كل الإختلالات التي عرفها هذا الحقل الفكري. ويفيد درس التاريخ ـ كما أكدت الورقة التقديمية للندوة ـ أن من بين الأسس التي قام عليها تقدم الأمم "نقد" الفكر الديني والعمل على تجديده غير أن تاريخنا الحديث، لم يقدم لنا حركات ثقافية تحديثية وإصلاحية دينية... نعم كان هناك ما اصطلح على تسميته "عصر النهضة"، ونبغ أشخاص مأثورون ومعروفون...بيد أن ما يجري هنا والآن دليل على اجترار "سؤال النهضة" وفشل حركتها التي لم تتمكن، لعوامل عدة، أن تصبح علامة على حركة ثقافية لها امتدادت مجتمعية، وتترجم حاجات تاريخية، فظلت بالتالي عبارة عن شذرات معزولة واجتهادات" فردية" كان مصيرها الارتكاس والتيهان في محيط مشبع بعوامل التخلف التاريخي.
أكيد أن النخب الفاعلة داخل البلدان الإسلامية تشعر اليوم على وجه الخصوص بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها، بمعنى أنه إذا لم تقم نخب هذه البلدان بمراجعة هذا الفكر والعمل على تجديده ليواكب تطورات العصر فإن "الإمبراطورية الجديدة" (الولايات المتحدة الأمريكية) المتحكمة في صناعة القرار الدولي، ستتدخل كعادتها لإلزام البلدان الإسلامية على القيام بمراجعته وفق منظورها وخدمة لمصالحها الظرفية والاستراتيجية. ولعل بعض البلدان الخليجية قد التقطت مضامين إشارات الأمريكان وشرعت في القيام بإصلاحات سياسية ودستورية لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب...
ومن هذا المنطلق أقدم مركز طارق بن زياد بتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور الألمانية بالمغرب وجامعة الأخوين على تنظيم الدورة الثانية للجامعة الشتوية بإيفران تحت موضوع "تجديد الفكر الديني" يومي 27 و28 فبراير الماضي وذلك بمشاركة نخبة من المثقفين والباحثين والمهتمين بمجال الفكر والثقافة من داخل وخارج المغرب (عبد المجيد الشرفي، عبده الفيلالي الأنصاري، سعيد بنسعيد العلوي، بنسالم حميش، محمد الصغير جنجار، عزالدين العلام، محمد كلاوي، عبد الغني أبو العزم، نورالدين الزاهي، محمد العيادي...) وقد توزعت محاور الدورة على أربع نقط : الإسلام وقضايا نظرية، الدين والسياسة، الدين والثقافة، والإسلام والإعلام.
وقد عرفت هذه الدورة التي كانت غنية من حيث نوعية المشاركين وأيضا طبيعة الموضوع المتعلق بتجديد الفكر الديني، طرح عدة إشكالات كبرى تتعلق بمسألة الفكر الدين وتجديده في علاقته بالحقل السياسي (الدولة، الحركات الإسلامية، الأحزاب...) والحقل الثقافي العام (التربية والسلوكات اليومية، التعليم..) والحقل المعرفي (قضايا الفكر الديني..).
ـ مصطفى الزاوي، أستاذ جامعي
لا يمكن تحديث الفكر الديني دون تحقيق التنمية الاجتماعية
إن الفكر عامة إما أن يكون رافعة أو عائقا للتنمية الشاملة للمجتمع، وهذه هي سنة الحياة. فمادام لنا، رسميا، مشروع حداثي ديمقراطي فهذا يتطلب منا أن ننخرط في إعادة تأهيل كل الأدوات المؤسساتية (الأحزاب، الإدارة، القضاء، التعليم، الاقتصاد...)، ومن ثم بالضرورة في إعادة تأهيل التصورات المجتمعية لخلق دينامية تدفع نحو إنجاز المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، والفكر الديني، يوجد طبعها ضمن هذه الحقول... ولعل قانون الأسرة يندرج في هذا الإطار اعتبارا لأهمية هذه الخلية التي تشكل أساس المجتمع. وما نعلمه أن قضية الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية اصطدمت بفكر ديني سلفي، الشيء الذي أضطر الحكومة إلى رفع المشكل إلى الملك قصد ممارسة التحكيم. ولو لم يكن لهذا العائق وجود لحسمت المسطرة التشريعية في الأمر كما يحسم أي قانون آخر في القضايا المطروحة عليه.
أعتقد أنه لا يمكن تحديث الفكر الديني دون الرفع من المستوى الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، وبمعنى دون تحقيق نسبة معينة من التنمية الاجتماعية، تبدأ بإصلاح المنظومة التربوية بشكل يجعل الرفع من المضامين العقلانية للتعليم والتكوين في بؤرة اهتمامها.. وتقع هذه المسألة على عاتق الدولة التي نعني بها كل المؤسسات القائمة، لأن الدين الإسلامي مسألة اجتماعية بالنسبة إلى الأمة عامة، ومن غير المقبول أن يحتكره طرف سياسي دون غيره.
ـ المصطفى المعتصم، الأمين العام لحزب البديل الحضاري
التجديد يتطلب القوة والشجاعة
التجديد يقابل التجميد، وإذا كانت عقلية التجميد تمجد الماضي وترتمي في أحضانه (ماضوية) فإن عقلية التجديد تستشرف المستقبل وتطمح إلى معانقة آفاقه الواسعة.
التجديد يفرضه اليوم عامل ذاتي (المراجعة) لتجاوز معيقات الذات وتثمين نقط قوتها، ،وهو الكوة المضيئة التي يمكن النفاذ عبرها للانعثاق في كهف مرحلة طبعتها انهيارات فضيعة وعلى أكثر من صعيد.
والفكر الإسلامي تحديدا مطالب بالتفكير وإعادة التفكير في المشكلات والتحديات الكبرى التي تواجه العالم الإسلامي إذا كان يريد لهذا العالم أن يواكب قضايا عالمية معاصرة. وفي تقديري فإن تجديد الفكر الديني سيشكل ـ إذا ما أحسنا طرح الأسئلة وأجبنا عنها الإجابات الحقيقية ـ مدخلنا لكي نتبوأ مقعدا متميزا بين الأمم في القرن الواحد والعشرين.
التجديد المطلوب يبدأ بإيجاد الجرأة على النقد والمراجعة انطلاقا من رغبة حقيقية في التخلص من وضعية الجمود والسكون الذي يجثم علينا بكلكله، وهذه الجرأة تعني في ما تعنيه القوة والشجاعة في مواجهة موجتين عاتيتين تقفان في وجه إصلاح مابنا من اعوجاج: موجة فقهاء التقليد التي تشدنا إلى الوراء وموجة أدعياء التغريب المستلبين حضاريا والذين ينكرون علينا حقنا في أن نعض على مرجعيتنا الدينية بالنواجد وحقنا في أن نتمسك بخصوصيتنا الفكرية والثقافية وبهويتنا التي بدونها نفقد شخصيتنا ويدعوننا إلى تبني النمودج الغربي جملة وتفصيلا.
وتتعدد أوراش التجديد بتعدد اهتمامات المشروع الحضاري:
مسألة الديمقراطية لإقرار عدل سياسي في التداول على السلطة بعيدا عن كل تكفير وإقصاء، مسألة حقوق الإنسان، مسألة الاتفاقات الدولية، مسألة المرأة، في العلاقة بالذات أي كيف ندعم وحدتنا بتطوير تنوعنا اللغوي والثقافي وعدم إلغائه (الإغناء بدل الإلغاء)، وفي علاقتنا بالآخر وأقصد بالدرجة الأولى هنا الغرب الذي علينا أن نجعل علاقتنا به علاقة حوار وتفاعل حضاري ونرفض مقولة الصراع الحضاري، مسألة المواطنة، مسألة الأقليات، مسألة التنمية إلخ... هكذا يكون التجديد وسيلتنا للانتقال في علاقتنا بالعصر من الانقطاع إلى التواصل.
إننا نعيش زمن الأصوليات بعد انهيار أو تراجع زمن الإيديولوجيات.وظهور الأصولية بين ظهرانينا جر معه رجوعا نحو البداوة والجلافة، زادهما حدة التهميش وعنف السلطة والفساد الشامل خصوصا فساد النخب الذي استفحل وتعاظم بالاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، مما يتطلب منا أيضا بالإضافة إلى فتح الأوراش التي سلفت الإشارة إليها نشر ثقافة الحوار والتسامح والتعايش بيننا. وإذا كان الله جميلا ويحب الجمال فنشر ثقافة الجمال وتربية الذوق السليم والرفيع وتجذيرالتمدن من شأنه أن يبعدنا عن الجفاء والغلطة وقساوة الطبع.. هنا تطرح أسئلة التعليم والثقافة (سينما، مسرح، فنون جميلة، موسيقى..) وأسئلة المفاهيم السائدة بيننا والتي تشكل جوهر ومدخل قابليتنا للتخلف، الانتظارية، الاتكالية أو التواكلية.. وهي مفاهيم غير صحيحة حول القضاء والقدر، عدم المسؤولية، الكسل، الميول إلى التقليد.. هكذا إذن، تتعدد الأوراش وتتنوع كما نرى، مما يتطلب منا مراجعة شاملة من منهجية تعاملنا مع الكتاب والسنة والتراث، والفقه، ويظهر حاجتنا إلى مجتهدين يمتلكون رؤية شاملة وثقافة واسعة مستوعبة للدين وللثقافة الوطنية والإسلامية ومستوعبة أيضا لتطورات العصر والمجتمع ولحاجات هذا المجتمع.
ـ نور الدين الزاهي، باحث سوسيولوجي
ننتصر لفكرة النقد أو التحديث عوض التجديد الديني
ننتصر لفكرة النقد أو التحديث الديني، لكن ليس بمستطاعنا إنجاز التحديث على اعتبار أن السياق العام لهذا التحديث لم يفتح بعد. ما أقصده بالنقد ليس هو تهديم المعتقد وليس هو منع التدين، بل هو بيان أهمية أدوار الخطاب الديني، وفي الآن نفسه لا بد من رسم الحدود لكي لا يتم الخروج عن نطاقه لأن من شأن ذلك أن يدخل عليه شوائب تبلبل المعاني وتخلق نوعا من عدم الفهم لدى المتلقي. فالنقد بهذا المعنى له مهمتان، مهمة تتمثل في العمل على إظهار أهمية الدين باعتباره حاضرا في ذهنية المغربي ومتبلورا على مستوى سلوكاته وطقوسه.. ولكن في الواجهة الأخرى لا بد أن نسائل هذه الطقوس.. في مسارها.. وأخرى تتمثل في إيجاد وسيلة للدفع بها نحو أفق أرحب هو ما نصطلح على تسميته نحن بالحداثة، وهذه هي مهمة الباحث والمفكر، وهنا لا يجب أن يتحول هذا الأخير إلى مفاوض لخلق التوافق والإجماع بين هذا وذاك لأن مهمته هي مهمة استراتيجية ويجب رسمها خاصة في هذا المجال الذي كان مصنفا ضمن الطابوهات الكبرى داخل الحقل السياسي. واللجوء إلى الفكر النقدي داخل هذا الأفق سيجنبنا الانغلاق داخل مشاكل علم الكلام التي ترجع إلى قرون غابرة في تاريخ الفكر الاسلامي تمتد من القرننين السابع والثامن إلى الحادي عشر.
ـ أحمد عصيد، باحث مهتم بالثقافة الأمازيغية
قبل القرآن والسنة هناك الواقع
يطرح علينا موضوع تجديد الفكر الإسلامي العديد من الأسئلة الجوهرية والإشكاليات المعقدة والمتشابكة، ولا يقصد بتجديد الفكر الإسلامي استعمال هذا المفهوم في سياق المرجعية السلفية والذي لا يعني هنا مجرد تغيير بعض آليات العمل بل الاشتغال بها ضمن الثوابت القديمة، مما يؤدي إلى الوصول دائما إلى نفس النتائج وإلى عدم تجديد الفكر وعدم القدرة على إيجاد الحلول الضرورية التي يقتضيها الواقع المتجدد، وهذا ما يجعل بعض الباحثين يفضلون الحديث عن مفهوم التحديث.
وأعتقد أنه سواء تعلق الأمر بالتجديد أو التحديث فإن السياق الذي نتحدث فيه هو السياق الحداثي الديمقراطي أي سياق مشروع مجتمعي يريد الانتماء إلى العصر والمستقبل عكس الأطروحة السلفية التي يكرسها للأسف العديد من التنظيمات الإسلامية بالمغرب اقتداء بمثيلتها بالمشرق العربي. فهذه الأطروحة تقدم المسلمين كأنهم منجذبون أكثر نحو الماضي، مرتبطون به ومتقوقعون في إطاره، ينطلقون منه للحكم على الحاضر، بينما الصحيح في اعتقادي هو العمل على تصريف إرث الماضي حاليا عبر قراءته انطلاقا من حاضرنا، بمعنى أنه ينبغي لحاضرنا أن يتحكم في ماضينا وليس العكس، لأن الحاضر عندما نستطيع من خلاله فهم الماضي واستيعابه نستطيع بالتالي المرور عبره نحو المستقبل.
فالمسلمون اليوم يعانون من انحسار وانحباس حضاريين، وهذا مرده إلى عدم تخلصهم من هيمنة الماضي على تفكيرهم، ولهذا السبب أعتبر أن مفهوم الاجتهاد ينبغي أن يفهم في سياق جديد وحديث، وهذا المفهوم (أي الاجتهاد) يقصد به فهم النص على ضوء الواقع، فعندما يقول أحد السلفيين إن لدينا أصلين اثنين وهما القرآن والسنة، أقول أنا شخصيا إن هناك ثلاثة أصول أي قبل القرآن والسنة هناك الواقع وبعده يمكن النظر في النصوص انطلاقا من ضرورات وحاجات وأسئلة الواقع، وكل هروب من الواقع أو محاولة لتغليب النص على الواقع يؤدي إلى نتيجة خطيرة جدا ألا وهي جعل الدين غاية عوض أن يكون مجرد وسيلة.
فبالنسبة إلي شخصيا ليس الدين غاية في ذاته، لأن الغاية هي الكرامة الإنسانية، فهو وسيلة من ضمن الوسائل الأخرى التي يمكن عن طريقها بلوغ هذه الكرامة.
ـ عزيز الأزرق، باحث في مجال الفلسفة
لا تجديد للفكر الديني بدون خضوعه للنقد
ينبغي أن ننظر إلى موضوع تجديد الفكر الديني من زاوية شاملة وثقافية بالدرجة الأولى، وأعني بالزاوية الثقافية بعدين أساسيين، على اعتبار أن الثقافة عدة معرفية وأن الدين الإسلامي جزء من الثقافة والحضارة الإسلاميتين، ثم من زاوية تاريخية.
إن المسألة الدينية يجب النظر إليها أيضا في سياق تاريخي، ومن هذا المنطلق سنكون في موقع إيجابي، حيث سنضع مسافة بيننا وبين المعرفة والتاريخ والثقافة والحضارة أيضا، اي مسافة نقدية حتى لا نتماهى مع أي نوع من الخطابات السائدة حول المسألة الدينية، وهذا النقد (بمعناه الفلسفي) ليس معناه الوقوف عند عتبة إبراز السلبيات والإيجابيات... ولكن الغوص أركيلوجيا وتحليليا في العلاقة الموجودة بين الدين والثقافة في هذا الإطار مع العمل على فتح آفاق ممكنة أخرى في التفكير.
فالمطلوب في نظري هو الدخول في عملية النقد وإبراز البياضات التي تملأ هذه العلاقة بين الثقافة والدين، أي الأخطاء ـ إذا صح التعبير ـ على اعتبار أن كاستون باشلار كان يقول دائما أيها الخطأ لست شرا كما أن تاريخ المعرفة ـ حسبه ـ ليس هو تاريخ الحقيقة ولكن هو تاريخ الأخطاء.
ولما ندعو إلى نقد الفكر الديني هنا، فإننا ندعو إلى تأسيس آليات معرفية تاريخية تجعلنا ننظر إلى المسألة الدينية بمنظور الانفتاح والنسبية. والأمر ليس موجها إلى الخطاب الديني، بل إلى كل الخطابات الأخرى التي تنتج حول قضايا معينة.
وبكلمة مركزة لا تجديد للفكر الديني بدون نقد الفكر الديني.
ـ محمد جنجر الصغير، نائب مدير مؤسسة الملك عبد العزيز
النقاش في المغرب محلي باستثناء ما يقوم به طه عبد الرحمان
بداية يجب تأكيد على أن للمصطلحات الثلاثة (التجديد، التحديث والنقد) تاريخا، ذلك أننا انتقلنا من مرحلة سميت بالنهضة وكان حينها المصطلح الأساسي هو الإحياء، وهو مقتبس من الغزالي، ثم مررنا إلى مرحلة التجديد أي التجديد من داخل المنظومة الإسلامية وبنفس القواعد التقليدية للفقهاء وعلماء المسلمين، ثم ظهر في مرحلة الستينات مصلطح النقد الديني وخصوصا من طرف التيار الماركسي من خلال الكتابة وإعادة التأويل للمنظومة الدينية عبر التاريخ الإسلامي. واليوم ما ألح عليه هو المحاولات الحالية داخل العالم الإسلامي من أجل بناء المعرفة الدينية، وهذه المحاولات هي قليلة تجمع ما بين معرفة العلوم الإنسانية الموجودة عبر العالم لكونيتها، والعودة إلى الأصول وليس الفروع (الربا، المرأة...). أي استعمال أدوات معرفية جديدة كالتي ظهرت في القرنين الماضيين (الابستيمولوجيا...)، من أجل إعادة بناء المعرفة الدينية بشكل جدي وهو ما يسمى اليوم بعلم الكلام الجديد أو فلسفة الدين الجديدة، تكون في مستوى ما ينجز حول الديانات الأخرى (المسيحية، البروتيستانية...)، وهذه محاولة يتطلب تحقيقها شروطا معرفية علمية متقدمة.
فنحن لم نعرف محاولات لتجديد الفكر الديني على اعتبار أننا مقارنة ببلدان مشرقية أخرى عرفنا نوعا من التأخر في اقتحام هذا الباب، وكل ما عرفناه هو محاولات دفاعية من طرف الحركات الإسلامية عن مواقعها وطروحاتها.. وهذا لا يرقى إلى مستوى مطمح إعادة بناء الفكر الديني لأن هذه العملية لا تتعلق بالقضايا السياسية الراهنة.. لباعتبارها قضية فلسفية لا يمكن أن يقوم بها إلا مفكرون منخرطون في القضايا الفكرية والمعرفية العالمية، مفكرون ينظرون ليس إلى الإسلام وحده ولكن إلى الإنسانية من خلال الاستفهامات والأسئلة الكبرى التي تطرح عليها.
ونحن في المغرب لازلنا منحصرين في نقاش محلي، باستثناء بعض المحاولات التي يقوم بها المفكرالمغربي طه عبد الرحمان والتي أخذت تعرف بالمشرق العربي وأيضا بعض المحاولات التي قام بها محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي ومحمد أركون والشرفي على مستوى المنطقة المغاربية. وكل هذا العمل لازال في بدايته، وبالتالي فلابد من تراكم معرفي في هذا المجال ليظهر في لحظة من اللحظات مفكر من طينة محمد إقبال أوسوروش...
ـ عزيز مياج، باحث جامعي
المرحلة الراهنة تستدعي قراءة الفكر الديني وبعدها تقنين سلوكه
بداية أقترح قراءة الفكر الديني كمعطى لازال غير مقروء من نواحيه التاريخية في رمته، وأشير ثانيا إلى أن المسألة الدينية لازالت تعالج فكريا، والأنظمة العربية والإسلامية لازالت تعاني من فراغ على مستوى التأطير سواء فيه السلوكي أو الفكري الديني. ولو كان هناك وجود لهذا الفكر الذي تنتج عنه سلوكات مقننة لاستطاعت البلدان العربية أن تضبط السلوكات التي تؤول على أنها دينية وتخرج عنها. فالمرحلة تستدعي ـ كما أشرت ـ القراءة وبعدها تقنين السلوك الديني لأن هذا الأخير ما هو إلا نتاج أو تأويل للفكر الديني، وعندما ستصل المجتمعات إلى هذا المستوى فإنها ستضبط ما هو مشروع وغير مشروع.
وإذا طرحنا جانبا السلوك وركزنا اهتمامنا على الفكر الديني كنتاج ذهني ومجتمعي، وجدنا هذا الأخير فكرا تراثيا لا يحتاج إلى محام ليدافع عنه، فإذا كان يحمل في طياته ميكانيزمات تمنحه قابلية لمسايرة العصر فإنه سيستمر، أما إذا كان يفتقد ميكانيزمات الاستمرارية فإن مآله سيكون الزوال حتما سواء كان هناك محامي أو لا، وشأنه في ذلك شأن فلسفات وديانات من قبل.
ـ بن سالم حميش، باحث في مجال الفكر العربي الإسلامي
أحسن شيء هو التعايش السلمي بين الدين وتطورات العصر
أعتقد أن التجديد والتحديث وغيرهما مفردات، فأنا أطرح الشرط المعرفي، والنقد فكريا وفلسفيا وممارساتيا مطلوب. فالتحديث في الأركان الخمسة على سبيل المثال غير مقبول، ويبقى مجال المعاملات هو المجال الذي يعد الاجتهاد فيه ضروريا ومطلوبا. وقد كان الفقهاء يميزون في ما قبل في هذا الباب ما بين القطعيات والظنيات، بمعنى أنه لاجتهاد مع وجود نص، والشيء الذي يغيب فيه النص يبقى مفتوحا أمام الاجتهاد. فالنازلة التي عاشها المغرب أظهرت وجود تماس بين عدة أمور اجتماعية في علاقتها بالدين (وضع المرأة، الطفل...)، اللهم إذا قلنا بوجوب الدعوة إلى اللائيكية أو ما يسمى خطأ العلمانية، في حين أن الدستور المغربي ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، ومن هنا يجب التعامل الإيجابي مع هذا المعطى. فهناك الدستور من جهة والحساسيات الشعبية والتراكمات المتحققة في هذا المجال والتي يصعب بل يستحيل القفز عليها من جهة أخرى، لا باسم الحداثة ولا باسم ما شابهها. واعتبر أن أحسن شيء هو التعايش السلمي بين الدين وتطورات العصر، وهذا لا يتعارض في شيء مع الحداثة، فبلدان أوربية كألمانيا وإسبانيا وإيطاليا.. تستحضر هذا البعد بشكل معقلن ومتفق عليه ما بين الفرقاء السياسيين، إذ نجد في إيطاليا على سبيل المثال المسيحية الديمقراطية، وهذا
ما أسميه بالتأهيل الحضاري أكثر من الحداثة. وهذا من شأنه أن يزيل كل العراقيل ويجعل المجتمع فعلا مكتسبا لكل الآليات لاحتواء عناصر الحداثة الرافعة.. وهذا هو المشروع المعروض على المجتمع.
ـ حماني أقفلي، أستاذ باحث
التجديد الديني ضرورة ثقافية وحضارية تمليها التغيرات الحاصلة
ـ كيف تتصور العلاقة بين الدين والسياسة؟
العلاقة بين الدين والسياسة، وخاصة في مجتمعاتنا الإسلامية، هي علاقة انفصال واتصال في نفس الوقت، ولفهم هذه العلاقة، يجب التمييز بين السياسة كممارسة، والأيديولوجية التي ترافق عادة تلك الممارسة. فالسياسة، كممارسة، تعني حسب أحد تعريفاتها المبسطة، فن أو علم الحكم. فموضوعها إذن، هو تدبير الدنيوي (الشأن العام) مع كل ما يتقضيه ذلك التدبير من إجراءات تنظيمية ومؤسساتية وتشريعية إلخ. والسياسة، بهذا المعنى هي مجال التدافع والتنافس والصراع من أجل الحكم بين أفراد وجماعات لهم تطلعات ومصالح متعارضة. أما الدين، فهو، في جوهره مجموعة من المبادئ والقيم والتصورات المثالية، غايتها ترشيد الإنسان وهدايته وتوجيه سلوكه نحو الأمثل، وبحكم مصدرها الإلهي، فإن تلك المبادئ والقيم والتصورات تتسم بالكمال المطلق، وتشكل المعيار الأساسي لنقد وتقويم الفعل السياسي الملموس، ونعلم أن النصوص الدينية هي المصادر الرئيسية للتشريع ولكنها ليست التشريع كله.
والدين والسياسة بهذين المعنيين لا يمكن أن يكونا إلا منفصلين، لأنهما يخضعان لمنطقين متباينين يصعب التوفيق بينهما، فالسياسة، تبحث أساسا عن الفعالية والنجاعة والمردودية السياسية المتمثلة في الحصول على أكبر قدر ممكن من الموارد السياسية، وكسب أكبر عدد ممكن من المؤيدين والمناصرين. وهي تخضع، في ذلك لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. أما المنطق الديني، فيحكمه هاجس السمو بالكائن البشري إلى أعلى درجات الكمال. ولعل تعارض هذين المنطقين، هو ما يفسر، أن الدولة الدينية لم تتحقق لحد الآن في اي مجتمع من المجتمعات البشرية (باستثناء ربما المجتمع العربي في عهد الرسول محمد (ص)، وأن جل الدول التي عرفها التاريخ إنما حكمت وفق القواعد والقوانين الخاصة بالفعل السياسي، وهي قواعد وقوانين يفرضها الواقع الدنيوي، أكثر، مما تستمد من التعاليم السماوية.
هذا بالنسبة للانفصال الحاصل بين الدين والسياسة.أما الاتصال الكائن بينهما، فيلاحظ على المستوى الإيديولوجي أساسا. يتجلى ذلك في التوظيف السياسي للدين إما من قبل بعض النظم السياسية القائمة لتبرير ممارساتها السياسية، وإضفاء مشروعية دينية على وجودها أو من قبل بعض الجماعات أو الفئات المناوئة لها، بغاية اكتساب مشروعية دينية مضادة تمكنها من قيادة المعارضة قصد الاستيلاء على الحكم، أو اقتسامه مع من يمارسه، ونظرا لما يتيحه الدين من إمكانات تعبوية بحكم المكانة التي يحتلها في نفوس العامة، فإنه يشكل أحد الرهانات الجوهرية في التنافس السياسي على السلطات.
ـ هل معنى ذلك خضوع الدين للسياسة؟
إذا انطلقنا من تاريخنا الإسلامي، فإننا نجد أن المسلمين قد اختلفوا، أول ما اختلفوا فيه، في السياسة وليس في الدين، وأن السبب الرئيسي في نشأة الفرق الإسلامية الأولى (الخوراج، المرجئة، الشيعة..) كان سياسيا وليس دينيا، وأن معظم الخلافات الدينية لها جذور سياسية، ونعلم أيضا أن الخلاف السياسي الذي ظهر بين المسلمين في عهد الخلافة الراشدة، والذي أدى إلى ما يعرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى، قد حسم في نهاية المطاف بقوة السيف وليس بالاحتكام إلى الدين، ومنذ ذلك الوقت، ظل الفهم السائد للدين هو دائما فهم الفئة أو الطبقة والسائدة، والفقيه خادم الأمير ما بقي الأمير قويا لا ينازعه منازع أو منافس أقوى منه.
ـ هل ينبغي أن نفهم من هذا استحالة قيام دولة دينية؟
قيام دولة دينية، يعني تحقيق المبادئ والقيم الدينية المثلى، التي تتسم بالكمال والإطلاقية كما قلنا، وتجسيدها في واقع تاريخي معين، وهو ما يعني، بصيغة أخرى، تحقيق الكمال في الأرض، وبناء مجتمع تنتفي فيه كل عوامل التوتر والخلاف والصراع إلخ. وأظن أن هذا محال، لأنه يعني بكل بساطة، نهاية التاريخ، وانتفاء الحاجة إلى الدين.
ـ مارأيك في بعض الحركات الإسلامية التي تدعو إلى الحكم بما أنزل الله؟
لا يوجد مسلمان اثنان يختلفان حول مبدأ الحكم بما أنزل الله، ليست تلك هي المشكلة. المشكلة الجوهرية تكمن في تحديد المقصود بالضبط بما أنزله الله. وهنا نجد أنفسنا أمام قراءات متعددة وأحيانا متعارضة للدين، كل واحدة منها تدعي أنها القراءة الصحيحة، وهي في الواقع كلها قراءات بشرية، تخضع، في نهاية التحليل، لمحددات دنيوية، وأعتقد أن التشبث بالشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع، ليس موقفا خاصا بالحركات الإسلامية، وإنما هو مبدأ مشترك بين كافة المسملين، غير أن التطبيق العملي لهذا المبدأ، وما يتطلبه من اجتهاد بشري هو مصدر الخلاف.
ـ في هذا السياق كيف تنظر إلى التجديد الديني؟
التجديد الديني كما يحدده عدد كبير من المفكرين المسلمين وخاصة السلفيين منهم، هو العودة بالدين إلى صفائه ونقائه الأولين، وتنقيته مما لحق به تحريفات وبدع. والتجديد بهذا المعنى هو العودة إلى نموذج السلف الصالح، ومحاولة الاقتداء به عقيدة وسلوكا.. أرى شخصيا أن التجديد في الدين ضرورة دينية، يدعو إليها الدين نفسه ويحث عليها، لكن الغاية من هذا التجديد ليست هي استعادة ماض مجيد، أو تقليد نموذج كان وانتهى، وإنما الإصلاح الحاضر، واستشراف المستقبل. فالتجديد الديني ليس عملية إرادية تتوقف على رغبة هذا المجتهد أو ذاك، وإنما هي ضرورة ثقافية وحضارية تمليها التغيرات الحاصلة في الثقافة والعلم والسياسة والاقتصاد ومختلف مجالات الحياة في زمان ومكان محددين. ويعني التجديد الديني، بهذا المفهوم، إعادة النظر في الفهم السائد للدين، بغاية تكييفه مع الحاجات والمعطيات والمجتمعية والثقافية المتجددة باستمرار، وتظهر الحاجة إلى التجديد الديني، كلما تبين أن فهما معينا للدين ـ الفهم السائد عادة ـ أضحى يشكل عائقا أمام نمو المجتمع وتقدمه، لهذا كانت جل الحركات التجديدية التي عرفها الدين، تعكس قضايا وانشغالات المجتمع أو المجتمعات التي تظهر فيها، كما يؤكد ذلك طبيعة الأسئلة التي تطرحها ونوعية الإجابات التي تقترحها لتلك الأسئلة.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=15486