خلط!


حالما دخلت بيت عمي محرز وجدت نجله محمد يبكي بحرقة،حين سالته عن السبب، استمر يبكي وهو يقدم لي استدعاء وزارة الدفاع الوطني تدعوه فيه للإسراع بالقيام بواجبه العسكري.
قلت مهونا عليه الأمر:
ــ و ما وجه جزعك يا بطل؟!
ردّ عليّ بين شهقتين:
ــ منذ أشهر فقط بلغت السادسة عشر!
كان بنيان ابن عمي يكذب قوله، رغم ذلك قلت له مواسيا:
ــ لا بد أن في الأمر خطأ
استمرّ محمد يبكي ثم قال:
ـــ بل في الأمر جريمة متعمّدة !

حين اضطر محمد الي مغادرة البيت بعد مكالمة هاتفية اخبرني إثرها ان والدته تستحق مساعدته في حمل بضائع اشترتها من المركب التجاري القريب، بقيت انتظر في الصالون، غير انني سمعت شهيقا يصلني من غرفة آسية بنت عمي.. حين طرقت عليها الباب، وجدتها ملقاة على فراشها و هي تجهش بالبكاء.
هتفت بها متأثرا:
ــ ما خطبك يا ابنة العم؟!
ردّت عليّ آسية بين شهقتين:
ــ خسرت الرجل الذي بنيت عليه آمالي!
ـــ هل تزوج غيرك؟
ـــ لا.. بل تم رفض مطلب الترخيص لي بالزواج نظرا لصغر سنّي!
كان بنيان ابنة عمي الشاهق يكذّب قولها رغم ذلك قلت لها مواسيا:
ــ لا بد أن في الأمر خطأ.
استمرت آسية تبكي ثم قالت:
ــ بل في الأمر جريمة متعمّدة... لأنني سابلغ العشرين بعد يومين فقط!

حين اضطرت آسية الى مغادرة البيت بعد مجيء جارة شابة قالت انها تحتاج الى معونتها لإنزال حماتها البدينة المقعدة من فراشها من أجل تغيير اللحاف، ظللت لوحدي( أو هكذا كنت أعتقد) قبل ان أفاجأ بنشيج مرير يصلني من غرفة عمي محرز!
حين دخلت غرفة عمي محرز وجدته ينوح كإمرأة!
هتفت به متأثرا:
ـــ ما خطبك يا عماه؟!
ردّ عليّ بين شهقتين:
ــ عمك خيّر السّاعة بين جدع وخصاء!
ــ كيف ذلك؟
ـــ أما أن أظلم ولدي و أحرم ابنتي، أو ادخل السجن لحولين كاملين على أقل تقدير، كما أخبرني المحامي منذ قليل.
كان سلوك عمي يكذّب كلامه، رغم ذلك قلت له مواسيا:
ـــ لعل في الأمر خطأ فلم اعرفك غير أب عطوف و مواطن صالح.
مسح عمي محرز دمعة ثم قال:
ــ بل في الأمر جريمة متعمّدة!

حين اضطر عمي الى الخروج بعد وصول شاحنة الأشغال العمومية كي تقله الى مقر عمله، و فيما كنت اتساءل عن سرّ ما يحدث أمامي، رنّ الهاتف.. رفعت السماعة.. كانت والدتي على الخط:
ـــ أنا هنا في بيت عمي، اخبريني عما يحدث أمامي..
ــــ ....
ــــ أعني حكاية محمد و آسية و عمي محرز
ـــ ....
ــــ مش معقول !
ـــ .....
ــــ أمر لا يصدق!
ـــ ...
ـــ هل يمكن ان يحدث هذا!
ــــ ....
ـــ ... مع السلامة... هل سيحضر رفيق بن خالتي ؟.. اذن نلتقي بعد ساعة


ما حدثني به والدتي كان يفوق التصوّر... القضية ببساطة شديدة، تتلخص في كون عمي محرز بسبب كرهه جنس البنات.. قد طار صوابه و اسودت الحياة في ناظريه يوم " بشر " بابنته البكر آسية، فسجلها تحت اسم محمد! في انتظار قدوم محمد الذي سجله تحت اسم آسية و لكن بعد أربع سنوات كاملة من مولد شقيقته!

كان من المتوقع ان تكتشف مسألة التزييف هذه حين يتبين ان محمد الذي دعي الى دخول المدرسة (على أساس انه قد بلغ السادسة) لم يفطم بعد! لانه لم يتجاوز في حقيقة الأمر العامين! كما كان من المتوقع أن تكتشف مسألة التزييف هذه ، حين تدخل آسية المدرسة ( خصوصا و أن نضجها كان سابقا لأوانه) " بقدّ يقد و نهد يهدّ"لكن لا أمر محمد اكتشف، و لا أمر آسية تفطن إليه، لسبب بسيط وهو كون تونس الخضراء كانت وقت دخول محمد ( و ان شئنا التدقيق آسية) المدرسة واقعة تحت الاستعمار الفرنسي، لأجل ذلك فقد اعفي عمي محرز من التتبع القضائي، اعفاء الصغير محمد من دخول المدرسة لأن التعليم لم يكن اجباريا وقتئذ!

و لئن لم يثر تمدرس محمد و آسية أي إشكال نظرا للأسباب السالف ذكرها، فان دعوة محمد لدخول الجيش، و عزم آسية دخول القفص الذهبيّ، شكّل مأساة حقيقية لمحمد و آسية و عمي محرز أيضا!


بعد نصف ساعة من رجوعي الى البيت، و حين دخل عليّ رفيق، ابن خالتي كي يحيطني علما بان الأكل قد أصبح جاهزا، وجدني ابكي بحرارة:
حين سالني عن السبب.
قلت له بين زفيرين:
ـــ ابكي أمة ما زال معظمها في جهلهم يعمهون.
ـــ ...
ــ أمة تقيم الآدمي لا على أساس ما اظهره من علم وأدب وفنون بل
على أساس ما وارى الفستان و أخفى البنطلون!
أوسلو 17 جوان 2010