الرّعب..
لم أكن أتصور يوما أمر أمام قاعة السينما وأرى صورة فيلم معلقة على جدرانها، كم تمنيت أن أشاهده! فتحققت أمنيتي هذا اليوم؛ فقررت أن أسحب تذكارا لسهرة الليلة..
فيلم يحكي كيف تمت صناعة التاريخ وأبطاله الوهميين...
كان هذا لما أصدر أحد الكتاب كتابه.. فأثارت فرضيته زوبعة في ساحة "الكرونولوجيين"، وأصحاب التاريخ...
كنت أنتظر التاسعة ليلا في شوق وخيال واسع، كأنني في حلم أو رؤيا، يتصور في ذاكرتي ما قرأته عن هذا التاريخ.. وخيال ما سأشاهده الليلة...
وها الوقت حان، فوجدني في أول الطابور كأنني مشتاق لرؤية الحبيبة التي غابت عني كم مدة!
وبعد دقائق معدودات كنت مُستلقيا في مكاني.. والناس تملأ فراغ المقاعد شيئا فشيئا إلى أن امتلأت القاعة، وانطفأت الأضواء، ورُفع الستار عن الشاشة، وبدأت القصة...
عن يميني كان شاب يبدو أنه طالب جامعي، ذو قامة متوسطة، لا وسيما ولا قبيحا، تحسبه من أول نظرة إنسانا عاديا ومتواضعا.. وعن شمالي فتاة خفيفة الظل، حين جلست ألقت التحية بابتسامة كادت لا تفارقها كأنها تعرفني منذ فترة طويلة؛ ممشوقة القد، جمالها ليس سوى من صناعة التجميل كما لاحظت؛ أما هندامها أخبرني أنها من أسرة غنية..
عندما بدأ الشريط، انقطع حبل التفكير فيمن حولي، كما خيّم السكون على أجواء القاعة، ما عدا أصوات الأسنان حين تضغط على أنواع المأكولات، ودبيب الأرجل لمن تأخروا عن الموعد...
ركزت كل التركيز نظرا وسمعا على مجريات بداية الشريط حتى إلتوت يدي وأنا لم أشعر بأي شيء!.. وفي هذه اللحظة بالذات طلبت مني الفتاة أن أحفظ لها محفظتها حتى تعود من المرحاض؛ فلم أرفض، فقط طأطأت لها رأسي معلنا القبول حتى لا أشوش على الجمهور، وكي لا تفوتني لقطة تعكر علي صفوة الفهم...
لم أكن أحسب الوقت حتى عادت؛ بل نسيت أنها قد أمنتني على محفظتها! ما ذكرني جلوسها وهمستها: شكرا، قالتها باللغة الفرنسية بطريقة شاعرية رومانسية.. ابتسمتُ في نفسي، وتناسيت لأعيش لحظات القصة المرعبة...
بعد دقائق معدودات، خرجت، ولم أدر كم لبثت حتى عادت صحبة الشرطة.. -حينها كان الهجوم على الكاتب الذي قدم الحجج الدامغة على أن التاريخ مزور...- فانحنى إلى أذني مفتش الشرطة وأمرني بإتباعه!
خرجنا خارج القاعة، واستفسرته عن سبب هذا الإزعاج؛ فقال لي:
- في المخفر ستعرف معنى الإزعاج!
حملت لوحة الغموض في مُخيلتي، وسألت الله، سبحانه وتعالى، اللطف.. ومرّ علي الطريق من قاعة السينما إلى المخفر بمسامير تُطرق فوق رأسي؛ تارة أريد أن أصرخ: - ماذا فعلت يا إلهي؟!
وتارة أريد أن أسأل الفتاة:
- ماذا صنعت لك أختاه؟!
لكن الأنفاس كأنها تنقطع! أريد فقط أن أصرخ بكل ما أملك من قوة:
- ربّاه!..
كان حينها العرق يتصبب من جسدي صبّا؛ كأني محموم، أو أتقلب فوق الجمار.. وأنا على هذا الحال إلى أن وقفنا أمام الضابط.. فسألها:
- ما بك؟
- هذا الإنسان ظننت أنه من الثقاة فأمنته على محفظتي فخانني..
- ماذا تفقدين؟
- سوارا من ذهب، باهر الثمن! لأنه لإحدى نساء أحد الفراعنة.. وأربع مائة درهم.
التفت إلي قائلا:
- ماذا تقول فيما نُسب إليك؟
- ألم تر أنها تقول سوارا؟! ومن المفروض يجب أن يكون في المتحف بدل محفظتها! ألم تر..
أوقفني عن الكلام وقال:
- رُد علي سؤالي..
- هذا مجرد كذب، سيدي، لست بسارق..
أمر شرطيا لتفتيشي فوجد عندي أربع مائة درهم ورقا وبضعة دراهم معدودات! قام الضابط وصفعني حتى صارت الدنيا والمكان ظلاما دامسا في أعيني وقلبي.. وبصق في وجهي، وشتمني.. وهددني برد السوار في الحين...
حينها لم يكن في عقلي سوى كلام يدور، وأردده: " يا لهول الكارثةّ!"..
لم أدر متى تحولت إلى لص! ولا كيف قالت بمبلغ كان في حوزتي؟!...
وبينما أنا في ورطة، تارة يصفعني، وتارة يركلني، وتارة يشنقني بيده اليسرى حتى تكاد روحي أن تزهق! فيُكتب لي البقاء من جديد لأتعذب... حتى دخل أبوها.
ارتمت في حضنه وهي تشهق من البكاء؛ قبّلها وبدأ يمسح دموعها، وأخرج لها السوار من جيبه، والمبلغ المالي، وأخبرها أن أخاها الصغير أخرجهما من المحفظة لما كانت تستعد للمجيء إلى قاعة السينما؛ ثم أمرها أن تطلب مني السماح ففعلت...
لكن، كيف أسامح وأنفي وفمي ينزفان دما؟! كيف أسامح والآلام تنبض بحرارة؟!..
حط الضابط رأسه هنيهة، ثم رفعه ليوبخ الفتاة كأنه يريد أن يرد لي الاعتبار.. لكن، لم أبال لهذا الصنيع المصطنع! فقط كنت أريد الأمر بالفرج! لم أكن أدر أكنت أحبس أنفاسي طوعا أم كرها حتى لا أصرخ!..
ولما طال الحديث، طلبتُ من الضابط إمكانية الانسحاب؛ فقال لي:
- من حقك متابعة الفتاة في القضاء...
لم أدعه يُكمل سيمفونيته، وطلبتُ منه الانصراف دون متابعة...
تقدم أبوها نحوي وهو يقول:
- ابن حلال والله! سامحنا! سامحنا!..
لم أشأ إجابته، فقط أشرت إلى الضابط مرة أخرى بيدي إلى الباب..
عانقني أبوها وصافحني وأقسم حتى أذهب معهما إلى المنزل.. ربما الأيام تحوّلنا إلى أعز الأصدقاء.. رفضت؛ لكن الضابط قام هو الآخر واتجه نحوي ليُزكي الكلام... ولست أدري كيف قبلت الذهاب معهما بعد كل ما حصل؟!
وعندما خرجنا من المخفر رأيت الشاب الذي كان بجانبي.. أردت أن أنادي عليه لأسأله كيف انتهت القصة؛ لكني ارتبكت، وخفت من بلية أخرى أو نازلة؛ ففضلت الصمت..
ركبنا السيارة؛ وبدأت قصص الخيال المرعبة تموج في مُخيّلتي.. أريد النزول، أريد أن أفتح باب السيارة وارتمي! أريد أن أصرخ! غيوم تتكدس في عقلي.. فقط أنتظر المطر، أو ثلجا...
وأنا على حالي حتى دخلنا بيتا فاخرا، من البوابة الخارجية إلى البيت مسافة طويلة، كانت السيارة وحدها تشق الطريق لتنقص منها، ومسافة الخيال تزداد في نفسي...
جلسنا في غرفة مؤثثة بأثاث يسحر العيون؛ تركت البؤبؤ يجول بين الجدران والسقف والأرض.. وأقارنها بجدران بيتي وما يحويه.. وتنهشني مخالب الاستيقاظ فتدفعني لأصرخ بقوة! لكن حواجزا كانت تمنعني من الصراخ كرها...
كانت دقائق معدودات حتى جلسنا على مأدبة شاي وحلوى، لأول مرة في حياتي أرى مثلها، يقدمها لنا ذلك الشاب!.. هنيهة، وإذا برجل يلج الغرفة وفي يديه حقيبتين! يشبه ذلك الضابط!.. جلس معنا ونظر إلى أبي الفتاة:
- هل نبدأ؟
- بلى!
إي والله! صوته! كأنه هو.. انتفخ عقلي! ازداد نبض قلبي، زئبق الحرارة بدأ يتصاعد.. أشياء كثيرة كانت تمر في عقلي كأنها برق، وما يدور حولي رعد..
فتح الحقيبة الأولى وأخرج منها ملفا، ثم جواز سفر، وأنزله أمامي، وأمرني بالاطلاع عليه..
رباه! إنها صورتي، اسمي، تأشيرة إلى "لندن"، ومبلغا من "الجنيه الاسترليني".. اقشعر جلدي، ثقلت يدي! سأصرخ! لا! تمهل قليلا يا هذا! صبر جميل، والله المستعان.
- ما هذا؟!
رد علي:
- ستسافر في الصباح الباكر، ومتى تصل إلى "لندن" -عند خروجك من المطار-ستأتي عندك فتاة شقراء، فتقول لك كلمة السر التي سأقولها لك بعد قليل؛ اركب معها، ستوصلك إلى بيت، هناك سلم هذا الملف لصاحبه؛ وفي الغد يوصلوك إلى المطار..
ثم فتح الحقيبة الثانية، فكانت مملوءة بالأوراق النقدية، وقال لي عملك مقابل هذا المبلغ..
وقفت! وقلت لهم بشدة:
- دعوني أنصرف من فضلكم؟
وإذا بأربعة رجال غلاظ شداد يدخلون الغرفة، ثم وقفوا ينظرون إلي نظرة شزر، ويسحبون طرف معاطفهم ببطء لأرى المسدسات في غمدها.. وبعد ذلك قال:
- إيه! ماذا قررت؟
كنت سابحا في ماض من الزمان.. أمرر تلك الوجوه؛ سبق لي أن رأيتها؟! أين؟ متى؟... أطياف التذكر كانت تمر بسرعة فائقة.. ألله! تذكرت؛ الفتاة كانت تلاحقني! رأيتها مرة في مقهى "واشنطن"، ولكن بمجرد أن جلستْ نهضتُ بسبب مكالمة هاتفية، ولم أعد.. هكذا بدأتُ أسترجع الذاكرة شيئا فشيئا؛ وأتساءل مع نفسي لماذا أنا بالضبط؟!.. فأدركت أني في مأزق.. فكيف وأين المفر؟...
ثم كرر سؤاله:
- إيه! ماذا قررت؟
قفزت! وأدركوا أني كنت هائما وتجاوز عني.. تلعثم لساني قليلا، ثم طلبتُ كيف أضمن هذا المبلغ؟.. وفي نفسي أشياء أخرى تدور وتموج.. فرد علي:
- عندما نخرج من هنا خد معك المبلغ ونوصلك إلى أين تشاء إيداعه، ومن هناك إلى المطار.. فقبلت خوفا وإكراها.. فأشار بيده إلى الحراس فخرجوا؛ حينها كأني تنفست تنفس الصعداء...
بينما هو يشرح لي طريقة إخفاء الملف في الحقيبة، وكيف يتم إخراجه عندما أصل إلى هناك.. قمت بأقصى سرعة وارتميت من النافذة، فمزق جلدي الزجاج المتكسر؛ وعدوت نحو البوابة كأني بطل العالم في هذه المسافة؛ ودمي يتقاطر ليرسم طريق الفرار.. وأنا أعدو إذا بي أسمع النباح، التفت فأبصرت "الكلاب البوليسية" تلاحقني، رباه! ما هذا؟..
واصلت الجري والخوف يمزقني تمزيقا، إلى أن وصلت البوابة فتسلقت قضبانها، لكن ما أن كدت أنجو حتى عضني الكلب من قدمي، وبقيت معلقا بين الحديد وأسنان الكلب، والحرس يُسرع للقبض علي؛ فازداد ألمي.. واضطررت لأصرخ: ربّاه!..
صرخت بشدة، وكم كانت قوية وطويلة؛ على إثرها ردد الصدى صرختي وهي تتقاطع وتتلاشى..
حينها أفقت وأخرجت يدي ببطء من تحت جنبي!
بقلم: محمد معمري